لا تعارض بين ضعف الأمة الإسلامية وهوانها وبين كونها أمة مرحومة، فهناك فرق بين كون الإسلام هو سبب الرحمة والسعادة، وبين كون الإنسان بفعله هو الذي يجلب لنفسه الشقاء.
فقول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (أمتي هذه أمة مرحومة) لا يعني أنها مرحومة حتى وإن لم تلتزم بالإسلام، وإنما الرحمة معلقة بمدى أيمان الأمة والتزامها، والذي يؤكد هذا المعنى هو قوله تعالى: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۗ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم ۚ مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ)، فهي خير أمة لأنها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله، أما الأمة العاملة بالمنكر والتاركة للمعروف لا يمكن أن تكون أمة مرحومة، وعليه كل ما تعاني منه الامة الإسلامية من أزمات ومصاعب وتحديات لا يتعارض مع كون الإسلام جاء رحمة لهذه الأمة.
وحتى نفهم الرحمة لابد أن نفهم معنى الحياة الدنيا، لأن معنى الرحمة يتحدد وفقاً لفلسفة الحياة والهدف منها، فلو أوجد الله الحياة بوصفها الجنة الأبدية للإنسان، ثم وعده ألا يصيبه فيها مكروه، كما وعد آدم عندما ادخله للجنة بقوله: (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَىٰ (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَىٰ) (119 طه). حينها نفهم الرحمة بالشكل الذي لا يكون معه عناء وتعب، وعندها لا يكون مطلوب من الإنسان العمل والكفاح من أجل العيش الكريم.
أما إذا كانت الحياة وجدت أساساً لاختبار الإنسان وامتحانه، فحينها سيكون العناء والابتلاء واحد من ضرورات الحياة الاختيارية للإنسان، ولا نعني أن الشقاء والعناء الذي يصيب الإنسان يكون على نحو الجبر والحتم، وإنما الإنسان باختياره يكون مسؤولاً عن كل ما يصيبه من شرور.
فالأصل أن الله خلق الإنسان ليرحمه قال تعالى: (إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ) وقال تعالى: (ورحمتي وسعت كل شيء)، وقال تعالى: (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ۗ وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ)، وعليه يمكننا أن نقول إن الإنسانية جميعها مرحومة.
ومضافاً لتلك الرحمة العامة التي تشمل جميع البشر، هناك رحمة خاصة بأمة محمد وهي الرحمة المتمثلة في الرسالة، قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ)، وعليه يجب أن فهم الأمة المرحومة ضمن هذا السياق، فكما أن الرحمة العامة لا تعني سلامة الإنسان من الشرور التي يصنعها بيديه، كذلك الرحمة الخاصة لا تعصم عن ذلك أيضاً.
ومن جهة أخرى فإن مظاهر رحمة الله ظاهرة حتى في وسط الازمات والتحديات، فنعم الله التي اصبغها على الإنسان ظاهرة وباطنة إلا أن البعض بنظرته المتشائمة يتغافل عن كل ذلك، فمن يعتقد بان الحياة كلها ظلام لا نور فيها إنما يرى ذلك من خلال منظار نفسه المظلمة قال تعالى: (كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِّنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا) أما الذين يرون النور في كل مكان هم الذين يعرفون رحمة الله وينعمون فيها قال تعالى: (وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) فالإنسان بنظرته المتفائلة أو المتشائمة هو الذي يحدد موقفه من الحياة، فالخطوة الأولى لسعادة الإنسان هو الاعتراف بمظاهر رحمة الله ومن ثم الاستعانة به لتجاوز ما يعتريه من مشاكل وتحديات، فبشكر الله يعزز الإنسان الإيجابيات، وبالتوكل عليه يتجاوز الإنسان السلبيات، والذي يجحد بكل ذلك فان حياته سوف تكون ضنكاً من العيش، قال تعالى: (فمن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى) والآية واضحة في كون المتسبب في الحياة الضنك هو الإنسان وذلك بإعراضه عن ذكر الله، ويبدو أن المقصود من الذكر هنا هو الاعتراف بنعم الله ورحمته، فمن تعامى عن النظر إليها في الدنيا سوف يكون حتماً اعمى عن رحمة الله يوم القيامة ولذا ختمت الآية بقوله (ونحشره يوم القيامة اعمى)، وبناءً على هذه الآية يمكننا القول أن السعادة يصنعها الإنسان لنفسه من خلال تركيزه على إيجابيات الحياة والرضا بما عنده من النعم أما الذي لا يرى إلا السلبيات ولا يرضى بما عنده من النعم فان النتيجة الطبيعية أن تكون حياته ضنكاً.
وفي المحصلة الإسلام سبب سعادة الإنسان في الدنيا والأخرة، والأمة التي تؤمن بالإسلام وتعمل بما فيه من تعاليم بالتأكيد أمة مرحومة.