فإذا كانت علاقة التبادل في التأثر والتأثير بين النفس وأفعالها الخيّرة، أوجب ذلك ارتقاء النفس نحو الحق ومعرفته، وعلى العكس تماماً لو كان التبادل بينه وبين فعل السوء، فإنه يوجب انحدارها إلى العمى، وكلما تزايد التفاعل تزايد الرقي في الكمالات، أو الانحدار في العمى.
ومن النصوص المشيرة لما ذكرنا، ما رواه ابن عباس، عن النبي الأكرم محمد (ص)، قال: حججنا مع رسول الله (ص) حجة الوداع، فأخذ بحلقة الكعبة، فقال: ألا أخبركم بأشراط الساعة؟ وكان أدنى الناس يومئذٍ منه سلمان (ره)، فقال: إن من أشراط الساعة إضاعة الصلاة، وإتباع الشهوات، والميل مع الأهواء، وتعظيم المال، وبيع الدنيا بالدين.
ثم قال: إن عندها يكون المنكر معروفاً، والمعروف منكراً، ويؤتمن الخائن، ويخون الأمين، ويصدّق الكاذب، ويكذّب الصادق.
ثم قال: فعندها إمارة النساء، ومشاورة الإماء، وقعود الصبيان على المنابر، ويكون الكذب ظرفاً، والزكاة مغرماً، والفيء مغنماً، ويجفو الرجل والديه، ويبرّ صديقه.
ثم قال: فعندها يكتفي الرجال بالرجال، والنساء بالنساء، ويغار على الغلمان كما يغار على الجارية في بيت أهلها، ويشبّه الرجال بالنساء، والنساء بالرجال، ويركبن ذوات الفروج السروج، فعليهن من أمتي لعنة الله.
ثم قال: إن عندها تزخرف المساجد كما تزخرف البيع والكنائس، وتحلى المصاحف، وتطوّل المنارات، وتكثر الصفوف والقلوب متباغضة، والألسن مختلفة.
ثم قال: فعند ذلك تحلى ذكور أمتي بالذهب، ويلبسون الحرير والديباج، ويتخذون جلود النمر صفاقاً.
ثم قال: فعندها يظهر الربا، ويتعاملون بالغيبة والرشا، ويوضع الدين، وترفع الدنيا.
ثم قال: وعندها يكثر الطلاق، فلا يقام لله حد، ولن يضر الله شيئاً. ثم قال: وعندها حج أغنياء أمتي للنـزهة، ويحج أوساطها للتجارة، ويحج فقراؤها للرياء والسمعة، فعندها يكون أقوام يتعلمون القرآن لغير الله، فيتخذونه مزامير، ويكون أقوام يتفقهون لغير الله، ويكثر أولاد الزنا يتغنون بالقرآن ويتهافتون بالدنيا. ثم قال: وذلك إذا انتهكت المحارم، واكتسب المآثم، وتسلط الأشرار على الأخيار، ويفشو الكذب، وتظهر الحاجة، وتفشي الفاقة، ويتباهون في الناس، ويستحسنون الكوبة والمعازف، وينكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. إلى أن قال: فأولئك يدعون في ملكوت السماء الأرجاس الأنجاس[1].
فإن الظاهر منه ترتب بعض الذنوب على بعض، وهو يشير بهذا إلى قانون إلهي عام، وهو تفاعل النفس مع الخطيئة تأثراً وتأثيراً. ويشير لذلك أيضاً ما ورد عن الإمام الباقر(ع)، بقوله: ما من شيء أفسد للقلب من خطيئة، إن القلب ليواقع الخطيئة فما يزال به حتى يغلب عليه، فيصير أعلاه أسفله[2].
ثبوت التأثير لمطلق الأفعال الإنسانية
وربما يعتقد البعض أن العلاقة التبادلية الثابتة بين النفس الإنسانية والأفعال الصادرة عن الإنسان مختصة ببعض الأحكام الإلزامية التي تصدر عنه، وهي خصوص المحرمات، ليكون الأثر المترتب منحصراً في الذنوب والمعاصي، بحيث إذا ارتكب الإنسان حراماً ذنباً ومعصية، ترك ذلك أثره على النفس وإلا فلا.
وهو تصور خاطئ، لأن الآثار المترتبة على النفس الإنسانية لا تختص بالمحرمات من الأحكام الإلزامية، بل يشمل ذلك الواجبات منها أيضاً، بل مطلق الأحكام الشرعية، من المكروهات، والمستحبات، ويساعد على ذلك النصوص الشريفة، فقد جاء في علة وجوب الصلاة، عن هشام بن الحكم قال: سألت أبا عبد الله (ع) عن علة الصلاة فإن فيها مشغلة للناس عن حوائجهم، ومتعبة لهم في أبدانهم، قال: فيها علل، وذلك أن الناس لو تركوا بغير تنبيه ولا تذكر للنبي (ص) بأكثر من الخبر الأول وبقاء الكتاب في أيديهم فقط لكانوا على ما كان عليه الأولون فإنهم قد كانوا اتخذوا ديناً ووضعوا كتاباً ودعوا أناساً إلى ما هم عليه وقتلوهم على ذلك، فدرس أمرهم، وذهب حين ذهبوا، وأراد الله تبارك وتعالى أن لا ينسيهم أمر محمد(ص) ففرض عليهم الصلاة يذكرونه في كل يوم خمس مرات، ينادون باسمه وتعبدوا بالصلاة، وذكر الله لكيلا يغفلوا عنه وينسوه فيندرس ذكره.
ويمكن أن يشير لهذا المعنى النصوص التي تضمنت بعض الآثار المترتبة مثلاً على وقت إيقاع العقد، وما يكون لذلك من أثر على الولد، بل يمكن أن يجعل ما ذلك النصوص التي تحدثت عن الآثار المترتبة على بعض المستحبات كتسبيحة السيدة الصديقة الزهراء(ع)، وغيرها.
ولعل التركيز على مخالفة الأحكام الإلزامية بفعل المحرمات يعود لكونها الصورة الواضحة لترتيب الآثار الوضعية والتكوينية على النفس، وإبراز عنصر التفاعل بينهما، ودور الذنوب في انتكاس النفس وهويها في الضلال والعمى.
آثار الذنوب
للذنوب آثار سيئة يظهر بعضها في عالم الدنيا، ويظهر البعض الآخر في عالم الآخر، والظاهر أن آثار عالم الآخرة تبدأ من أول محطات الخروج من الدنيا، وذلك عند نزع الروح وقبضها بغلظة من أعوان ملك الموت على الإنسان، قال تعالى:- (فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم)[3].
ولو لم يكن للذنوب أثر إلا طريقة لقاء ملك الموت لكفى ذلك رادعاً عنها، فكيف مع استمرار آثار السوء لآلاف السنين، جاء في الخبر أن إبراهيم(ع) قال لملك الموت: هل تستطيع أن تريني صورتك التي تقبض بها روح الفاجر؟ قال: لا تطيق ذلك، قال: بلى، قال: فأعرض عني، فأعرض عنه، ثم التفت فإذا هو برجل قائم الشعر، منتن الرائحة، أسود الثياب، يخرج من فيه ومناخره لهيب النار والدخان، فغشي على إبراهيم، ثم أفاق، فقال: لو لم يلق الفاجر عند موته إلا صورة وجهك لكفى[4].
آثار الذنوب في الدنيا
ويمكن تقسيم آثار الذنوب التي تظهر في الدنيا إلى قسمين:
الأول: ما يظهر في الدنيا وهو مع ذلك يسبب خسارة الآخرة، لأنها تؤثر على الهداية وتوجب الضلال فكراً أو عملاً أو كليهما.
الثاني: ما ينحصر آثاره بخصوص عالم الدنيا، ولا ربط له بالخسارة في عالم الآخرة، فهي تؤثر في اضطراب القلب وسلب حالة الاطمئنان، وتؤثر سلباً على الرزق.
ويمكن تقسيمها من حيث الآثار بصورة أخرى إلى ثلاثة أقسام:
الأول: ما يترتب على العمل بغض النظر عن تعلق الحكم الشرعي به، يعني ما يترتب حتى مع فرض عدم وجود حكم شرعي متعلق بهذا الفعل، فتعلق الحكم لم يساهم في تحقق هذا الأثر.
ويدخل في هذا القسم كل الآثار التي ذكرتها النصوص بعنوان العلة أو الحكمة للحكم بالحرمة أو الكراهة، أو غيرهما، ومن ذلك ما جاء عن أبي عبد الله(ع) قال: قال أمير المؤمنين(ع): إذا اشترى أحدكم اللحم فليخرج منه الغدد فإنه يحرك الجذام[5]. فإن تحريك الغدد للجذام عند أكلها ليس مترتباً على حكم الشارع المقدس بحرمة أكلها بثبوت ذلك الأثر وإن لم يكن في البين تشريع بحرمتها، أو بخصوص أي شيء آخر، ولأجل أن يدفع هذا الأثر عن المكلفين منع الشارع من أكلها بنحو الحرمة.
وسواء كان الأثر المترتب على الفعل علة أو حكمة للحكم الشرعي فإنه يشكل داعياً لتشريع الحكم في مورده بالحرمة، ومن الواضح أن الداعي لابد وأن يتقدم على المدعو له والذي هو الأثر بحسب الفرض.
الثاني: ما يترتب على العمل لاتصافه بالحرمة، أو لعروض الحكم بالحرمة عليه، فالعمل بما أنه مخالفة شرعية يترتب عليه ذلك الأثر ولا ربط له بنوعية العمل الذي تعنون بعنوان المخالفة أو المعصية، فهذا الأثر دائر مدار العنوان وهو المعصية، وليس دائراً مدار المعنون وهو ذات العمل بدون عنوان المعصية، ويدخل تحت هذا القسم على الظاهر كل الآثار العامة للذنوب، أي كل أثر قامت الأدلة على ترتبه على عامة الذنوب، لأن من المستبعد أن توجد جهة اشتراك في جميع المحرمات غير كونها معصية أو ما يرجع لكونها كذلك.
الثالث: ما يترتب على الفعل بما أنه معصية مع كونه فعلاً خاصاً، فيكون لخصوصية الفعل دخل في الأثر كما أن لعنوان المعصية والمخالفة الشرعية دخلاً على وجه اشتراك كل منهما في ذلك الأثر، فهو لا يترتب على مجرد اتصاف الفعل بأنه معصية ولا على مجرد أنه الفعل الخاص، بل لابد من اجتماعهما معاً ليترتب عليهما[6].
الأدلة العامة للآثار التكوينية للذنوب
وقد تضمنت الأدلة الدينية مجموعة من الآيات القرآنية والروايات الواردة عن المعصومين (ع)، تدل على ترتب آثار تكوينية وضعية على الذنوب من دون تحديد فيها لنوع الذنب، ولا لنوع الأثر المترتب أو تشخيصه، كما تضمنا أيضاً عرضاً لآثار جملة من الذنوب والمعاصي، فهنا طائفتان من الأدلة:
الطائفة الأولى: ما دل على ثبوت الأثر التكويني لمطلق الذنب من دون تشخيصه:
وهي كثيرة نشير لبعضها:
الكتاب العزيز:
فقد احتوى الكتاب الكريم على العديد من الآيات التي تشير إلى ذلك نشير لبعضها:
منها: قوله تعالى:- (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير)[7].
ومنها: قوله سبحانه:- (ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون)[8].
ومنها: قوله عز من قائل:- (ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريباً من دارهم حتى يأتي وعد الله إن وعد الله لا يخلف الميعاد)[9].
ومنها: قوله تعالى:- (فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيراً من الناس لفاسقون)[10].
ومنها: قوله سبحانه:- (وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا)[11].
ويمكن عدّ جميع الآيات التي تضمنت حديثاً عن ما حل في الأمم السابقة جراء تكذيب الأنبياء والمرسلين(ع) من مصاديق ذلك أيضاً.
السنة الشريفة:
وأما من السنة الشريفة، فهناك نصوص عديدة أيضاً في هذا المجال، نشير لبعضها:
منها: ما جاء عن رسول الله(ص) أنه قال: ما اختلج عرق ولا عثرت قدم إلا بما قدمت أيديكم، وما يعفو الله عز وجل عنه أكثر[12].
ومنها: ما جاء عن أبي جعفر(ع) أنه قال: ما من نكبة تصيب العبد إلا بذنب، وما يعفو الله عنه أكثر[13].
ومنها: ما وري عن أبي عبد الله(ع) أنه قال: أما إنه ليس من عرق يضرب، ولا نكبة ولا صداع، ولا مرض إلا بذنب، وذلك قول الله عز وجل:- (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير)[14].
ومنها: ما وري عن الإمام الرضا(ع) أنه قال: ما أنعم الله على عبد نعمة فسلبها إياه حتى يذنب ذنباً يستحق ذلك السلب[15].
وبالجملة، إن المستفاد من هذه النصوص الدينية قرآناً وسنة، وجود الارتباط الوثيق بين فعل الذنوب والمعاصي، وبين ما تحدثه من أثر كوني سلبي، ويدل على ذلك، أمران:
الأول: عصمة مصدرها من الخطأ والاشتباه، لعدم تصور الخطأ في القرآن الكريم، ولا في السنة المباركة.
الثاني: الواقع الخارجي ونقصد به ملاحظة ما حل في الأمم السابقة من خراب وبلاء وويلات نتيجة إعراضهم عن الأنبياء(ع)، بل لا يبعد عدّ ما يحل في بعض شعوب العالم اليوم وبعض أفراده من مصاديق ذلك أيضاً.
بل إن المستفاد من جملة من تلك الأدلة حصر السبب في ما يحصل للإنسان من آلام دنيوية وآثار سلبية سواء في نفسه أم فيمن يحيط به في خصوص أفعاله السيئة التي تصدر عنه، يقول تعالى:- (ما أصابكم من مصيبة)[16]، وكذا يظهر ذلك من النصوص المتقدمة مثل
ومن الواضح، أنه لن يقبل بثبوت علاقة بين النفس الإنسانية، وبين أفعال الإنسان وآثارها الوضعية كل من يعيش في دائرة المادة ويغرق فيها، ويحيل كل الأمور للتجربة والأمر المادي المحسوس، ولا يؤمن بما وراء المادة، وبعالم الغيب، ولهذا تراهم يحاولون إيجاد تفسيرات وطرح افتراضات ونظريات في محاولة تبرير ذلك[17].
نماذج من آثار الذنوب لهذه الطائفة
ويمكن ذكر بعض الأمثلة والنماذج لهذه الطائفة، بعرض بعض الآثار المترتبة على الذنوب والمعاصي بصورة عامة من دون تخصيص لذنب بذاته، أو معصية بعينها، بل تتضمن الأدلة الإشارة إلى ثبوت هذه الآثار لأي ذنب من الذنوب المرتكبة بمقتضى الإطلاق أو العموم المستفاد من الدليل، وحتى لا يطول المقام، سوف نقتصر على استعراض ذلك من خلال الآيات القرآنية، ويمكن للقارئ متابعة النصوص الروائية ليقف على ذلك فيها أيضاً.
منها: دور الذنوب في منع الهداية وتشخيص الحق:
إن المستفاد من الآيات الشريفة مانعية الذنوب التي يرتكبها الإنسان من القدرة على الوصول للهداية وتحصيلها، كما أنها تشكل له مانعاً من تشخيص الحق ومعرفته.
ومع مانعية الذنوب من تحصيل الهداية وتحقيقها، وعدم تشخيص الحق ومعرفته، فلن ينحصر الأثر عندها في خصوص عالم الدنيا، بل سوف يؤثر ذلك أيضاً في عالم الآخرة، لأن لذلك دوراً في تحديد مصير الانسان هناك، لأنه قد يؤدي إلى دخوله النار.
وعلى أي حال، فمن الآيات الشريفة الدالة على منع الذنوب من إدراك الحقائق الدينية وتشخيص مواردها، قوله تعالى:- (والله لا يهدي القوم الفاسقين)[18]، ومن ذلك أيضاً قوله سبحانه:- (والله لا يهدي القوم الظالمين)[19]، ومنها قوله عز من قائل:- (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم)[20]، فإن المستفاد من الآيات الثلاث تعليق المانعية في تحصيل الهداية وتشخيص الحق على عناوين ثلاثة قد تضمنتها الآيات الشريفة، وهي الفسق، والظلم وزيغ البصر، وهي عناوين كلية تنطوي تحتها ذنوب متعددة.
وبالجملة، إن المستفاد من هذه الآيات أن مانع حصول الهداية عند هؤلاء نتج بسبب تقصيرهم، لأن الهداية أمر مقدور للعبد، وإنما يحرم منه بسبب ما يرتكبه من الذنوب والمعاصي. ويساعد على ما ذكرناه ما صرحت به آيات أخرى من ربط الهداية الإلهية بالأعمال الحسنة، قال تعالى:- (والذين اهتدوا زادهم الله هدى)[21]، وقوله سبحانه:- (إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى)[22]، وغير ذلك من الآيات الصريحة في أن الهداية مرتبطة بحسن عمل العبد، فيترتب عليه التسديد من الله سبحانه وتعالى.
ومن الآيات الدالة على مانعية الذنب من الهداية ومعرفة الطريق الحق، قوله تعالى:- (ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفاً أولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم)[23]، فقد دلت على عدم فهم بعض الناس لما يقوله رسول الله(ص)، لأنهم ممن طبع الله على قلوبهم، فطبع الله سبحانه على قلوبهم صار علة لعدم فهمهم لما يقوله(ص).
ومن المعلوم أن الطبع على القلب عقوبة منه سبحانه للعبد بسبب تقصيره، وقد نصت الآية الشريفة على بيان ذلك التقصير وهو اتباعهم الأهواء.
ومن ذلك أيضاً قوله تعالى:- (إن الذين كفروا سواءً عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون* ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم)[24].
وليس المقصود من الآية سلبه سبحانه منهم نعمتي السمع والبصر، بل المقصود هو سلبهم نعمة البصيرة، بحيث أصبحوا لا يعتبرون لأي عبرة، وذلك بسبب كفرهم.
ومن الملاحظ تفاوت الآيات الشريفة في حديثها عما يحدث للقلب، فتارة تتحدث عن الختم، قال تعالى:- (ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم)[25]، وأخرى يعبر سبحانه بالطبع، قال تعالى:- (أولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم)[26]، وثالثة كان التعبير بالقفل:- (أم على قولب أقفالها)[27]، ورابعة جاء التعبير بالرين:- ( كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون)[28]، وخامسة عبر بالغشاوة:- (وعلى أبصارهم غشاوة)[29]، ومن التعبيرات التي وردت القسوة:- (ثم قست قلوبكم من بعد ذلك)[30].
والظاهر أن منشأ التفاوت الوارد في الآيات من خلال تعداد العناوين، والتعبير مرة بالقسوة، وأخرى بالرين، وثالثة بالقفل كما سمعت، يعود لمقدار انغماس الانسان في الذنوب فكلما كان انغماسه فيها أكثر، كان هذا الحجاب المعنوي أشد وأسمك وإن كان الإنسان لا يشعر بذلك، فضلاً عن أن يراه.
ومنها: أثرها في عدم سلوك طريق الحق:
وهو يختلف عن سابقه في أن الأول كان عبارة عن مانعية الذنوب من معرفة الحق وتشخيصه، وأما هذا فيكون دورها هو عدم تمكن الشخص من المضي في طريق الحق وسلوكه بعدما شخصه، لأنها تشكل له مانعاً من اتباع الهدى، ويمكن تقريب ذلك بعسكر بني أمية يوم عاشوراء، فإنهم قد شخصوا الحق وعرفوه المتمثل في شخص الإمام الحسين(ع)، إلا أن ذنوبهم وقفت حائلاً بينهم وبين سلوك طريق الهدى، واتباع طريق الحق.
ومن المعلوم أن المانع من سلوك المذنب طريق الحق يعود لسلبه التوفيق الذي يحتاجه لذلك، وإنما سلب منه بسبب ذنوبه وأعماله ومعاصيه، وهذا ما أشير إليه في دعاء الصباح: إلهي إن لم تبتدئني الرحمة منك بحسن التوفيق فمن السالك بي إليك في واضح الطريق. فإن سلوك الطريق الواضحة ذات أسباب النجاة بحاجة إلى توفيق من الله سبحانه وتعالى.
ويدل على ذلك قوله تعالى:- (إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا)[31]، فإنهم بعدما شخصوا الحق وعرفوه ذهبوا إلى الحرب، إلا أن هناك مانعاً حال بينهم وبين الالتـزام بطريق الهداية والحق الذي عرفوه، ما أدى إلى تركهم المعركة، وذلك بسبب ذنوبهم، حيث تمكن الشيطان من إخراجهم عن الطريق الذي عرفوا استقامته، وأحرزوا صحته.
ومنها: جعل السبيل للشيطان على الإنسان:
فقد دلت بعض الآيات القرآنية أن الذنوب تفسح المجال للشيطان للنفوذ للإنسان، بل قد تجعله ولياً عليه، فلاحظ قوله تعالى:- (فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون* إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون)[32]. ومثل ذلك أيضاً في الدلالة قوله سبحانه:- (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من أتبعك من الغاوين)[33].
ويتخذ الشيطان مسالك متعددة في تحقيق أغراضه، فهو يعمد تارة إلى التخويف، قال تعالى:- (الشيطان يعدكم الفقر)[34]، وأخرى يعمد إلى تقديم الوعود الكاذبة، قال سبحانه:- (يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غروراً)[35]، وثالثة يقوم بالدعوة إلى تسويف التوبة والاستغفار بعد كل ذنب وخطيئة، بل يعمد إلى إنساء الإنسان إياهما تماماً.
ولا يعني تولي الشيطان شأن إنسان ما، أنه قد سلب الانسان الاختيار والإرادة، لأن ما يقوم به الشيطان هو الدعوة، وهي لا تسلب اختيار الطرف المقابل، ولا تقهر عقله على التسليم بها.
ومنها: دورها في سلب الاطمئنان:
ويمكن استفادة ذلك من خلال قوله تعالى:- (ألا بذكر الله تطمئن القلوب)[36]، فإن الظاهر من هذا التعبير حصر سبب الاطمئنان القلبي في ذكر الله تبارك وتعالى.
وليس المقصود من الذكر في الآية المباركة هو خصوص الذكر اللفظي، بل هو أعم منه ومن الذكر القلبي وهو مطلق انتقال الذهن والخطور بالبال، ويساعد على ذلك قوله تعالى:- (والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم)[37]، فإن الظاهر أن المقصود من الذكر فيها هو الذكر القلبي، وهو مطلق انتقال الذهن وليس المقصود به خصوص الذكر اللفظي اللساني، ويساعد على ذلك ذكر الاستغفار في ذيل الآية، فإنه يمثل الذكر اللفظي اللساني.
ويمكن الاستدلال على هذا الأثر أيضاً بقوله تعالى:- (فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى* ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى)[38]، فإن المعرض عن ذكر الله سبحانه وتعالى يعيش حالة من الضنك والضيق وعدم الارتياح، وهذا يجعله يتعلق بالدنيا، فيهتم بإصلاح عيشه فيها والتوسعة على نفسه، وكلما حصل على شيء لم ترض نفسه ولا تقنع به، بل تسعى إلى تحصيل الأكثر فيكون في ضيق دائماً، مضافاً لما يصيبه من الهم والحزن والقلق.
دور الذنوب في منع الرزق:
وربما جعل من الآثار المترتبة على ارتكاب الذنوب والمعاصي، دورها في منع الرزق، استناداً إلى مثل قوله تعالى:- (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون)[39]، وقوله سبحانه:- (ولو أن أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم)[40].
إلا أن ملاحظة مجموع الأدلة يمنع من ذلك، وأقصى ما يمكن استفادته منها دلالتها على أن الذنوب تمثل المقتضي لمنع الرزق وقلته، وليست علة تامة لذلك.
فلا يكون للسؤال التالي: إننا نجد المجتمعات الإسلامية تعيش ضنكاً من العيش، بينما نرى المجتمعات الكافرة تعيش حالة من الرفاهية، والسعة في الرزق، وتوفرها على الخير الوفير. مجال أصلاً لما عرفت من أن الذنوب ليست علة تامة لمنع الرزق، أو قلته، بل هي على سبيل الاقتضاء.
نعم إن من الممكن جداً إجراء الله سبحانه وتعالى في تلك المجتمعات سنة أخرى من السنن الإلهية، وهي سنة الاستدراج.
ولا تنحصر الآثار المترتبة على الذنوب مطلقاً في خصوص ما ذكر، بل إن هناك آثاراً تترتب عليها يطول المقام بعرضها، ولكن نشير إليها بصورة موجزة:
منها: أنها تجعل القلب أسوداً.
ومنها: أنها تحرم العبد من الشكر.
ومنها: أنها تمنع من آثار التقوى.
ومنها: أنها تؤخر استجابة الدعاء.
ومنها: أنها تحرم العبد من صلاة الليل.
وكفى أن يسمع الإنسان أن الذنوب سبب لجميع النوائب والابتلاءات التي يقع فيها الانسان[41].
موجبات التشديد في الذنوب
قد عرفت في ما تقدم أن التفاوت الوارد في القرآن الكريم بالتعبيرات الحاصلة للنفس البشرية، تارة بالقفل، وأخرى بالرين، وثالثة بالقسوة، وغير ذلك يرجع إلى مقدار ما يرتكبه العبد من ذنب، ومدى انغماسه في ملذاته وشهواته، وكثرة ذنوبه، وهذا يعني أن الذنوب متفاوتة من حيث الآثار المترتبة عليها، وليست الذنوب في مستوى واحد من حيث العقوبة.
ولا ينحصر موجب التشديد في العقوبة على الذنب بلحاظ الذنب نفسه فقط، بل إن هناك عوامل أخرى توجب شدة العقوبة لا ربط لها بالذنب أصلاً، بل يرتبط بها بفاعل الذنب، وأخرى بمكان فعله، وثالثة بزمان إيقاعه، فنشير إلى عوامل ثلاثة توجب شدة العقوبة:
أحدها: خصوصية المذنب:
إن مما يؤثر في مقدار ما يستحق العبد من العقوبة على الذنب كونه ذا خصوصية لها علاقة بذلك، كأن يكون عالماً أو زعيماً، أو وجيهاً متبعاً، فإن هذه الخصوصية تجعل العقوبة على المخالفة أكبر.
ثانيها: خصوصية المكان:
فإن المكان الذي يفعل فيه الذنب له خصوصية في زيادة العقوبة، لوجود تفاوت بين الأماكن فيما بينها، فليس الذنب في مكة المكرمة، كالذنب في بقية الأماكن الأخرى، وليس الذنب في طيبة الطيبة حيث مرقد الرسول الأكرم والصديقة الزهراء وأئمة البقيع(ع)، كالذنب في بقية البقاع، وليس الذنب في النجف الأشرف حيث أمير المؤمنين(ع)، أو في كربلاء المقدسة حيث المولى أبي عبد الله(ع)، كالذنب في سائر البقاع، بل حتى الذنب في المسجد يختلف عن الذنب في المنـزل، وهكذا وهذا يعني أن خصوصية المكان توجب زيادة الذنوب، وشدته من حيث الأثر لأن فاعل الذنب قد عمد إلى هتك المكان، والتعدي على حرماته، ولم يحترمها.
ثالثها: خصوصية الزمان:
وكما أن للأماكن خصوصية فإن للأزمنة خصوصية أيضاً، فالأشهر الحرم ليست كبقية أشهر السنة ما يعني أن وقوع الذنب فيها يوجب اختلاف في العقوبة من حيث الشدة، وكذا وقوع الذنب في شهر رمضان المبارك يختلف كلياً عن وقوعه في بقية الأشهر، وأيضاً وقوعه في ليلة القدر منه، يختلف عن وقوعه في أي ليلة من لياليه الشريفة، ومثل ذلك لو كان الذنب في يوم الجمعة، فإنه سوف يختلف عما لو كان في سائر أيام الأسبوع.
والحاصل، إن عامل الزمان سبب يوجب شدة العقوبة، واختلافها من حيث الكم والنوع أيضاً.
الطائفة الثانية: ما تضمنت ذكراً لآثار ذنوب معينة بذاتها:
وهي مجموعة من النصوص الدينية، آيات وروايات:
فمن الآيات القرآنية الشريفة: ما دل على آثار الكفر بأنعم الله سبحانه وتعالى، وترك شكرها:
قال تعالى:- (وضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون)[42]، وقوله سبحانه:- (لقد كان لسبأ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور* فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل)[43].
ومنها: ما دل على آثار أكل الربا، يقول تعالى:- (الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس)[44].
وأما من السنة المباركة، فنصوص، مثل:
ومن ذلك ما ذكر أثراً من أثار الاكتساب الحرام، مثل ما جاء عن الإمام أنه قال: كسب الحرام يبين في الذرية.
وقد حوى الدعاء المروي عن أمير المؤمنين(ع)، والمعروف بدعاء كميل تعداد مجموعة من الآثار لمجموعة من الذنوب، فقد جاء فيه:
اللهم اغفر لي الذنوب التي تهتك العصم، اللهم اغفر لي الذنوب التي تنـزل النقم، اللهم اغفر لي الذنوب التي تغير النعم، اللهم اغفر لي الذنوب التي تحبس الدعاء، اللهم اغفر لي الذنوب التي تنـزل البلاء، اللهم اغفر لي الذنوب التي تقطع الرجاء.
وقد تضمنت النصوص الشريفة تفسيراً لكل واحد من هذه الذنوب التي توجب هذه الآثار، فقد جاء عن الإمام الصادق(ع) في تحديد المقصود من الذنوب التي تهتك العصم أنها: شرب الخمر، واللعب بالقمار، وتعاطي ما يضحك الناس من اللغو، والمزاح، وذكر عيوب الناس، ومجالسة أهل الريب[45].
وفسر(ع) في حديث آخر الذنوب التي تنـزل النقم بأنها: نقض العهد، وظهور الفاحشة، وشيوع الكذب، والحكم بغير ما أنزل الله، ومنع الزكاة وتطفيف الكيل[46].
وأما الذنوب التي تحبس الدعاء ،فقد فسرها الإمام الرضا(ع)، بأنها ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر[47].
الهوامش: [1] وسائل الشيعة ج 15 ب جملة ما ينبغي تركه من الخصال المحرمة ح 22 ص 348. [2] وسائل الشيعة 15 ب وجوب اجتناب الخطايا والذنوب ح 8 ص 301. [3] سورة محمد الآية رقم 27. [4] بحار الأنوار ج 6 باب ملك الموت وأحواله ح 8. [5] علل الشرائع ج 2 باب 356 ح 1. [6] الذنوب موجبات التشديد عليها وآثارها التكوينية العامة ص 218-221(بتصرف). [7] سورة الروم الآية رقم 10. [8] سورة الروم الآية رقم 41. [9] سورة الرعد الآية رقم 31. [10] سورة المائدة الآية رقم 49. [11] سورة الكهف الآية رقم 59. [12] بحار الأنوار ج 70 ح 94 ص 363. [13] وسائل الشيعة ج 15 ب وجوب اجتناب الخطايا والذنوب ح 7 ص 301. [14] المصدر السابق ح 1 ص 299. [15] المصدر السابق ح 18 ص 304. [16] سورة الروم الآية رقم 10. [17] من هدى النبي والعترة في تهذيب النفس وآداب العشرة ج 2 ص 99-102(بتصرف). [18] سورة الصف الآية رقم 5. [19] سورة البقرة الآية رقم 258. [20] سورة الصف الآية رقم 5. [21] سورة محمد الآية رقم 17. [22] سورة الكهف الآية رقم 13. [23] سورة محمد الآية رقم 16. [24] سورة البقرة الآيتان رقم 6-7. [25] سورة البقرة الآية رقم 7. [26] سورة محمد الآية رقم 16. [27] سورة محمد الآية رقم 24. [28] سورة المطففين الآية رقم 14. [29] سورة البقرة الآية رقم 7. [30] سورة البقرة الآية رقم 74. [31] سورة آل عمران الآية رقم 155. [32] سورة النحل الآيات 98-100. [33] سورة الحجر الآية رقم 42. [34] سورة البقرة الآية رقم 268. [35] سورة النساء الآية رقم 120. [36] سورة الرعد الآية رقم 28. [37] سورة آل عمران الآية رقم 135. [38] سورة طه الآيتان رقم 123-124. [39] سورة الأعراف الآية رقم 96. [40] سورة المائدة الآية رقم 66. [41] الذنوب موجبات التشديد عليها، وآثارها التكوينية العامة ص 227-350(بتصرف) [42] سورة النحل الآية رقم 112. [43] سورة سبأ الآيتان رقم 15-16. [44] سورة البقرة الآية رقم 275. [45] وسائل الشيعة ج 16 ب تحريم التظاهر بالمنكرات ح 8 ص 282. [46] المصدر السابق بحار الأنوار ج 70 باب علل المصائب والمحن ص 370. [47] وسائل الشيعة ج 16 باب وجوب الأمر والنهي ح 4 ص 118.