مقدمة المؤلّف
صنّف علماء القبلة، سنّة وشيعة، كثيراً من الكتب الجياد في التعريف بأمير المؤمنين عليّ صلوات الله عليه؛ سيما التي اعتمدت سنّة النبي في ذلك..؛ كثير منها جليل العائدة، عظيم الفائدة..
لكنّها صنفت على أغراض؛ فغرض بعضها سرد الأحاديث على طريقة المحدثين وأهل السيرة، وبعضها الآخر إرساء أصول الإمامة على منهاج أهل العقيدة، وثالث الكفاح عنها على مسالك أهل الكلام، وهمّ الرابع الصحة والضعف على قواعد أرباب النقد والمصطلح، وجلّ سعي الخامس تاريخ الإسلام بمقارنة تاريخ عليّ مع تاريخ خصومه؛ سيما غدر الأمّة بعلي كما قال النبيّ9، وثمّة غير ذلك، حسب المقاصد والأغراض..
ولا شكّ أنّ كلّ هذا مطلوب في نفسه، محمودٌ لذاته، مندوبٌ إليه؛ لكونه –في الأقلّ- من سنّة محمّد 9، أو مردّه إليها..؛ فيحسن بثّه ونقله وتناقله..؛ لكن نتج عن تغاير الأغراض ما لا مناص منه؛ فلقد تبعّضت معرفة عليّ في الأذهان والصدور، وتجزّأت أحواله7 في المكتوب والمسطور..
فمن التبعيض المذموم، الخوضُ في إمامة علي7 بقواعد أهل الكلام المتناسية لسنّة النبيّ؛ كإخضاع قول النبي مثلاً: «من كنت مولاه فعليّ مولاه» لسلطة تلكم القواعد الظنيّة المعتمدة في أحسن تخاريجها على قواميس اللغة، من دون الرجوع إلى نص النبي9«عليّ أولى بكم بعدي» المعيّن للمولى بالأولى بيقين..
وحين الحديث عن تاريخ علي ورموز خصومه، خاصّة حروبه المقدّسة، نجد إبتعاداً مريباً عن سنّة النبي 9، حتّى كأنّها لا مكان لها..، في حين يتلاشى كل هذا الزبد بقول النبي الصحيح لعليّ : «الأمّة ستغدر بك بعدي»..
الزبدة : فما جاء عن النبي في بيان حقيقة عليّ وذاته، أو ما وصل إلينا من سنّته عليه الصلاة والسلام في سرد تاريخه وأحواله، هو منظومة واحدة من المعارف النبويّة وإن كانت على أجزاء، وبناءٌ واحدٌ من الأصول العلميّة وإن كان بأبعاض..؛ لا تعرف هذه المنظومة فرقاً بين التاريخ والعقيدة والأخلاق والشريعة والسياسة والاجتماع..؛ إذ لا ريب أنّ هذا النظام السماوي الواحد الكلّ، كفيل بتغطية كلّ أحوال عليّ السماويّة والأرضيّة والتاريخيّة..
إذن، فواقع المولى عليّ7 -في سنّة النبي- هو هذا الكلّ..؛ للتحليق في فضائه ثمرة نبويّة عظيمة، وزبدة سماويّة كريمة؛ أجلّها أنّ كثيراً من المجهولات العقديّة ستضحى به معلومات، والمغلقات العلميّة، بيّنات جليّات..؛ لا حاجة معه لكثير البسط والبيان، ولا تكلّف البرهان؛ لظهور المراد الجليّ من هذا البنيان، لأهل الجنان والإيمان، كالعيان..
إذ الإمعان في القياس والبرهان، بليّ اللسان، مع جلاء هذا البنيان، ممّا روّج له أعداء عليّ في الزمان؛ تضييعاً لأقوال النبوّة الأصول؛ أو تغييباً لصراحة المنقول بسفسطة المعقول؛ استغفالاً للألباب والعقول.
لقد كان هذا أقوى دافع لنا لتصنيف هذا الكتاب؛ وليس هو إلاّ اليقينُ باستبعاد أن لا يبيّن النبيّ 9 مراده فيما أفاض من سنّته المقدّسة، في عليّ وفي غير عليّ 7، عقيدةً وشرعاً وتاريخاً في منظومة واحدة ..
فخطر على البال أنْ نصنّف كتاباً جامعاً موجزاً سهلاً، ينشد الوقوف على مرافىء هذا الكلّ النبويّ في عليّ7، وملامح ذاك النظام السماوي في أحوال الوليّ؛ إلزاماً لأهل السنّة بما أخرجوه من طرقهم عن النبي9، مقتصرين على ما كان إسناده عندهم صحيحاً أو قويّ، ناهضاً بكلّ ما يخطر على البال من حقّ المقال، داحضاً لأيّ شبهة أو إشكال، يغني في العقيدة والتاريخ عن كثير من البرهان، وعمّا هو تحصيلٌ حاصل البسط والبيان، يفتح حتّى لمن دون الحاذق، باباً للتفاصيل والأفراد والأبعاض.
مع التنبيه أنّ الكتاب لا يسرد حديثاً أجمع الخصم على ضعف راوٍ فيه..؛ اللهمّ إلاّ إذا كان إجماعاً مخدوشاً، أو كان الضعف محتملاً، أو يساق لتحقيق التواتر..؛ بما تقرّه قواعد أئمتهم في النقد، وتمضيه أصول كبارهم أهل الحلّ والعقد؛ سيما القدماء؛ فبعض من تأخرّ عنهم قد تلعّب فيها كما سيتّضح في المطاوي..
ولا يخفى أنّ كثيراً من أحاديث النبي في المولى عليّ، ما زالت بحاجة للتنقيح والتحرير؛ فلقد ترك السلف للخلف كثيراً ممّا فيه نظر وتفكير، سيما ما ناله التشويه والتحريف والتزوير.
لكن ليس هذا بالأمر اليسير؛ فالإحاطة بكلّ النظام النبويّ الوارد في عليّ، يستدعي الإلمام بكلّ السنّة الواصلة إلينا فيه عليه السلام، سنداً ودلالة، ولا يخفى أنّها مع شواهدها ومتابعاتها كثيرة للغاية.
لذلك فقد لا يسلم هذا المسعى القاصر، مسعى اليد الواحدة، من الخطأ والغفلة، كما أنّه –لإيجازه- لا يدّعي الاستيعاب، بل لا يمكن هذا في نفس الأمر ..
كما تلزم الإشارة إلى أنّ هذا الكتاب قصد برامج إسلاميّة لأهل السنّة، قد أقرّها -في الجملة- أهل العلم منهم (سيما برنامج الشاملة الإسلاميّة) قصدناها لصعوبة تحصيل المصادر المحقّقة حديثة الطبع.
فما كان من سهوٍ وخطأ، فالتنبيه عليه لازم، والتذكير به واجب؛ فلا عصمة إلاّ لأهلها:..
وأخيراً أشيد كثيراً بتحقيقات الإخوة المحاورين العقائديين، أصحاب الفهم الأذكياء، بعضهم أهل علم فضلاء، المنتشرة أبحاثهم الجليلة في منتدياتنا الشيعيّة المباركة على شبكات الأنترنيت، فلقد كانت لنا مفيدة للغاية.
ناهيك عمّا اعتمدته من تحقيقات جهابذتنا القدماء في الفنون، وأساطيننا العلماء الأفذاذ عبر القرون؛ كالسيّد المرتضى والشيخ المفيد والطوسي والعلامة ابن المطهّر الحليّ، والقاضي التستري، وصاحب العقبات، والعلامة الأميني والسيد عبد الحسين شرف الدين وغيرهم رضوان الله تعالى عليهم؛ إذ لا يوجد مشكل إلاّ وأماطوا عنه، ولا صعب إلاّ وسهّلوه ، ولا ظلام إلاّ وأناروه ، ولا هدياً إلاّ وبذلوه ..
ويحزّ في القلب ظنُّ البعض جهلاً أنّه في غنى عمّا فاض عن هؤلاء الفحول..؛ بيد أنّ من يجيد السباحة في بحورهم، ويحسن الصعود إلى قممهم، لا يجرأ على مثل هذا الظنّ ؛ فلولا ما جادت به أقلامهم ، لما عرفنا الفرق بين الكوع والبوع ..
لذلك -فأنا القاصر- أدعو الله المنان الحنّان الرحمن، أن يكون هذا القليل، ممّا يدّخر ثوابه وأجره، لكلّ من خطّ حرفاً أو نطق به، حبّاً بعليّ 7..
باسم الحلّي
15/ شعبان /1438هـ
العتبة الحسينيّة المقدّسة ، قسم الشؤون الدينية ، شعبة البحوث والدراسات