الفصل الجديد: مرجعيّة الفقهاء
ونستثمر هذه المناسبة لنقرأ روايةً وردت عن الإمام العسكري (عليه السلام) أسَّس بها -وبمثلها- لفصلٍ جديد، وهي قوله (عليه أفضل الصلاة والسلام): "وأما من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً لهواه، مطيعاً لأمر مولاه، فإلى العوام أن يقلدوه"(1).
بهذه الكلمات وبمثلها أسَّس الإمام العسكري (ع) لفصلٍ جديد، هو مرجعية الفقهاء.
مرحلتي عصر الغيبة:
لقد كان الشيعة في عصر الظهور إذا ما انتابهم أمرٌ أو طرأَ لهم طارئ، أو وقعت قضية فإنَّهم يلجأون إلى الإمام الظاهر ليتعرَّفوا منه على وجه الحق، وليتعرَّفوا منه على ما هو الحكم الإلهي في هذه القضية أو تلك، فكان الإمام هو الموئل، وهو الملجأ، وهو المرجع في شؤون الدنيا وشؤون الدين، إلا أنَّ العناية والحكمة الإلهيّة قد اقتضت أنْ يغيب الإمام المعصوم بعد الإمام العسكري (ع)، لتبدأ مرحلةٌ جديدة في تاريخ الرسالات، وهي عصر الغيبة وقد مُرْحِلت هذه الحقبة بمرحلتين:
المرحلة الأولى: هي مرجعية النواب والسفراء.
المرحلة الثانية: هي مرجعية الفقهاء -دون تعيين وتشخيص وتحديد-.
وعُبِّر عن المرحلة الأولى بزمن الغيبة الصغرى، وعن المرحلة الثانية -والتي لا زالت إلى يومنا وإلى أن يقوم الإمام القائم (عج)- عُبّر عنها بزمن الغيبة الكبرى.
المرحلة الأولى: النيابة الخاصّة (الغيبة الصغرى)
الغيبة الصغرى كانت توطئةً وتمهيدًا للمرحلة الثانية، إذ لا يسع الناس ولا يسع الشيعة أن ينفصلوا انفصالاً تامَّاً عن إمامهم، بل لا بد مِن توطئة، ولا بدَّ من تمهيد، ولابدَّ من تهيئة -تهيئة النفوس، وتهيئة الأفهام، وتهيئة الظروف- كلُّ ذلك هو منشأ تقسيم عصر الغيبة إلى زمن الغيبة الصغرى، وزمن الغيبة الكبرى. ففي الغيبة الصغرى لم يكن الإمام منفصلاً عن قاعدته وعن شيعته انفصالاً تامَّاً، فقد كان بينه وبينهم وصلةٌ، وهم السفراء الأربعة (رضوان الله تعالى عليهم أجمعين)، فبمجرد أن اضطلع الإمام الحجَّة (عج) بدور الإمامة بدأ عصر الغيبة، وعيّن الإمام سفيره الأول ليكون حلقة وصلٍ بينهُ وبين شيعته، وهو عثمان بن سعيد العمري(2)، ثم لما أنْ مضى إلى ربَه صدر توقيع شريف من الإمام الحجة (ع) يأمرُ فيه شيعته بأن يرجعوا إلى محمد بن عثمان بن سعيد العمري(3)، وهو السفير الثاني، ثم لمَّا أنْ رحل إلى ربِّه وبعد أن قام بدوره أحسن قيام، فكان هو -وكذلك وأبوه قبله- موئلاً ومرجعاً للشيعة، تقصده الشيعة من جميع أقطار الحواضر الإسلامية ترفعُ إليه قضاياها ومشكلاتها ومسائلها.
بعد أنْ رحل إلى ربِّه نهضَ بأعباء السفارة بأمرٍ من مولانا الحجَّة (عج) الشيخ حسين بن روح النوبختي(4) -قدس الله نفسه الزكية، وظلَّ حقبةً من الزمن يُمارس دوره، ويقوم به أحسن قيام، ثم لمَّا أنْ رحل إلى ربَه أوصى -بأمرٍ من الإمام الحجَّة (عج)- أن يليَ شأن السفارة والنيابة الخاصَّة الشيخ علي بن محمد السمري(5) -قدس الله نفسه الزكية-، ولم يمكث طويلاً، حيث لم تتجاوز مدة نيابته الثلاث سنوات، وحين قرب أجلُه خرج توقيعٌ شريف من مولانا الإمام الحجة (ع) كان فيه إنَّه من حين وصول هذا الكتاب إلى ستة أيام قادمة يموت السمري فالتوقيع الشريف قد اشتمل على تحديدٍ دقيق ليوم وفاة السمري؛ ليتوثَّق الشيعة من كون هذه الرسالة صادرة من الإمام(ع)، وكل رسائله كانت تشتمل على مثل هذه الأمور ليتوثق الشيعة من صدورها من الإمام الحجَّة-، وورد في هذا الكتاب أنَّه عندما يرحل هذا العبد الصالح إلى ربِّه تنقطع النيابة والسفارة، فمن ادَّعى المشاهدة قبل الصيحة، وقبل خروج السفياني فهو كذاب مفتر(6). وبهذا الخطاب، وبهذا التوقيع الشريف انقطعت السفارة والنيابة الخاصة، وبدأت مرحلةٌ جديدة، وفصلٌ جديد هو مرجعية الفقهاء.
فبعد أن كانت النيابة خاصة أصبحت النيابة عامة، ففي عصر الغيبة الصغرى كان يتم تحديد النائب للإمام (ع) في رجل بعنوانه، وبشخصه، ثم لما انتهى عصرُ الغيبة الصغرى أصبحت النيابة تُعرف بمجموعة من الضوابط، فإذا ما توفَّر عليها أحد -أيَّاً كان جنسه، وعرقه، ولغته، وموقعه الاجتماعي- فإنه يكون الموئل والمرجع لشيعة آل محمد (صلى الله عليهم أجمعين)، وهذا هو معنى قول الإمام (ع): "وأما من كان من الفقهاء صائناً لنفسه .."(7).
فهي ضوابط عامَّة يمكن انطباقها على أيِّ أحدٍ بقطع النظر عن هويته أو قل هي ملكات، إذا توفَّر عليها أحدٌ كان له منصب النيابة العامة للإمام الحجة(ع)، وكان له منصب المرجعية الدينية، وهي أن يكون: فقيهًا، صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً لهواه، مطيعاً لأمر مولاه. فكلُّ من اشتمل على هذه السمات -بمستوى المَلَكَة- فهو المرجع.
وهنا نتحدث عن هذه الصفات بشيءٍ من التفصيل، ونبدأ بالصفة الأولى ونُرجئ الباقي إلى ما بعد:
الصفة الأولى.. الفقاهة: "وأما مَن كان من الفقهاء"، مفاد هذه الفقرة هو انَّ أحدًا لا يتأهَّل لمقام المرجعية حتى يكون فقيهاً، فلا يكفي أن يكون ورعاً، تقياً، زاهدًا، عاقلاً، حكيماً، فكلُّ ذلك لا بدَّ من توفُّره، ولكن قبلها يلزم أن يكون الرجلُ الذي تُناط به المرجعية فقيهاً.
من هو الفقيه؟
الفقاهة -بنحو الاجمال-: هي مَلَكة يقتدر بها الواجد لها على استنباط واستخراج الحكم الشرعي من مصادره -الكتاب وسنة الرسول (ص) وأهل بيته (عليهم أفضل الصلاة والسلام)-. فمَن كان واجداً لهذه الملكة، وكان قادراً على استنباط الأحكام الشرعية من مظانَّها ومصادرها فهو الفقيه.
مؤهلات الفقيه:
بطبيعة الحال لا يتيسر لكلَّ أحد أن يتعرَّف على الحكم الشرعي بمجرد ملاحظته للكتاب، وليس كُلُّ مَنْ اطلع على سُنَّة الرسول (ص) وما ورد عن أهل البيت (عليهم السلام) يكون قادراً على التعرُّف على الحكم الشرعي منها، بل يتعيَّن عليه أن يتوفر على عددٍ من المؤهلات، وعندئذٍ يكون قادراً على الاستنباط. لذلك يذكر الفقهاء أنه يحتاج مَن يريد أن يصل إلى مرتبة الفقاهة إلى أن يستوعب مجموعة من العلوم، ويكون عارفاً بها معرفةَ المتخصِّص، ومعرفة ذي الملكة فيها، ومن تلك العلوم:
أن يكون عارفاً باللغة العربية بجميع شعبها، محيطاً بدقائقها، فلا بد أن يكون عارفاً بالنحو، والصرف، والبلاغة، والبيان، وعلم المعاني، ولابد أن يكون عارفاً بضوابط أهل المحاورة من أهل اللغة، وكيفية استظهار المعنى من النص. هذا هو العلم الأول، بشُعبه، وعلى ما هو عليه من عمقٍ ودقة. ولابد أن يكون أيضاً عارفاً بعلم المنطق، وضوابطهِ وقواعده.
ومن العلوم التي يجب أن يكون واجداً لها هو علم الرجال، وهو علم واسع، يشتمل على كليات وضوابط، وعلى خصوصيات تتم مراجعتها من خلال ملاحظة كتب الجرح والتعديل، والكتب التي تصدت لبيان طبقات الرجال، وأحوالهم، وشؤونهم، وتواريخهم. وكذلك علم الدراية والحديث، وهو علم يُبحَثُ فيه عن متن الحديث وسنده ويتميَّز به الحديث المقبول من الحديث المردود.
وثمة علم آخر، وهو علم التفسير، فلا بدَّ أن يكون عارفاً بتفسير كتاب الله تعالى، وبما هو مشتمل عليه من الناسخ والمنسوخ، والمحكم والمجمل، والمبيّن والمتشابَه، وأسباب النزول.
كذلك يجب أن يكون عارفاً بعلمٍ هو من أدقُّ هذه العلوم وأوسعها، وهو علم الأصول، وأن تكون معرفته بعلم الأصول -أصول الفقه- معرفة ذي الرأي والملكة. ولابد مضافًا إلى كلَّ ذلك من الإحاطة بالفروع الفقهية على سعتها.
كل هذه العلوم إذا ما توفر عليها أحدٌ -أياً كان فلا شأن لنا بلغته، وبجنسه، وبعرقه، وبموقعه- فإنَّه يكون فقيهاً، لكنه قد لا يكون مرجعاً، فالمرجعية أيضاً تحتاج إلى أن يتوفر على بقيَّة الصفات التي أفادها الإمام العسكري (سلام الله تعالى عليه).
لماذا يجب أن يتعين على الفقيه أن يكون واجداً لكلِّ هذه العلوم؟
باختصار شديد: الجهد الجهيد الذي يبذله طالب العلم في تحصيل هذه العلوم تكون نتيجته هي القدرة على فهم كتاب الله، وسنة رسوله (ص)، وكلمات أهل البيت (ع). فما لم يكن عارفًا بهذه العلوم فإنَّ فهمه لمصدري التشريع لن يكون تامًا، وهذه العلوم تسترعي من طالب العلم أن يقضي عمره الطويل ليصل إلى هذه المرتبة، وهي مرتبة فهم كتاب الله وسنة نبيِّه (ص) وكلام أهل البيت (ع).
والعجيب "وإن عشتَ أراكَ الدهرُ العجيبَ" أن يأتي أحدهم قد قرأ مجلة، وقرأ جريدة، وقرأ كتابًا من هنا وكتابًا من هناك ثمَّ يُفتي ويستظهر، ويقول هكذا أفهم، وهذا رأيي، وهذه وجهة نظري!! فأيُّ فرقٍ بين هذا وبين مَن يتصدى لتشخيص الأمراض ووصف الدواء وهو لا يُحسن من الطب إلا بمقدار ما قرأه في الصحف والكتب المتداولة في الأسواق، فكما يعدُّ المتصدِّي لذلك على غير أهلية متقمَّصًا لغير ردائه بنظر العقلاء، ويعدُّ مَن يقبل بتشخيصه ووصفه للدواء سفيهًا بنظر العقلاء فكذلك ينبغي أنْ يُعدّ من يدعي فهم كتاب الله وسنة نبيِّه (ص) على غير أهلية.
ومع الأسف فإنَّ هناك الكثير من هؤلاء، مِمَّن يتصدى ويقول هذا رأيي، وهذا ما أفهمه وتلك هي من مهازل هذا الزمن.
تنويه:
وقبل أنْ نختم الحديث نريد أن نشير إلى أمرٍ كثيراً ما يتداوله الناس، وهو لماذا لا يُفتي الفقهاء بكذا؟ ولماذا يحرم الفقهاء هذا؟ ولماذا يحللون ذاك؟ ولو كنتُ فقيهاً لأبحتُ كذا، ولحرّمت كذا!
كثيراً ما يصدر هذا من الناس، وهو ناشئ عن جهلهم بواقع حال المسألة، وما هي المساحة التي يستطيع الفقيه أن يتحرَّك في إطارها، فالفقيه ليس له أن يفتي من رأيه، أو أن يُحَكِّم ذوقه، أو فهمه، فالفقيه ما هو إلا مُعرِّف للناس بمفادات الكتاب والسنة وكلام أهل البيت (عليهم السلام)، فليس له أن يُفتي بما يستحسنه أو يستحسنه الناس، فكلُّ ما يصدر عن الفقهاء إنَّما هو مقتضى ما فهموه من المصادر التشريعية، وليس لهم أن يُفتوا بغير ما تقتضيه ضوابط الفهم لمصادر التشريع.
الهوامش:
1- وسائل الشيعة ج27 / ص131 / كتاب القضاء باب 10 من أبواب صفات القاضي / ج20.
2- لاحظ الغيبة -الشيخ الطوسي- ص353.
3- لاحظ الغيبة -الشيخ الطوسي- ص359.
4- الغيبة -الشيخ الطوسي- ص367.
5- الغيبة -الشيخ الطوسي- ص393.
6- الغيبة -الشيخ الطوسي- ص395.
7- وسائل الشيعة ج27 / ص131.