وقد وردت النصوص الشريفة عن المعصومين (صلوات الله عليهم) استحباب إحياء هذه الليلة العظيمة بتلاوة آيات من الذكر الحكيم وزيارة المشاهد المشرفة لقبور أهل البيت (عليهم السلام) لا سيما قبر الإمام الحسين (عليه السلام)، ففي الروايات الكثيرة انه اذا كانت ليلة القدر التي يفرق فيها كل امر حكيم، ينادي مناد من بطنان العرش الى السماء السابعة: ان الله عزوجل قد غفر لمن أتى قبر الحسين عليه السلام.
غير أن هذه الليلة المباركة قد أخفاها الله تعالى، ولذا هي تطلب في ليلتين أو ثلاث ليالٍ، فعن القاسم بن محمد، عن علي، قال كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) فقال له أبو بصير ما الليلة التي يرجى فيها ما يرجى قال في إحدى وعشرين أو ثلاث وعشرين. قال فإن لم أقو على كلتيهما قال ما أيسر ليلتين فيما تطلب قال قلت فربما رأينا الهلال عندنا، وجاءنا من يخبر بخلاف ذلك في أرض أخرى فقال ما أيسر أربع ليل تطلبها فيها قلت جعلت فداك، ليلة ثلاث وعشرين ليلة الجهني فقال إن ذلك ليقال. قلت جعلت فداك، إن سليمان بن خالد روى في تسع عشرة يكتب وفد الحاج. فقال لي يا أبا محمد، يكتب وفد الحاج في ليلة القدر، والمنايا والبلايا والأرزاق، وما يكون إلى مثلها في قابل، فاطلبها في إحدى وثلاث، وصل في كل واحدة منهما مائة ركعة، وأحيهما إن استطعت إلى النور.
لماذا لم تحدد ليلة واحدة؟والسؤال هنا لماذا لم يحدد الإمام (عليه السلام) للسائل في أي ليلة من شهر رمضان هي ليلة القدر على الرغم من إلحاح السائل؟
لعلنا نقتنص الإجابة من خلال بعض القرائن التي تحيط بأجواء الروايات الواردة بهذه المسألة فنخرج بنتيجة مفادها:
يمكن أن يكون تعمد الإبهام راجع الى توجيه الناس حول الاهتمام بمجموع تلك الليالي المباركة، مما يعني أنها ستحيا جميعها بالتلاوة والأذكار والصلوات وهي عين ما يطلبه المولى عزوجل حيث دلت آيات الذكر الحكيم على أن العبد لا بد أن يلتجأ الى الله تعالى في السراء والضراء.
وقد يقال مع هذا الذي تقدم إلا أنه ليس سبباً كافياً لإخفاء هذه الليلة، فالدعاء مستحب على أي حال.
يمكن القول إن الله تعالى كما قد أخفى غضبه في مجموعة من المعاصي ليتجنب الناس جميع أنواع المعاصي، حتى ورد (لا تنظر إلى صغر الخطيئة ولكن انظر إلى من عصيت)، وكما أن الأولياء قد أخفاهم الله بين العباد حتى يكون جميع العباد لهم حرمة، وكما أخفى الآجال فلا يدري المرء متى تحين ساعته الغرض منه أن يكون مترقباً للموت في أي لحظة ومكان، فكذلك أخفى تلك الليلة بين مجموعة من الليالي ليطلبها العباد طلباً حثيثاً ويجتهدوا فيها في التلاوة والذكر والصلاة، لأن الناس لو علموا فضل هذه الليلة وأثرها التكويني على مستقبلهم لاستسهلوا طلبها في عموم السنة لا في ليلتين أو ثلاث.
فأما عن الأثر التكويني المترتب على هذه الليلة فقد ورد عن حُمْرَانَ أَنَّهُ سَأَلَ أَبَا جَعْفَرٍ (الباقر) (عليه السلام) عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ ...).
قَالَ : "نَعَمْ لَيْلَةُ الْقَدْرِ، وَ هِيَ فِي كُلِّ سَنَةٍ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ ، فَلَمْ يُنْزَلِ الْقُرْآنُ إِلَّا فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ . قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) قَالَ: يُقَدَّرُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ كُلُّ شَيْءٍ يَكُونُ فِي تِلْكَ السَّنَةِ إِلَى مِثْلِهَا مِنْ قَابِلٍ خَيْرٍ وَ شَرٍّ، وَ طَاعَةٍ وَ مَعْصِيَةٍ، وَ مَوْلُودٍ وَ أَجَلٍ أَوْ رِزْقٍ . فَمَا قُدِّرَ فِي تِلْكَ السَّنَةِ وَقُضِيَ فَهُوَ الْمَحْتُومُ وَلِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ الْمَشِيئَةُ ".
قَالَ قُلْتُ: (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) أَيُّ شَيْءٍ عُنِيَ بِذَلِكَ؟
فَقَالَ: "الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا مِنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَأَنْوَاعِ الْخَيْرِ، خَيْرٌ مِنَ الْعَمَلِ فِي أَلْفِ شَهْرٍ لَيْسَ فِيهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ، وَلَوْ لَا مَا يُضَاعِفُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِلْمُؤْمِنِينَ مَا بَلَغُوا، وَلَكِنَّ اللَّهَ يُضَاعِفُ لَهُمُ الْحَسَنَاتِ بِحُبِّنَا".
وأما عن فضل العمل فيها فقد ورد عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ع قَالُوا قَالَ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا قَالَ وَلَا أَعْلَمُهُ إِلَّا سَعِيداً السَّمَّانَ كَيْفَ يَكُونُ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْراً مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ قَالَ الْعَمَلُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْعَمَلِ فِي أَلْفِ شَهْرٍ لَيْسَ فِيهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ.