هل البحث في الإمامة ’ نبش’ في الخلافات التاريخية؟

الشيخ معتصم السيد أحمد
زيارات:1071
مشاركة
A+ A A-
يمكن تفهم هذا السؤال وتبريره إذا انطلقنا من كون الإمامة قيادة سياسية محكومة بظرفها التاريخي، ولا يمكن فهمه وتبريره إذا انطلقنا من كون الإمامة تمثل الامتداد الديني لوظيفة النبي والرسالة.

اشترك في قناتنا ليصلك كل جديد

وعليه فإن هناك جانبان في بحث الإمامة، الجانب الأول تاريخي وهو ما يتعلق بالقيادة السياسية والاجتماعية للظرف التاريخي الذي كان فيه الإمام، والجانب الثاني هو الجانب الديني والرسالي وهو ما يتعلق بالمرجعية والقيادة الدينية، فإن كان الأول محكوم بالظرف التاريخي فإن الثاني باقي ببقاء الدين والرسالة، وهذا ما نص عليه الحديث المتواتر بين جميع الطوائف الإسلامية وهو قول النبي (صلى الله عليه وآله): (إنّي تركت فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ولن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما) فخلافة النبي في هذا الحديث تشمل كلا البعدين القيادة السياسية والقيادة الدينية، وبذلك لا يكون بحث الإمامة في هذا العصر بقصد تغيير ما وقع بالفعل في التاريخ لكونه أمراً مستحيلاً بالبداهة، وإنما يكون بحثاً عن مسؤولية المسلم المعاصر في تحديد مرجعيته الإسلامية وقياداته الدينية، وهذا أمر لا يمكن لمسلم الاستغناء عنه بالضرورة.

ومما لا يخفى على الجميع أن الأمة الإسلامية انقسمت إلى شيعة وسنة، ولكل مذهب منظومته الإسلامية الخاصة عقائدياً وفقهياً وحتى فكرياً، ولكي يتم فهم هذا التباين لابد من البحث عن أسبابه التاريخية، وبذلك لا يكون بحث الإمامة مجرد بحث تاريخي منفصل عن واقع المسلم المعاصر، بل هو بحث حاضر في جميع الخيارات الإسلامية التي يتعامل معها المسلم بشكل يومي.

ويبدو أن الدافع خلف هذا السؤال هو العمل على إيقاف الاصطفاف المذهبي والصراع الطائفي من خلال إيقاف البحث في الخلافات التاريخية، إلا أن ذلك لا يعد خياراً صحيحاً للقضاء على الطائفية التي مزقت الأمة وأضعفتها، فلو قمنا برصد ما يقال لتأجيج الخلاف بين التوجهين نجده يرجع بشكل مباشر الى موقف الشيعة من الخلافة والخلفاء الذين هم في نظر الشيعة قد تعدوا على حق أهل البيت(عليهم السلام)  في الإمامة والقيادة، وفي نظر السنة يمثلون شخصيات مقدسة لا يفهم الإسلام إلاّ من خلالهم، وبالتالي ما تعانيه الأمة اليوم من انقسام يرجع الى الانقسام الذي حدث بعد سقيفة بني ساعدة وما أعقبها من حروب في الجمل وصفين والنهروان وغيرها، وعليه لا يمكن النظر لتلك الحوادث التاريخية كحوادث منفصلة عما نعيشه اليوم، أو نعتبرها بعيدة عن ما يؤثر على خياراتنا السياسية والثقافية، بل أصبح واقعنا صورة أخرى عن تاريخنا، وبالتالي من يحاول أن يتجاوز تلك الفترة التاريخية بالقول: (حرب سلمت منها سيوفنا فلتسلم منها السنتنا)، لا يمكنه تقديم مساهمة حقيقية؛ طالما فهمنا للإسلام اليوم، إما قائم على تقديس الخلفاء واستلهام الشرعية من تجربتهم التاريخية، أو قائم على الوقف ضد الخلفاء وكل القيادات الدينية التي فرضت تاريخياً، ومحاولة حل الأزمة الطائفية من خلال تجاوز تلك الفترة ونسيانها، أشبه بالحكم على السنة والشيعة بالتنازل عن فهمهما للإسلام والتنصل عنه، فالإسلام في المنظور الشيعي يرتكز على الحق الإلهي والشرعي لإمامة أهل البيت (عليهم السلام)، وبالتالي يقوم على رفض كل الخيارات التي لا تقوم على هذا الأساس، والإسلام في المنظور السني يعتقد إنَّ صحابة رسول الله (صلى الله عليه وآله)  وكل ما أنجزوه في التاريخ يمثل الفهم الأصيل للإسلام، وبكلا الفهمين لا يمكن أن تقبل الدعوى القائمة على تناسي أو تجاهل ما جرى في التاريخ، فتلك الدماء التي سفكت في التاريخ هي ذاتها الدماء التي تسفك اليوم، وهذا الصراع الراهن هو امتداد لذلك الصراع.

ويبدو أن العقدة الكبرى امام الوضع الثقافي المتحكم في الوسط الإسلامي، هو هيمنة التاريخ الذي مازال يتحكم في خياراتنا المعاصرة، فما دام أهل السنة ينظرون الى التاريخ كهوية إسلامية يؤدي الانفكاك عنها انَّفكاك عن الإسلام، وما دامت خيارات الأمة السياسية مستمدة من واقع التجربة التاريخية، وما دام الموقف من الحاكم محكوم برؤية دينية مستمدة من التاريخ أيضاً، لا يمكن ضمن هذه الهيمنة التاريخية أن نتأمل في صنع واقع تمليه علينا قناعاتنا وخياراتنا التي تفرضها علينا ضرورات الحياة الراهنة، ولا يمكن أن تحلم الأمة بمستقبل تتمتع فيه المنطقة بالاستقرار والتنمية، ولذلك من الضروري أن تكون هناك مواجهة تفتح فيها ملفات التاريخ من جديد، ودراستها ضمن السياق الذي تفرضه الضرورة المنهجية والأكاديمية بدون تحامل او تقديس، وحينها سوف تتمكن الأمة من تحقيق وعي خاص للإسلام، تكون قد ساهمت في صنعه وليس مجرد واقع موروث. وما لم تنجز الأمة هذه المهمة، سوف تستمر الأنظمة باللعب على هذه الاختلافات، فما لم نستطع أن نحسم الصراع التاريخي لا يمكن أن نحسم ما يجري في العراق وسوريا وغيرها من مواقع الاحتكاك الشيعي السني.

ومن هنا فإنَّ خيار الهروب من مواجهة التاريخ والتعفف عن تقييم ما وقع بين الصحابة، هو خيار خادع ومراوغ يتستر بالورع عما وقع بين الصحابة؛ وفي المقابل لا نجد هذا التورع فيما يقع اليوم بين المسلمين من صراع، فلا دمائهم سلمت من سيوفهم، ولا ألسنتهم كفت عن صب الزيت على النار، من تحريض وتكفير وإباحة دماء وأعراض، ومازالت تلك السيوف مشهورة في وجه بعضنا البعض، ولم تسلم الألسن من خلال هذا الضخ الإعلامي والتحريض الذي دخل كل بيت عبر شاشات التلفزة ووسائل التواصل الاجتماعي.

فمن يعتقد إنَّ بحث الإمامة قضية تاريخية فهو واهم؛ لإنَّ مواقف المسلمين الراهنة ليست سوى انعكاس لمواقفهم اتجاه ما دار في التاريخ، فالنظرة الموضوعية تقودنا حتماً للاعتراف بوجود تباين بين الشيعة والسنة، وهذا التباين لا ينتمي الى ثقافة تشكلت في القرن الواحد والعشرين، وإنَّما تمتد بجذورها الى تلك الثقافة التي بدأت بوادرها تتشكل في السقيفة، ثم في الثورة على عثمان، الى أن تباينت الخطوط وتمايزت في صفين، فثقافة الإنسان المسلم اليوم هي ذاتها ثقافة المسلم الذي كان في التاريخ، فالجميع ابناء الماضي الذي لا يمكن الهروب منه أو التستر عليه.

والاعتراف بهذه القضية يمثل الخطوة الأولى لفض الاشتباك الحاصل، ومن أجل نزع فتيل الأزمة بين جناحي العالم الإسلامي -الشيعة والسنة- لا بد أن ينزع سبب الخلاف بينهما من الأساس، وذلك لا يكون إلا من خلال البحث التاريخي الذي ينصف الإمام علي وأهل البيت (عليهم السلام) من خصومهم الذين حرفوا مسار الرسالة.

وبالجملة يمكننا إرجاع التباين المذهبي، والعقدي، والسياسي، بين الشيعة والسنة، الى التباين الذي حصل في التاريخ، ومازالت معالم هذا الصراع تتجذر كل يوم أكثر مما مضى، وقد حاول كل من الشيعة والسنة الدفاع عن رؤيتهم التاريخية وخياراتهم العقائدية والفقهية، وقد أُلفت كتب كثيرة في هذا الشأن، وبرغم ما وقع على الشيعة من تهميش واستبعاد، إلاّ إنَّهم قد تمكنوا من توضيح خياراتهم والدفاع عنها في عشرات الكتب التي كان لها الدور الكبير في توضيح الحقائق وكشف ما وقع في التاريخ من تزييف وانحراف.

مواضيع مختارة