تذكرة شهر رمضان المبارك
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله ربّ العالمين، وصلى الله على سيّدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين.
نحن في هذه الأيّام في أواخر شهر شعبان على قربٍ من شهر رمضان المبارك، ولذلك نذكر بعض التذكرة بهذه المناسبة.
إنَّ شهر رمضان هو شهر تزكية النفس وشهر العبادة وشهر التقرب من الله سبحانه وتعالى، وقد فتح الله سبحانه وتعالى فيه أبواب رحمته، وخصّ هذا الشهر بعطايا ونفحات، وجعل هذا الشهر الوقت الأمثل لسعي الإنسان إلى الصلاح والفلاح، وتغييره لنفسه.
وقد قدر سبحانه مدة الصيام شهراً رعاية للسنن النفسية فيما يحتاج إليه الإنسان لأجل إحداث تغيير في نفسه، حيث ذُكِرَ في الدراسات النفسيّة أنَّ الإنسان إذا أراد أن يُغيِّر عادةً ما فأقلّ ما يحتاج إليه هو أن يواظب على سلوكه ويراعيه لفترة شهر، فإذا أراد من هو معتاد على التدخين مثلاً أن يترك التدخين، فأقلّ ما يحتاج إليه هو أن يشدّ على نفسه لمدّة أربعة أسابيع أو شهر حتى يستطيع أن يقضي على هذه العادة الضارة.
ومن المعروف أنَّ تغيير العادات ليس سهلاً، كما أن كسب العادات الجيّدة الجديدة ليس بالأمر السهل، فالتنميّة النوعيّة للإنسان تحتاج إلى المواظبة والمراقبة والعناية لفترة، ولا تحصل بين عشيّةٍ وضحاها، فلا بدَّ أن يشدّ الإنسان على نفسه ولفترةٍ حتى يستطيع أن يُغيِّر في نفسه شيئاً.
وشهر رمضان هو موعد التغيير وموعد التزكيّة والإصلاح، وقد فرض الله فيه الصيام على الإنسان حتى يُسيطر الإنسان على رغباته المادّية أكثر، وتخفّ فيه هذه الرغبات، ويجد فراغاً من ضوضاء هذه الرغبات في النفس الإنسانيّة وهيمنتها عليها لكي يرجع إلى نفسه، ويرجع إلى مزيدٍ من استذكار الله سبحانه وتعالى والدّار الآخرة، وقد قال الله سبحانه وتعالى صريحاً في القرآن الكريم في آية الصيام: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}([1]).
فغاية الصيام هي التقوى والورع، والتخلّص من العادات والملكات السيئة ومن الأمور الذميمة، واستحصال الخصال الراقية، مثل التفكير بالنّاس الآخرين والشعور بمعاناتهم، فالحكمة في تخصيص هذا الشهر بالفضل وإيجاب الصيام فيه هي التنمية الراشدة للنفس الإنسانية.
والإنسان العاقل إذا أُمِرَ بشيء يلتفت إلى الحكمة فيه ويسعى إلى أن يحقّق هذه الحكمة، ولذلك يُنبّه في الروايات الشريفة على الحِكَم في الأحكام، فلقد فرض الله سبحانه وتعالى ـــ مثلاً ـــ الصلاة تحصيلاً للذكر والشكر وانتهاء عن الفحشاء عن المنكر، ونهى عن شرب الخمر تحصيناً للعقل والزكاة عوناً للفقراء، وهكذا الحال في سائر الأحكام.
إذاً شهر رمضان شهر مجعول لهذه الغاية، وهي تحصيل التقوى وتنميتها وهي كلمة جامعة لجميع معاني الرشد والتبصر والحكمة والفضيلة.
وقد خصّ الله سبحانه وتعالى هذا الشهر بليلة فريدة في أيّام السنّة، وهي ليلة القدر، لكي يتأمّل الإنسان تأمّلاً سنويّاً أمور سنته السابقة من جهةٍ، ويحصي على نفسه مواضع القصور والتقصير والتفريط، ويخطط لأمور سنته القادمة من جهة أخرى كي يتقي تلك المواضع ويسعى إلى الرقي والاستزادة، فهذه مناسبة لطيفة، وذلك تشريع لطيف وحكيم للغاية.
ليس من الصحيح أن يسترسل الإنسان طيلة السنة وينشغل دائماً دون توقف في ضوضاء الحياة والشهوات والرغبات والاجتماعات، وإذا به يقترب من الموت من غير أن يحاسب نفسه، بل يكون هناك موعد سنوي للمحاسبة ومقتضياتها، وهي ليلة القدر.
وللعقلاء نوعاً موعد سنوي لمحاسبة أمورهم فالتجّار والفلاحين والعمال عادةً يكون لهم يوم بالسنة يقدّرون فيها الربح والخسارة، فالتاجر النابه الذي يريد أن لا تختلط عليه الأمور يجعل لنفسه حساباً سنويّا، ولذلك وجب الخمس في السنة، لأنَّ السنة باختلاف فصولها من الشتاء والصيف والربيع والخريف، وتقلّبات الجو وتقلبات الأشجار والحيوانات وأمزجة النّاس، كلّ ذلك يوجب تفاوتاً في الحوائج وتنمية المال، فاقتضى أن يُرتَّب موعداً سنويّاً، حتّى يلاحظ ما حصل له في السنة ويخطّط لسنته المقبلة، فهذا شيء معقول ومفهوم وحكيم.
وكذلك يكون الحال في الجانب الأهم في حياة الإنسان وهو الجانب المعنوي والروحي، فلزم على الإنسان أن يكون له اهتمام سنوي محدد لتطهير نفسه وتأمّلها وتصفيتها بمقدار شهر من الأشهر الاثني عشر للسنة حتى لا يغفل بفعل تتابع الحوادث.
وقد جعل الله سبحانه في وسط ذلك ليلة القدر لتكون محفوفة بأجواء جادة ومناسبة للحساب والتقدير. وذلك أمر جيّد وحكيم.
لقد أراد الله سبحانه وتعالى من خلال شهر رمضان وفرض صيامه أن يُهيّئنا للقائه، ويوجّهنا إلى استحضاره، ويوفّر لنا أدوات الاستعداد للدّار الآخرة.
فعلينا أن ننتبه ونلتفت ونأخذ بالعظة وبالحكمة، ولا تغلبنا ضوضاء الحياة ودفؤها، فهذه الأجواء التي نشهدها في هذه الحياة والتي نشعر فيها بالدفء من النِعم التي أنعم الله سبحانه وتعالى بها علينا، سواء كانت نعمة السكن والأثاث وغيرها من مباهج الحياة ونعمة الأزواج والأولاد والأصدقاء والمجتمع العام، فهذه الأمور كلّها أمور مفارِقة، ولقاء بعضنا ببعض ـــ أيّاً كانت علاقاتنا ــــ هو لقاء مسافرين في مسافة من الطريق، ثُمّ يفترق كلُّ واحدٍ في طريقه، فالذي يكون قرين الإنسان بشكل دائم إنّما هو الله سبحانه وتعالى، فهو الذي لا يفارق الإنسانَ في خلوته وفي اجتماعه وفي جميع خطواته وأحواله ومراحل حياته، وهو قرين الإنسان عند الموت وبعده، وحتّى القيامة، كما أنّ ما يكون قرين الإنسان هو ما اشتمل عليه من خصاله الكريمة أو خصاله اللئيمة ـــ نعوذ بالله ــــ، والمحاسن أو المساوئ التي هي فيه، وأعماله التي اكتسبها، فهذه الأمور هي قرين الإنسان دائماً، وإنّما ينظر الله سبحانه وتعالى إلى شخصيّة الإنسان من خلالها، فعلينا أن نسعى في أن نطوّر أنفسنا في هذا الشهر الفضيل، ونسعى إلى تأمّل أحوالنا، ونستعدّ للقاء الله سبحانه وتعالى.
أتلو عليكم كلاماً لأمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام)، أورده السيد الشريف الرضي في نهج البلاغة في قسم الحكم والأقوال، وقال عنه: (لو لم يكن في هذا الكتاب إلّا هذا الكلام لكفى به موعظة ناجعة وحكمة بالغة وبصيرة لمُبصر وعبرة لناظر مفكّر)، وهو كذلك.
فلنستمع إلى كلام أمير المؤمنين (صلوات الله عليه).
قال (عليه السلام): (لَا تَكُنْ مِمَّنْ يَرْجُو الآخِرَةَ بِغَيْرِ عَمَلٍ، ويُرَجِّي التَّوْبَةَ بِطُولِ الأَمَلِ، يَقُولُ فِي الدُّنْيَا بِقَوْلِ الزَّاهِدِينَ، ويَعْمَلُ فِيهَا بِعَمَلِ الرَّاغِبِينَ، إِنْ أُعْطِيَ مِنْهَا لَمْ يَشْبَعْ وإِنْ مُنِعَ مِنْهَا لَمْ يَقْنَعْ، يَعْجِزُ عَنْ شُكْرِ مَا أُوتِيَ ويَبْتَغِي الزِّيَادَةَ فِيمَا بَقِيَ، يَنْهَى ولَا يَنْتَهِي ويَأْمُرُ بِمَا لَا يَأْتِي، يُحِبُّ الصَّالِحِينَ ولَا يَعْمَلُ عَمَلَهُمْ، ويُبْغِضُ الْمُذْنِبِينَ وهُوَ أَحَدُهُمْ، يَكْرَه الْمَوْتَ لِكَثْرَةِ ذُنُوبِه، ويُقِيمُ عَلَى مَا يَكْرَه الْمَوْتَ له([2])، إِنْ سَقِمَ ظَلَّ نَادِماً وإِنْ صَحَّ أَمِنَ لَاهِياً، يُعْجَبُ بِنَفْسِه إِذَا عُوفِيَ ويَقْنَطُ إِذَا ابْتُلِيَ، إِنْ أَصَابَه بَلَاءٌ دَعَا مُضْطَرّاً وإِنْ نَالَه رَخَاءٌ أَعْرَضَ مُغْتَرّاً، تَغْلِبُه نَفْسُه عَلَى مَا يَظُنُّ ولَا يَغْلِبُهَا عَلَى مَا يَسْتَيْقِنُ، يَخَافُ عَلَى غَيْرِه بِأَدْنَى مِنْ ذَنْبِه، ويَرْجُو لِنَفْسِه بِأَكْثَرَ مِنْ عَمَلِه، إِنِ اسْتَغْنَى بَطِرَ وفُتِنَ وإِنِ افْتَقَرَ قَنِطَ ووَهَنَ، يُقَصِّرُ إِذَا عَمِلَ ويُبَالِغُ إِذَا سَأَلَ، إِنْ عَرَضَتْ لَه شَهْوَةٌ أَسْلَفَ الْمَعْصِيَةَ وسَوَّفَ التَّوْبَةَ، وإِنْ عَرَتْه مِحْنَةٌ انْفَرَجَ عَنْ شَرَائِطِ الْمِلَّةِ، يَصِفُ الْعِبْرَةَ ولَا يَعْتَبِرُ، ويُبَالِغُ فِي الْمَوْعِظَةِ ولَا يَتَّعِظُ، فَهُوَ بِالْقَوْلِ مُدِلٌّ ومِنَ الْعَمَلِ مُقِلٌّ، يُنَافِسُ فِيمَا يَفْنَى ويُسَامِحُ فِيمَا يَبْقَى، يَرَى الْغُنْمَ مَغْرَماً والْغُرْمَ مَغْنَماً، يَخْشَى الْمَوْتَ ولَا يُبَادِرُ الْفَوْتَ، يَسْتَعْظِمُ مِنْ مَعْصِيَةِ غَيْرِه مَا يَسْتَقِلُّ أَكْثَرَ مِنْه مِنْ نَفْسِه، ويَسْتَكْثِرُ مِنْ طَاعَتِه مَا يَحْقِرُه مِنْ طَاعَةِ غَيْرِه، فَهُوَ عَلَى النَّاسِ طَاعِنٌ ولِنَفْسِه مُدَاهِنٌ، اللَّهْوُ مَعَ الأَغْنِيَاءِ أَحَبُّ إِلَيْه مِنَ الذِّكْرِ مَعَ الْفُقَرَاءِ، يَحْكُمُ عَلَى غَيْرِه لِنَفْسِه ولَا يَحْكُمُ عَلَيْهَا لِغَيْرِه، يُرْشِدُ غَيْرَه ويُغْوِي نَفْسَه، فَهُوَ يُطَاعُ ويَعْصِي ويَسْتَوْفِي ولَا يُوفِي، ويَخْشَى الْخَلْقَ فِي غَيْرِ رَبِّه ولَا يَخْشَى رَبَّه فِي خَلْقِه)([3]).
والحمد لله ربِّ العالمين، وصلّى الله على سيّدنا محمّد وآله الطيبين الطاهرين.
ونسألكم الدعاء.
[1])) سورة البقرة:183.
([2]) وفي نسخة أخرى: (مِنْ أَجْلِه).
[3])) نهج البلاغة (تحقيق صبحي الصالح): 497.