فحقيق على المسلمين - بل جميع الأمم - أن يقيموا الذكرى في كل عام للإمام الحسين (عليه السلام)، فإنه (عليه السلام) قد جَمَع أكرمَ الصفات، وأحسنَ الأخلاق، وأعظمَ الأفعال، وأجلَّ الفضائل والمناقب، عِلماً وفَضلاً، وزهادةً وعبادةً، وشجاعةً، وسخاءً وسماحةً، وإباءً للضَّيم، ومقاوَمة للظُّلم، وقد جمع إلى كَرمِ الحَسَب شَرَفَ النسَب، وقد جاهد الإمام الحسين (عليه السلام) لنيل أسمَى المقاصد، وأنْبل الغايات، وقام بما لم يَقُم بمثله أحد، فبذلَ (عليه السلام) نفسَه، ومالَه وآلَه، في سبيل إحياء الدين، وإظهار فضائح المنافقين، واختار المنيَّة على الدنيَّة، وميتة العِزِّ على حياة الذُل، ومصارع الكرام على اللِّئام.
وأظهر (عليه السلام) من عِزَّة النفس والشجاعة، والصبر والثبات، ما بَهَر به العقول، وحيَّر الألباب، واقتدى به (عليه السلام) في ذلك كل مَن جاء بعده، ومن يمتلك مثل هذه الصفات.
فالحقُّ أنْ تقام له (عليه السلام) الذكرى في كلِّ عام، وتبكي له العيون بَدَلَ الدُموعِ دَماً.
فقد بكى الإمام زين العابدين (عليه السلام) على مصيبة أبيه الإمام الحسين (عليه السلام) ثلاثين سنة.
وكان الإمام الصادق (عليه السلام) يبكي لتذكُّر المصيبة، ويستنشد الشعر في رثائه ويبكي.
وكان الإمام الكاظم (عليه السلام) إذا دخل شهر محرم لا يُرَى ضاحكاً، وكانت الكآبة تغلُبُ عليه.
وقال الإمام الرضا (عليه السلام) :( إنَّ يَومَ الحسين أقرحَ به جُفونَنا، وأسال دموعنا، وأورثنا الكرب والبلاء إلى يوم الانقضاء).
وقد حَثُّوا شيعتهم وأتباعهم على إقامة الذكرى لهذه الفاجعة الأليمة في كلِّ عام، وهُم (عليهم السلام) نِعْم القدوة، وخير مَنْ اتُّبِع، وأفضَلُ من اقتُفِيَ أثرُه، وأُخِذَت منه سُنَّة رسول الله (صلى الله عليه وآله).
فضل يوم الأربعين
رُويَ عن الإمام العسكري (عليه السلام) أنّه قال :( عَلامَاتُ المؤمن خمسٌ: صلاةُ إِحدى وخمسين، وزيارةُ الأربعين، والتخَتُّم في اليمين، وتعفير الجَبين، والجهر بـ(بِسْم اللهِ الرحمن الرحيم)) بحار الأنوار 101 / 329.
وقال عَطا: كنت مع جابر بن عبد الله الأنصاري يوم العشرين من صفر، فلمَّا وصَلنا الغاضرية اغتسل في شريعتها، ولبس قميصاً كان معه طاهراً، ثم قال لي: أمَعَكَ من الطيب يا عَطا؟
قلت: معي سُعد.
فجعل منه على رأسه وسائر جسده، ثم مشى حافياً حتى وقف عند رأس الحسين (عليه السلام)، وكَبَّر ثلاثاً، ثم خرَّ مغشياً عليه، فلما أفاق سَمِعتُه يقول: السلام عليكم يا آلَ الله (بحار الأنوار 101 / 329).
وكان يزيد قد أمر بِرَدِّ سبايا الحسين (عليه السلام) إلى المدينة، وأرسل معهم النعمان بن بشير الأنصاري في جماعة.
فلمَّا بلغوا العراق، قالوا للدليل: مُر بنا على طريق كربلاء، وكان جابر بن عبد الله الأنصاري، وجماعة من بني هاشم قد وردوا لزيارة قبر الإمام الحسين (عليه السلام).
فبينا هُم كذلك إذ بِسَوادٍ قد طلع عليهم من ناحية الشام.
فقال جابر لعبده: اِنطلق إلى هذا السواد وآتِنَا بخبره، فإن كانوا من أصحاب عُمَر بن سعد فارجع إلينا، لعلَّنا نلجأ إلى ملجأ، وإن كان زين العابدين (عليه السلام) فأنت حُرٌّ لوجه الله تعالى.
فمضى العبد، فما أسرع أن رجع وهو يقول: يا جابر، قمْ واستقبل حرم رسول الله (صلى الله عليه وآله)، هذا زين العابدين قد جاء بِعَمَّاته وأخواته.
فقام جابر يَمشي حافي الأقدام، مكشوف الرأس، إلى أن دنا من الإمام زين العابدين (عليه السلام)، فقال (عليه السلام) :( أنْتَ جَابِر؟).
فقال: نعم يا بن رسول الله.
فقال الإمام (عليه السلام) :( يَا جَابر هَا هُنا واللهِ قُتلت رجالُنا، وذُبحِت أطفالُنا، وسُبيَتْ نساؤنا، وحُرقَت خِيامُنا).
وفي كتاب الملهوف: إنهم توافوا لزيارة قبر الحسين (عليه السلام) في وقت واحد، وتلاقوا بالبكاء والحزن، وأقاموا المأتم، واجتمع عليهم أهل ذلك السواد، وأقاموا على ذلك أياماً (أعيان الشيعة 1 / 617).
* تبيان