الضيف الكريم من الرحمن شهر رمضان على وشك الرحيل عنك عما قريب بعد ليالي قليلة، فالآن عليك تجديد التفكير عن معاملاتك بضيفك في الأيام الخالية منه بعدما نزل بك.
هل أمكنك أن تكون أفضل المستضيفين لهذا الضيف الذي ينزل بك مرة واحدة فقط في السنة بالقيام بكل تحضيرات مسبقة بتنقية قلبك بالتخلي عن الرذائل وتعميره بالتحلي بالفضائل ليسكن في مكامنه، هل اعتنقت به بكل حفاوة وحبور ملتزما بكل آداب ترحيبية، وهل كان قدومه أثار فيك مشاعر الحماسة والابتهاج في نفسك أم أورث في ضميرك مشاعر الضغوط النفسية والقلق كأنه يجعلك تضطر إلى الحمل بالأثقال.
أو أكان رمضانك هذا نسخة قديمة كغيره من الرمضانات السابقة لا شيء جديدا تقلب النهار والليالي فيه يوما تلو يوم كالعادة مهام بعد مهام أشغال بعد أشغال تعب فوق تعب لا تستطيع أن تقتطع بعضا من أوقاتك المشغلة للتكرس للعبادات، أو أكنت في تلك النخبة الجمهورية التي يأخذ بهم الحماسة وتمتلئ بطارية قلوبهم بشاحنة الإيمان بشكل مفاجئ بقدوم رمضان ويمنون نفوسهم كثيرا باغتنامه وإحيائه بكثرة الطاعات ويجتهدون في بدايته يكثرون من العبادات ثم يأخذ بهم الكسل والفتور تدريجيا حتى ينتهي رمضان وقد انخفضت طاقة بطارية قلوبهم وانحدرت منهم عناصر الحماسة وينتهي هذا المشهد وهم يتحسرون متذمرين بأن ظروفهم الحياتية هي التي أجبرتهم وألقت بهم إلى هذا الوضع المنكسر.
أو من تلك المجموعة التي كان إمساك صومهم كإمساك من يفعل ذلك لتخفيف وزنه أو طرد علله يمارسون الصلوات وسائر الشعائر جثثا هامدة منزوعة منها روح الإخلاص ينسحبون من جوهرها إلى هوامشها يقضون حياتهم متعودين على المعاصي غير متفرغين من التغافل عن التفاهات وصغائر الخصومات متسكعين في الأزقة والطرقات والأسواق ومدنسين بالمعصية في مستنقع الرذيلة وأوحال الانحطاط ولم يتأقلموا مع أجواء شهر رمضان.
وقفات تأملية
الآن عليك أن تلتفت إلى الوراء وأن تتفكر عن المكاسب التي حققتها في الأيام التي خلت من رمضان والخسائر التي لمست بك، وهذه نقطة إعادة النظر كيف غير رمضان في أنماط حياتك التقليدية المعتادة وفي أي حجم استشرى جذوره في أعماق قلوبك وكم حسنات جديدة أضفت إلى جدول أعمالك وأي سيئات قديمة ألغيت من قوائم حساباتك.
مع ذلك هذه هي محطة التفكير فهناك تنهال عليك سلسلة من التساؤلات: أترسخت تعاليم الصوم وتأثيراته في قلبك أو انعكست هي في أعمالك؟ أأقلعت نفسك من أن تتحسس طعنات الغدر والغليان؟ وهل أطلقت عنانها من قبضة سجانها في زنزانة الألم وتجليدها بسياط الندم؟ أأمكنك أن تغلق مدن أحقادك وأن تكبح وتلجم للعنصر الحيواني والشيطاني المتمرد فيك؟ أجعلك رمضان تتهيأ لتغفر للذين خذلوك وشوهوك واغتابوك يأكلون لحومك على غفلة منك؟ أتوقيت من أن يطلع بصرك إلى السوء أو تصغي بسمعك إلى اللغو والبذائة أو أن تمتد جوارحك إلى الذنوب فتقترفها وتتلبس بها؟
كيف كانت خلفية عباداتك هل أمكنك أن تؤديها وأنت تتذوق حلاوتها وتنتعش روحك بها وهل شعرت عبرها إحساسا غريبا وثقة عالية تدب في نفسك؟ أناديت ربك في جوف الليل متعطشا إلى رحمته تعد إليه حاجاتك كلها إحدى إثر إحدى متسولا له أن يحط عنك زلاتك وعثراتك ويحفك بالحسنات في حياتك الباقية؟ أأخذت الحيطة والجدية في تأدية السنن والرواتب اليومية؟ أتلوت القرآن وأنت تسرح في عالم معانيه الواسع بالتدبر والتفكر محافظا في تلاوته على الديمومة والاستمرارية، وهل استطعت أن تكمل قراءتك على الأقل ختما في غضون تلك الأيام المباركة الماضية عنك؟
أقمت بإفطار الصائمين اللذين لخلوفهم أحب إلى الرحمن من المسك؟ فإن فعلت هذا أكان إفطارك بالإخلاص وتصحيح النية وأنت محتسب من الله تعالى جزيل ثوابه لإفطار الصائمين أم للمباهاة والاستعلاء على الغير أو رياء؟ أتوخيت بمد أياديك السخية بالمساعدة والمساندة للفقراء والمساكين؟ أحرك رمضان في قلبك الانتماء لإخوانك المنكوبين والمعدومين الذين يعانون من الجوع والعطش والذين يتعرضون للنوائب والنكبات المروعة؟ هكذا هناك موجة من الأسئلة التي لا نهاية لها.
مأساة كارثية
وهذا مما يتفطر به قلوبنا أن شريحة جمهورية من الصائمين ينزفون معظم أوقاتهم النفيسة في رمضان منكبين أمام هواتف ذكية وحواسيب ولوحات إلكترونية متجولين بين منشورات وصفحات الوسائل الاجتماعية أكثر من غيره من الأشهر الأخرى بمجرد ملاحظة التغريدات والدردشات المتمركزة على الملذات الدنيوية والفضائح العشوائية وبيانات بدون فوائد حقيقية تذكر محفزين لمن ينهمكون في المشاركة بتلك الرسائل القبيحة بإلقاء مراسم الإعجاب والتعليقات والتعقيبات، ألا إن هذه وسائل التواصل الاجتماعي هي التي تتمثل عنصرا محوريا في اختفاء التواصل الحقيقي بين الإنسان والتواء الأفراد إلى عالمه الخاص من خلال شخصيته الإلكترونية.
والبعض يشغل أوقاته في مشاهدة المسلسلات والأفلام والبرامج الثقافية وغيرها بحجة مضي الوقت في نهار رمضان والتي تغير الفكر وتحرق الحسنات كما تأكل النار الحطب، والتي تجعلهم يتابعونها إلى حد الجنون وينجذبون في سلوك الممثلين والفنانين وتصرفاتهم ويتشبثون بذيولهم حتى على مستوى المأكل والملبس والفساد الأخلاقي الذي ينخر بمجتمعنا، ويتصبغون بصبغة سلوكياتهم ويتشبهون بثقافاتهم يقدمون هذا الشهر قربانا لهم حتى كأنهم يحسبون ويفهمون أن رمضان شهر اللهو واللغو وتضييع الأوقات وارتكاب الفحشاء.
والذي يجعل الأمر أكثر تعقيدا في رمضان أن هذه الوسائل الإعلامية قد صارت منصة لنشر الأكاذيب والأخبار الزائفة والشائعات والتكهنات التي تفتك بعرض الإنسان وتطيح بالقيم الأخلاقية والإنسانية بين المجتمعات الإسلامية، والكلام الذي لا يليق بأي إنسان يعتلي منابر الإعلام، ويتكلم كل بهدف استهداف الآخر والذي يبث سموم الحقد والكراهية بين أبناء الملة الواحدة، ويتسبب لشن حملات سخرية بينهم ولتبادل كلمات الشتائم والسباب.
ها هو ذا قد مرت بك مجموعة من الأيام والصيام من رمضان، ولا تبقى منها أمامك إلا قليلة، فعليك ألا تودعه خالي الوفاض.
*محمد سالم