لكن ذلك القرب الشديد يطرح بدوره مجموعة مهمة من الأسئلة، فنحن لا نتحدث هنا عن قطعة من المعدن، بل عن جهاز يرسل ويستقبل إشارات بترددات مختلفة، تمر تلك الإشارات على دماغك وتعبره آلاف المرات وأكثر في أقل من ثانية، أليس من الممكن أن يتسبب ذلك السلوك غير الطبيعي في مشكلات طبية؟ وهل هواتفنا الذكية حقا هي أحد مسببات السرطان؟
الطيف الكهرومغناطيسي
هذا سؤال مهم لعدة أسباب، أولها هو الاعتقاد الشائع أن الهواتف المحمولة تتسبب بالفعل في الإصابة بالسرطان على مدى طويل، لكن قبل البدء في تفصيل الأمر دعنا أولا نعرفك بماهية الطيف الكهرومغناطيسي(1)، وهو ببساطة كل الإشعاع الموجود في هذا الكون، ويمر بك دائما، في الواقع فأنت بالفعل تختبره الآن، وفي كل لحظة، لأن نطاق الضوء المرئي هو جزء طفيف من الإشعاع الكهرومغناطيسي كاملا.
لكن هناك نطاقات أخرى لا تراها، رغم ذلك فهي تتفاعل مع جسمك دائما، يسافر الإشعاع الكهرومغناطيسي في صورة موجات، ولغرض التقريب فهي تشبه موجات البحر، وكلما كانت الموجات أطول (أوسع) كان تردد الإشعاع (عدد الموجات التي تتعرض لها كل ثانية) أقل، والعكس صحيح، علما بأن التردد هو المعيار الرئيسي لقدر الطاقة الذي تتعرض لها، فكلما ارتفع التردد ازداد كم الطاقة، وهنا تكمن الخطورة.
يسافر الإشعاع الكهرومغناطيسي في صورة موجات، ولغرض التقريب فهي تشبه موجات البحر، وكلما كانت الموجات أطول (أوسع) كان تردد الإشعاع (عدد الموجات التي تتعرض لها كل ثانية) أقل، والعكس صحيح.
أشعة ضارة
يقسم العلماء أشكال الإشعاع المغناطيسي في شكل طيف يبدأ من أطول الموجات في أحد الجوانب (وبالتالي أقل الترددات) ويصل إلى أقصر الموجات في جانبه الآخر، وعموما إذا تعرضت لأيٍّ من هذه الإشعاعات فهناك (3) احتمالات، أن يعكس جسمك الإشعاع لأنه لا يتناسب معه، أو أن يمتص جسمك الإشعاع لكن الإشعاع يكون ضعيفا فلا يتسبب في "تأيين الذرات" وبالتالي إتلاف الأنسجة (non-ionizing radiation)، أو أن يكون الإشعاع قويا كفاية لتأيين الذرات (ionizing radiation)، وهنا تظهر الأضرار الشديدة(2).
الإشعاع المؤيِّن يزيل الإلكترونات من ذرات الأنسجة الحية، وبالتالي يغير من تركيبها، ويُعرِّضها لخطر التلف والإصابة بالسرطان إذا وصل إلى درجة التأثير على تركيب الحمض النووي في خلايانا، من الأمثلة المألوفة للإشعاع المؤيِّن "الأشعة السينية"، إلى جانب عدد من الأشعة التشخيصية الأخرى مثل التصوير المقطعي المحوسب أو التصوير المقطعي بالإصدار البوزيتروني، لكن هناك ملاحظة مهمة وهي أننا نتعرض لتلك الأشعة بقدر طفيف، ما يمنع هذا الضرر من الحدوث. في الواقع، تشمل المصادر الطبيعية للإشعاع المؤين العناصر المشعة الموجودة بشكل طبيعي في أجسامنا، فجزء صغير جدا من البوتاسيوم الموجود في أجسامنا مشع.
الإشعاع غير المؤيِّن الذي يُمتص يمكن أن يسبب ضررا أيضا، يحدث ذلك حينما يكون هناك كمٌّ كافٍ منه فيتحوَّل إلى طاقة حرارية، ويمكن أن تؤدي الحرارة الزائدة إلى إتلاف الأنسجة الحية بشكل دائم، لكننا نعرف الآن بحسب الكثير من المصادر الرصينة أن معظم أشكال الإشعاع غير المؤيِّن آمنة.
لكن في تلك النقطة تحديدا نحتاج إلى أن نتأنى قليلا ونفهم الطبيعة العلمية لهذه العملية، فبعض الدراسات الصغيرة رصدت بالفعل علاقة إحصائية بين استخدام الهاتف المحمول ونِسَب السرطان، فمثلا (3) وجدت إحدى الدراسات ارتباطا بين الهواتف المحمولة وسرطان الغدد اللعابية، واقترحت دراسة أخرى احتمالا متزايدا لخطر الإصابة بالورم الدبقي -وهو نوع معين من أورام المخ- بالنسبة لمستخدمي الهواتف المحمولة من أصحاب الوزن الزائد، ولكن لم تحدث زيادة في خطر الإصابة بأورام المخ عموما.
لكن مشكلة هذه الدراسات أنها أُجريت على أعداد قليلة من الناس، وهو أمر يسمح بأنواع من التحيز، فالناس عادة لا يعطون معلومات دقيقة عن استخدامهم للهواتف المحمولة، كذلك تحدث بعض التحيزات في العينات مثل تحيز التذكر (Recall bias)، في هذا النوع من التجارب يُسأل المشاركون عن معدلات استخدامهم للهواتف الذكية، فيميل المصابون بالسرطان بالفعل للتعظيم من شأن الأمر، بينما يقلل غير المصابين منه، هذا التحيز يؤثر على النتائج.
كذلك رُصدت علاقة مباشرة بين الهاتف المحمول والسرطان، لكن في الفئران (4)، وعلى أهمية تلك الدراسات لكنها لا يمكن أن تُستخدم بوصفها إشارة إلى وجود العلاقة ذاتها في حالة الإنسان، في الواقع يحدث كثيرا أن يكون هناك شيء ما ضارا بالفئران، لكن ليس البشر. وهنا -حينما تضطرب النتائج أمامك بهذا الشكل خاصة في التجارب الطبية- من المهم جدا أن تلجأ إلى ما يسمى "إجماع العلماء" في هذا النطاق، ويُعرَّف ببساطة بأنه آراء غالبية العلماء بناء على تجارب ونتائج رصينة على مدى زمني طويل وعدد كبير من الخاضعين للتجارب.
ثلاث دراسات كبيرة جدا
الخبر الجيد أن أكبر الدراسات في هذا النطاق تُشير إلى أنه لا توجد علاقة بين استخدام الهاتف المحمول والسرطان. "تجربة إنترفون"(5) مثلا أُجريت على مستخدمي الهاتف المحمول في 13 دولة، وبحثت الدراسة عن أربعة أنواع من الأورام في الأنسجة التي تمتص معظم طاقة التردد اللا سلكي المنبعثة من الهواتف المحمولة: أورام الدماغ (الورم الدبقي والورم السحائي)، والعصب الصوتي (الورم الشفاني) وأورام الغدة النكفية. في الدراسة قُسِّم الناس إلى مجموعتين، الأولى غير مصابة بالسرطان، والثانية مصابة به، وسُئلتا عن معدلات استخدام الهاتف النقال، لتجد الدراسة أنه لا توجد علاقة إحصائية واضحة بين مخاطر الإصابة بالسرطان واستخدام الهاتف النقال لمدة تصل إلى عشر سنوات.
أما "التجربة الدنماركية"(6) فأُجريت على أكثر من 1400 ألف شخص، وفيها سُئل الناس عن معدلات استخدامهم للهواتف الذكية، ثم تمت متابعتهم لمدة 18 سنة. وفي التحديث الأخير للدراسة لم تجد علاقة بين معدلات استخدام الهواتف المحمولة والإصابة بسرطانات الجهاز العصبي المركزي، مثل الورم الدبقي والورم السحائي، وفي كل الحالات أُجريت الدراسة على أناس استخدموا الهواتف المحمولة لفترات امتدت لعشر سنوات وثلاث عشرة سنة.
"تجربة المليون امرأة" (7)، على الجانب الآخر، اهتمت تحديدا بالنساء، اختبرت التجربة 1 من كل 4 سيدات بريطانيات بمجمل 800 ألف سيدة في المرحلة الأولى، التي بدأت عام 1999 وحتى عام 2005، ثم استكملت المليون في 2009، في الدراسة سُئلت السيدات عن معدلات استخدامهن للهواتف الذكية، ثم تمت متابعتهن لمدة 7-10 سنوات، لم تجد الدراسة -مثل سابقاتها- علاقة بين استخدام الهواتف المحمولة وتزايد نِسَب السرطانات الدماغية عن المعدلات الطبيعية في المراجع المعروفة.
إلى الجيل الخامس (5G)
ولكن مع ظهور كل جيل جديد من شبكات الاتصالات تظهر موجة جديدة من الادعاءات الصحية المثيرة للخوف، تبدأ بالقول إن البشر لم يتعرضوا أبدا لهذا النوع من الإشعاع من قبل، ولم يُثبت العلماء أن هذه الشبكة الجديدة آمنة على البشر، وإن منظمة الصحة العالمية أعلنت في إحدى المرات أن الإشعاع الصادر عنها "قد يكون سرطانيا".
لفحص هذه الادعاءات، دعونا نسلط الضوء على الموجات الميكروية التي تطلقها شبكات المحمول بمختلف أنواعها. هذه الموجات هي جزء من الطيف الكهرومغناطيسي، وتتضمن مزيجا من الإشارات الطبيعية والإشارات الفلكية (الأشعة القادمة من الفضاء)، وحتى التوهج المتبقي من الانفجار العظيم إلى جانب إشارات الراديو والرادار والقمر الصناعي والبلوتوث ونظام تحديد المواقع العالمي "جي بي إس"، وإشارات أخرى من صنع الإنسان مثل الواي-فاي (WiFi)، ويتضمن كذلك الشبكات الثلاث الأكثر شهرة "الجيل الثاني" (2G)، و"الجيل الثالث" (3G) و"الجيل الرابع" (4G) بترددات راديوية في نطاق يتراوح بين 0.7-2.7 جيجاهرتز (GHz)، والأخت الأحدث على الإطلاق، شبكات "الجيل الخامس" (5G) بترددات تصل إلى 80 جيجاهرتز.
وبالنسبة لهذه الشبكات تحديدا (بغض النظر عن الهواتف الذكية نفسها) فإن التجارب في هذا النطاق أيضا تُشير إلى أن نِسَب الإصابة بالأورام الدبقية لدى البالغين في الولايات المتحدة ودول شمال أوروبا وأستراليا خلال العقود العديدة الماضية كانت مستقرة بلا تغير مع تنامي استخدام الهواتف في هذه النطاقات الجغرافية ومع تطور أنواع الشبكات نفسها (من الجيل الثاني إلى الثالث إلى الرابع)، كذلك فإن معدلات حدوث أورام دماغ الأطفال في الولايات المتحدة كانت مستقرة في الفترة 1993-2013، ونحن نتحدث عن واحدة من أكثر دول العالم استخداما للهواتف وشبكاتها.
في حالة شبكات الجيل الخامس (5G) تحديدا، فإن أبراجها بالفعل تطلق إشعاعا في نطاق الإشعاع غير المؤيِّن، لكن كميته ضعيفة ولا يمكن أن تتسبب في حدوث أثر ضار على صحة البشر، ويُصنَّف مع رفاقه في النطاق غير المؤيِّن للطيف. في الواقع، إذا كنت تحمل راديو في يديك فقد تلقيت إشعاعا بترددات مماثلة أكثر بكثير مما تحصل عليه من جهاز الجيل الخامس (5G) الموجود في جيبك.
لذلك فإن اتفاق العلماء(8) هو أن الخطر محتمل لكنه ضعيف، تأمل مثلا رد منظمة الصحة العالمية(9) على سؤال حول سلامة الجيل الخامس (5G): "حتى الآن، وبعد إجراء الكثير من الأبحاث، لم ترتبط أي آثار صحية ضارة بالتعرض للتقنيات اللا سلكية. واستُخلصت الاستنتاجات المتعلقة بالصحة من الدراسات التي أُجريت عبر الطيف الراديوي بأكمله، ولكن حتى الآن، لم يُجرَ سوى عدد قليل من الدراسات على الترددات التي ستستخدمها شبكة الجيل الخامس".
تُضيف المنظمة أن تسخين الأنسجة البشرية هي الآلية الرئيسية للتفاعل بين مجالات التردد الراديوي وجسم الإنسان، وأن مستويات التعرض للترددات الراديوية من التقنيات الحالية تؤدي إلى ارتفاع ضئيل في درجة حرارة جسم الإنسان، وفي النهاية فإنه إذا ظل التعرض الكلي لهذا الإشعاع أقل من الإرشادات الدولية، فلا يُتوقع حدوث عواقب على الصحة العامة.
موجات الهاتف
حسنا، لا بد أنك مصاب ببعض التردد الآن وهذا مفهوم، كل الفكرة أننا نواجه درجة من الصعوبة في فهم لغة العلم، وهذا بالأساس ما يسمح لمُنظِّري المؤامرات بالتسلل إلى عقولنا، سيقول لك أحدهم إن المنظمات الدولية تقول إن الهواتف المحمولة وأبراجها "ربما" تُسبِّب السرطان، لكن كلمة "ربما" لا تُعبِّر عن المعنى العلمي الدقيق للأبحاث، التي لا يمكن بسهولة أن تُنكر شيئا من بابه، لكنها تبني استنتاجاتها بلغة الاحتمالية.
حينما يقول العلماء إن "الأدلة محدودة" وإن "الاحتمالات ضعيفة" على وجود علاقة بين السرطان والهواتف المحمولة، فذلك يعني أن هناك أوراقا بحثية بالفعل أشارت إلى وجود هذه العلاقة، لكن كل هذه الدراسات حينما تدخل إلى مجمل الأعمال البحثية في نطاق هذه العلاقة لا تكون قوية كفاية، وبالتالي يمكن لنا بوصفنا مواطنين عاديين أن نتخذ قرارا بناء على هذه النتيجة، لا حاجة إلى التأكد التام من سلامة شيء ما، لأنه في الواقع لا يمكن أن يكون هناك شيء ما آمنا بنسبة 100% على الإطلاق.
* شادي عبد الحافظ
المصادر: 1-Introduction to the Electromagnetic Spectrum 2- Radiofrequency (RF) Radiation Is there any link between cellphones and cancer?3- 4- Cell Phones and Cancer Risk 5- THE INTERPHONE STUDY 6- Use of mobile phones and risk of brain tumours: update of Danish cohort study cohort study 7- Mobile phone use and risk of brain neoplasms and other cancers: prospective study prospective study 8- Why 5G is safe