على المُستوى اللغويّ والاصطلاحيّ هناكَ فرقٌ بينَ الفقهِ والرواية، فالفقهُ لُغةً هوَ مُطلَقُ الفهمِ والادراكِ، ومِن ذلكَ قولهُ تعالى: (قَالُوا يَا شُعَيبُ مَا نَفقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُول) أي لا نفهمُ كثيراً ممّا تقولُ، وبحسبِ الدلالةِ اللغويّةِ فإنَّ فقهَ الشريعةِ لا يكونُ خاصّاً بالأحكامِ الشرعيّةِ العمليّة، وإنّما يشملُ فهمَ جميعِ أبوابِ الشريعة، وهذا خلافُ الفقهِ بالمعنى الاصطلاحي حيثُ يرادُ منهُ فهماً خاصّاً وهوَ الفهمُ المُتعلّقُ بأحكامِ العباداتِ والمُعاملات، ولذا عُرّفَ الفقهُ في الاصطلاحِ بالقُدرةِ على استنباطِ الأحكامِ الشرعيّةِ مِن أدلّتِها التفصيليّة.
أمّا الروايةُ لُغةً فتعودُ إلى المصدرِ (رَوَى يَروِي)، وهيَ روايةُ الحديثِ وحملهُ ونقلهُ، ففي لسانِ العرب، يقالُ روى فلانٌ لفلانٍ شعراً بمعنى قالَه له حتّى أتمَّ حفظَه ليتمكّنَ منَ الروايةِ عنه، وجاءَ في المصباحِ المُنيرِ أن رويتُ الحديثَ يعني حملتُه ونقلتُه، أمّا الروايةُ في اصطلاحِ المُحدّثين: فهيَ نقلُ كلامِ المعصومِ وفعلهُ وتقريرُه، وإسنادُ كلُّ ذلكَ إليهم بصيغةٍ منَ الصّيغِ مثلَ حدّثنا وأخبرَنا وسمعُت ونحوها، ومنَ المُلاحظِ أنَّ معنى الروايةِ لُغةً يختلفُ عن معنى الحديثِ لغةً ومعَ ذلكَ فإنّهما يحملانِ معنىً مُترادفاً في الدلالةِ الاصطلاحيّة.
ومعَ وجودِ فرقٍ بينَ الفقيهِ والراوي لغةً واصطلاحاً، إلّا أنَّ أحدَهُما يمكنُ أن يُطلَق على مصداقِ الآخر، فيقالُ للفقيهِ مُحدّثٌ لاشتغالِه بعلمِ الحديثِ بالضرورة، ويقالُ للمُحدّثِ فقيهٌ لبلوغِه درجةً منَ العلمِ تمكّنُه مِن فقهِ الأحاديث، ولا يضرُّ ذلكَ وجودُ تباينٍ بينَ موضوعِ علمِ الحديثِ وموضوعِ علمِ الفقه؛ وذلكَ لأنَّ الغايةَ مِن هذهِ العلومِ واحدةٌ وهيَ فهمُ الشريعةِ الإسلاميّةِ على الوجهِ الذي أرادَه اللهُ تعالى، ومِن هُنا فإنَّ علماءَ الإسلامِ علماءٌ في الفقهِ والعقائدِ وعلومِ التفسيرِ والحديثِ والأخلاقِ حتّى وإن كانَ أحدُهم مُبرزاً في جانبٍ أكثرَ منَ الجوانبِ الأخرى، وعلى ذلكَ لا يجوزُ حملُ الأحاديثِ التي أمرَت بالرجوعِ إلى رواةِ الأحاديثِ إلى مَن ينقلُ أحاديثَهم دونَ أن يكونَ له فهمٌ ودرايةٌ بما فيها مِن أحكام، فالتوقيعُ الذي خرجَ منَ الناحيةِ المُقدّسةِ والذي جاءَ فيه: (وأمّا الحوادثُ الواقعةُ فارجعُوا فيهَا إلى رواةِ حديثِنَا ، فإنّهُم حُجّتِي عليكُم وأنا حُجّةُ اللهِ) فالمقصودُ (برواةِ حديثِنا) العلماءُ الذينَ انقطعوا للأئمّةِ مِن أهلِ البيتِ (عليهم السلام) في فقهِهم ولم يخلطوا ذلكَ بما هوَ موجودٌ في أيدي المُخالفينَ لهم، وبذلكَ يكونُ الفقهاءُ بأحاديثِ أهلِ البيتِ (عليهم السلام) هُم المقصودينَ بضرورةِ الرجوعِ إليهم وأخذِ الأحكامِ منهُم وليسَ مُجرّدَ الرواةِ الذينَ ينقلونَ الرواياتِ، يقولُ صاحبُ الجواهرِ تعليقاً على هذا الحديث: (إنَّ المُرادَ بما في التوقيعِ مِن رواةِ حديثِنا الإشارةُ إلى الفقيهِ المزبور، لا مُطلَقُ الراوي لحديثِنا وإن لم يكُن فقيهاً ذا بصيرةٍ فيها عارفاً عامَّها وخاصَّها ومُطلقَها ومُقيّدَها وناسخَها ومنسوخَها وغير ذلك ممّا أشاروا عليهم السلام إليه).
ويقولُ المُحقّقُ النراقي: (الظّاهرُ المُتبادَرُ منهُ: الرّاوي للحديثِ، المُستنبِطُ المُستخرِجُ منهُ الأحكامَ على الطّريقِ الذي ارتضاهُ الشّارعُ وأمرَ بهِ، لا مُطلقاً). (مستندُ الشيعة ج 17، ص 25)
ويقولُ السيّدُ الخوئي: (وأظهرُ مِنهَا قوله (عليهِ السّلامُ) في روايةِ إسحاقَ بنِ يعقوبَ: «وأمّا الحوادثُ وذلكَ لأنَّ الحوادثَ الواقعةَ قَد لا تكونُ مَنصوصةً فلا يُمكِنُ أن يُجابَ فيهَا إلَّا بالاجتهادِ وإعمالِ النّظر. وأمّا التّعبيرُ فيهَا برواةِ الحديثِ دونَ العلماءِ أو الفقهاءِ، فلعلَّ السّرَّ فيهِ أنَّ عُلماءَ الشّيعةِ ليسَ لهُم رأيٌ مِن عندِ أنفسِهِم في قبالِ الأئمّةِ (عليهمُ السّلامُ) فإنّهُم لا يَستندونَ إلى القياسِ والاستحسانِ والاستقراءِ النّاقصِ وغيرِ ذلكَ مِمَّا يَعتمدُ عليهِ المخالفونَ، وإنّمَا يُفتونَ بالرّواياتِ المأثورةِ عنهُم (عليهمُ السّلامُ) فهُم في الحقيقةِ ليسُوا إلَّا رواةَ حديثِهِم). (شرحُ العروةِ الوثقى، ج1، ص 71)