لا نذهب بعيداً، فقوّات المقاومة التي تدافع دائما وبشدّة ضدّ العدوّ تزداد قوّة يوما بعد آخر ..
والقادة والجنود المدرّبون الأقوياء هم الأشخاص الذين يقاتلون الأعداء بعنف في المعارك الكبيرة.
والسياسي المحنّك القوي هو الذي يتمكّن في الأزمات السياسيّة الشديدة أن يتصدّى للأعداء الأقوياء ويتغلّب عليهم.
وأبطال المصارعة الكبار هم الذين نازلوا مصارعين أقوياء أشدّاء، إذن فلم العجب من أنّ عباد الله الكبار بجهادهم المستمر المرير ضدّ الشيطان، يصبحون أقوياء يوما بعد آخر.
فعلماء اليوم قالوا بشأن فلسفة وجود الميكروبات: لو لا وجود هذه الميكروبات لكان جسم الإنسان ضعيفا عديم الإحساس، ويحتمل أيضا توقّف نمو الإنسان بسرعة بحيث لا يتجاوز طوله الثمانين سنتيمترا، ولكان جميع البشر على شكل أقزام صغار، وبهذا الشكل فإنّ مبارزة جسم الإنسان للميكروبات المهاجمة تعطيه قوّة وقدرة على النمو.
وكذلك الحال بالنسبة إلى روح الإنسان في جهادها ضدّ الشيطان وهوى النفس.
وهذا لا يعني أنّ الشيطان مكلّف بإغواء عباد الله، فالشيطان كان طاهرا في بداية خلقه، كبقيّة الموجودات، ولكن الانحراف والانحطاط والتعاسة التي أصيب بها إنّما كان برغبته وإرادته، وبهذا فإنّ البارئ عزوجل لم يخلق إبليس منذ اليوم الأوّل شيطانا، وإنّما إبليس هو الذي أراد أن يكون شيطانا، وفي نفس الوقت فإنّ ممارساته الشيطانية لا تجلب الضرر لعباد الله المخلصين إطلاقا، بل قد تكون سلّما لرقيّهم وسموّهم.
وفي النهاية يبقى هذا السؤال: لماذا تمّت الموافقة على طلبه في البقاء حيّا، ولماذا لم يهلك في تلك اللحظة؟جواب هذا السؤال هو ما ذكرناه أعلاه، وبعبارة اخرى:
إنّ عالم الدنيا هذا هو ساحة للاختبار والامتحان (الاختبار الذي هو وسيلة لتربية وتكامل الإنسان) وكما هو معروف فإنّ الاختبار لا يتمّ من دون مواجهة عدو شرس ومجابهة مختلف أنواع الأعاصير والمشاكل.
وبالطبع، إن لم يكن هناك شيطان، فإنّ هوى النفس ووساوسها هي التي تضع الإنسان في بودقة الاختبار، ولكن حرارة هذه البودقة تزداد بوجود الشيطان، لأنّ الشيطان سيكون في هذه الحالة العامل الخارجي المؤثّر على الإنسان، وهوى النفس والوساوس ستكون العامل الداخلي.
نيران الأنانية والغرور تحرق رأسمال الوجودمن الأمور الحسّاسة جدّا التي تلفت النظر في قضيّة طرد إبليس من رحمة الله، هو مدى تأثير عاملي الأنانية والغرور على سقوط وتعاسة الإنسان، إذ يمكن القول بأنّهما من أهمّ وأخطر عوامل الانحراف. وقد تسبّبا ـ في لحظة واحدة ـ في هدم عبادة ستّة آلاف سنة، وإنّهما كانا السبب وراء تدنّي موجود كان في صفّ ملائكة السماء الكبار إلى أدنى درجات الشقاء، ويستحقّ لعنة الله الأبدية.
الأنانية والغرور يحجبان الحقيقة عن بصر الإنسان، فالأنانية مصدر الحسد، والحسد مصدر العداوة والبغضاء، والعداوة والبغضاء سبب إراقة الدماء وارتكاب الجرائم.
الأنانية تدفع الإنسان إلى الاستمرار في ارتكاب الخطأ، وتحبط ـ في نفس الوقت ـ مفعول أيّ عامل للصحوة من الغفلة، أي تحوّل بين ذلك العامل وبين الإنسان.
الأنانية والعناد يسلبان فرصة التوبة وإصلاح الذات من الإنسان، ويغلقان أمامه كلّ أبواب النجاة، وخلاصة الأمر فإنّ كلّ ما نقوله حول خطر هذه الصفات القبيحة والمذمومة يعدّ قليلا.
وكم هو جميل قول أمير المؤمنين عليهالسلام : «فعدو الله إمام المتعصّبين، وسلف المستكبرين، الذي وضع أساس العصبية، ونازع الله رداء الجبرية، وادّرع لباس التعزّز، وخلع قناع التذلّل ألا ترون كيف صغّره الله بتكبّره؟ ووضعه بترفّعه؟ فجعله في الدنيا مدحورا، وأعدّ له في الآخرة سعيرا». (١)
*آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي – مرجع ديني
(١) نهج البلاغة، الخطبة ١٩٢ المعروفة بالقاصعة.