ينشر موقع "الأئمة الاثني عشر" مقالاً جديداً لسماحة آية الله السيد محمد باقر السيستاني حول الاجتهاد في الدراسة مواجهة مغريات الترفيه والراحة التي تعرقل عادة عملية استحصال المعدلات الجيدة للطلبة.
أدناه نص المقال كما وردنا:
سؤال:
إنني طالب في أحد الصفوف الإعدادية: أتطلع إلى استحصال معدّل جيد وأنا ذو مستوى جيد لو اجتهدت في الدراسة إلّا أنني أحب الخروج من البيت وقضاء الوقت مع الأصدقاء وفي المقاهي، فما هو سبب هذه الحالة وعلاجها؟
بسمه تعالى
إن هناك عنصرين إيجابيين ـــ من عناصر الوعي الثلاثة ـــ في حالة السائل يساعدان على الحل:
أحدهما: ممارسة النقد الداخلي، وعدم تبرير السلوك، وهذا عنصر مهم من عناصر الوعي، فإنّ العائق الأهم الذي يبتلى به كثير من الشباب هو تبرير السلوك الذي يمارسونه بشكل مطلق بمختلف التبريرات والمعاذير، وهذا يغلق الباب أمام أيّ مسعى للتغيير نحو الأمثل، والحال في ذلك يشبه الحال في أي عارض سلبي يبتلى به الإنسان، فإنه إذا لم يذعن به الإنسان لا يستطيع من علاجه، فمن ابتلي بمرض لا يستطيع أن يسعى إلى العلاج إذا رأى نفسه صحيحاً، وكذلك من ابتلي بالكسل أو سوء الخلق أو ظلم الآخرين أو الإدمان المضر لن يستطيع أن يؤثر على نفسه إلا بعد أن يكتشف هذا الجانب السلبي في داخله، بل يصح القول على وجه عام إن نقد الذات ـــ لا في مستوى تحطيمها ـــ أساس كل ارتقاء للإنسان.
والعنصر الآخر: هو الاستشارة، وهي أول خطوة مبشّرة للسعي نحو التغيير، إذ يتجاوز فيه الإنسان مرحلة النقد إلى مرحلة البحث عن الحل، وهو عنصر آخر مهم من عناصر الوعي، لأنّ من الشباب المنتبهين في داخلهم إلى عدم كون سلوكهم ملائماً لمستقبلهم وتطلعاتهم الحقيقية يدفنون هذا الانتباه في داخلهم ولا يبذلون أيّ مسعى أو خطوة في هذا الاتجاه.
لكن بالرغم من هذين العنصرين الإيجابيين في مورد السؤال يبقى العنصر الأهم ــ من عناصر الوعي ــ هو الوعي في المستوى الباعث على العزيمة الجادة نحو التغيير.
ونعود للجواب عن السؤال:
فالسبب في السلوك الموصوف يعود إلى تمسك النفس بالأنس الحاضر الذي اعتادت عليه تدريجاً بالنظر إلى ما يوفره له من الشعور في حينه بالراحة والسعادة بدلاً عن العناء الذي يقتضيه الجهد الدراسي، رغم إقرار الشخص بأنّ بذل الجهد الذي تستوجبه الدراسة هو الخيار الأصلح بالنظر إلى المستقبل، إلا أنه تم تغييب النظر إلى المستقبل في المعادلة والموازنة بين الاهتمامات التي قدرها المرء لحياته.
والعلاج لمثل هذه الحالة يكون بخطوات:
١ ـــ تعميق الوعي.
وذلك بأن يبدأ الإنسان بلحظة تأمل في فراغ له مع نفسه ويجرد في ورقة نظام حياته ومستقبله خلال سنين بناء الإنسان لنفسه ولمستقبله الذي يتم عادةً خلال العشر إلى العشرين سنة المقبلة ثم ما بعدها وفق كلٍ من سيرته الحاضرة والمنهج البديل ويثبت إيجابيات وسلبيات كلٍ من السيرتين في نقاط.
ولتتضمن المحاسبة استحضاراً تفصيلياً دقيقاً وواقعياً وحياً لآفاق المستقبل ويستوضح ذلك بمقارنة نفسه مع الزملاء الجادين في حاضرهم ومستقبلهم.
وسوف يسجل بطبيعة الحال في هذه المقارنة انقضاء لحظات السعادة في المقهى ومع الأصدقاء دون مردود باقٍ لها بخلاف التفوق في الدراسة الذي يتوقع معه المستقبل الأمثل، وبذلك يتشجع الإنسان على نحو الخيار الأمثل.
وبهذه الخطوة يكون الإنسان قد أتم الحجة على نفسه.
2 ـــ المخاطبة الداخلية للنفس ـــ فيما يعرف بحديث النفس ـــ.
وتكون ذات شقين: العتاب، والبناء.
أ ـــ وليبدأ المرء بعتاب النفس عتاباً مريراً وقاسياً بعض الشيء في نقد داخلي من المرء لنفسه على الضعف والاستسلام للرغبات العابرة في مقابل صوت العقل وواعية المستقبل، وليستشعر الهوان والذلة وفقدان الرجولة في هذا الموقف الذي تغيب فيه العناصر الراقية من الحزم والعزم والإرادة والعقل ويغلب الانزلاق مع المشاعر العابرة كما يقع للمرء في مرحلة الصبا والمراهقة!!!
ب ـــ ثم ليكن الثناء على النفس لإعادة الثقة إليها وذلك بتذكير نفسه بأنه قادر على التغيير، فهو يملك التعقل والوعي والعزم والإرادة على إنجاز التغيير والتخلص من هيمنة العادة والرغبات العابرة على حساب المستقبل.
وليؤكد على نفسه القول في داخله (أنني قادر على أن أتجاوز مشاعري وأصغي إلى عقلي، ولا يليق بمثلي أن يصاب بمثل هذا الوهن والضعف في نفسه فضلاً عن أنه في مشهد الجميع).
٣ ـــ القرار الحازم.
ثم لينتفض ويتحزم ويشعر نفسه بأنه يعيش حالة التحدي في المغالبة بين الخلود إلى الراحة الحاضرة والاستماع إلى صوت العقل والمستقبل، وليستنهض العزيمة على التغيير.
وليقل: (كلا، من المستحيل أن أسمح لمشاعري أن تستدرجني وتضيع عمري).
وما رقى امرئ مراقي عالية إلا بالثبات والصبر، كما قال الشاعر:
لأستسهلن الصعب أو أدرك المنى *** فما انقادت الآمال إلا لصابر.
وقال الآخر:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم *** وتأتي على قدر الكرام المكارم
وإن شاء ترنّم بمثل هذه الأقوال في نفسه دائماً تقويةً لعزيمته واستحضاراً لنقاط قوته.
وليثق فعلاً أنه قادر على تغيير نفسه، فهو قد يجد مقاومة داخلية في البداية لمدة شهر إلى ثلاثة أشهر، كما يجده الطفل عند فطامه عن صدر أمه، لكنه سوف ينجز ذلك في النهاية، لكن الطفل ضعيف في إدراكه وإرادته لا يدرك صلاحه ولا يصبر لو ترك حراً عما اعتاد عليه، فلابد من تدخل الأم لأجل فطامه، وأما الإنسان الراشد فالمفروض أن يكون كامل الإدراك والإرادة.
٤ ـــ خطوات التغيير.
وبعد ذلك ليبدأ في اتخاذ خطوات جادة لتغيير سيرته وسدّ جميع الطرق الملهية مثل الاستغراق في متابعة مواقع التواصل والإدمان على الخروج مع الأصدقاء وصرف الوقت بالجلوس في المقاهي.
وليقيّم نفسه ـــ ولو بالمشورة ـــ في هذه المرحلة:
فإن وجد المرء عنفواناً من نفسه قادراً على التغيير الدفعي التام لسيرته فليتخذ قراره بذلك، وإلا فليعمل على التغيير التدريجي المنضبط بجداول وتوقيتات يضعها بالمشورة بتقليل مدة النشاطات اللاهية وزيادة الالتزام بالدراسة حتى يبلغ المستوى المطلوب.
وإن وجد أنه لا علاج لعدم الانزلاق إلى بعض العناصر المتلفة للوقت إلا بالإقلاع التام عنه من جهة حالة الإدمان عليها فليسعَ إلى ذلك.
٥ ـــ عناصر معينة على التغيير.
إن الوعي بالمستقبل يمكن أن يفي في العديد من الحالات بانبثاق الإرادة الكافية للتغيير، لكن يحتاج الإنسان في العديد من الحالات إلى تخفيف الضغوط النفسية الناشئة عن ترك السيرة المعتادة له من خلال الاستعانة بعدة عناصر، منها:
أولاً: توفير الأنس البديل عن الوجوه المعتادة بنشاطات ينفّس عن نفسه من خلالها لا تضرّ بمسيرته العلمية مثل الرياضات البدنية والاطلاع على القصص النافعة والمسلّية ومشاهدة روائع الخلق ونحو ذلك، وذلك ليسهل له ذلك ترك تلك الوجوه المعتادة، فإنّ الأنس يحل محل الأنس ولكن الأنس الجديد لا تتمسك به النفس تمسكها بالقديم الذي اعتادت عليه وتجذّر فيها.
ثانياً: أن يجعل مكافأةً دوريةً لنفسه على تغيير المسيرة بتوفير رغبات لها لم يكن يوفرها من سفرة ممتعة أو وجبة لذيذة، أو نحو ذلك، فلهذه المكافأة دور في تخفيف ضغوط النفس في التراجع عن القرار لصالح العادة السابقة حتى يخفّ زخمها.
ثالثاً: معايشة بيئة مختلفة ترفع من طموحه وتشد من عزيمته مثل مزيد الارتباط بأصدقائه الجادين الذين يقعون في موضع متقدم، والاهتمام فيما بينهم على المتابعة والتواصل.
وكذلك الاطلاع على أحوال وسيرة كبار العلماء والأطباء وما عانوه في مسيرتهم العلمية من قبيل التغرب عن البلاد والأهل لسنين عديدة، ومعايشة ظروف اجتماعية وأسرية، وليلاحظ إنجازاتهم العلمية والطبية، ويشتمل كتاب (هؤلاء في مرايا هؤلاء) سيرة بعض هؤلاء العلماء في العصر الأخير.
٦ ـــ المشاركة في القرار.
والمراد بها أن يشارك في قراره هذا شخصاً آخر إذا وجد حاجة إلى ذلك، وذلك بأحد نحوين:
أ ـــ أن يشارك في قراره زميلاً مقرباً منه وهو يعيش مثله حالته على أن يخوضا غمار التغيير معاً ويتواصلا فيما بينهما بالخطوات النافعة والمفيدة.
ب ـــ أن يجعل قراره في إطار تعهد لشخص آخر معنيٍّ به من أبٍ أو أخٍ أكبر أو صديقٍ حميم فيتعهد له ليساعده على تغيير مسيرته ويشرف عليه ويكون هو مسؤولاً أمامه.
٧ ـــ وقبل كل ذلك وبعده فإن للإنسان المؤمن أن يستعين بإيمانه بالله تعالى في إنجاز ما يصبو إليه من خير وصلاح، فهو سبحانه الذي أنعم عليه بالاستعداد المميز الذي يمكن أن يستثمره على وجه أمثل، والظروف الأسرية والإمكانات المالية التي يجدها، وليبدأ بشكر هذه النعم في نفسه كثيراً ودائماً، ويقارن نفسه بآخرين يفقدونها، ومع ذلك فإنّ فيهم من يكافح لبلوغ مراتب طموحة وعالية، فإنّ شكر النعمة ينميها.
وليسأله سبحانه أن يتولى أمره هذا وكل أموره في دينه ودنياه وآخرته، فهو أقدر منه على صلاحه، يملك من الأسباب ما لا يملكه غيره، ويعلم بمداخل للأمور والغايات لا يعلم بها أحد سواه، والأمور كلها طوع إرادته من حيث نعلم ونحتسب ومن حيث لا نعلم ولا نحتسب.
وله أن ينذر إن وفّقه الله سبحانه في تغيير مسيرته والتوفيق نحو ما يصبو إليه فسيكون وفياً لله سبحانه بالتعهد بالفرائض وتجنب المآثم بشكل عام وخصوص ما يكون مظنةً للوقوع فيه في مهنته، وإعانة الفقراء والضعفاء والإرفاق بهم بشكلٍ خاص.
هذا، وكان النظر في هذا الجواب إلى الحالة المعروضة في السؤال والحديث عنها كنموذج للحالات المماثلة والمشابهة، ولذلك ليصلح للانتفاع منه في عموم الحالات التي تتفق من هذا القبيل، والله سبحانه هو ولي التوفيق.