هناك سؤال يُطرح عن نشوء "بداية التقليد" ما إذا كان قد بدأ بعد وفاة آخر وكيل للإمام الحجة عجل الله فرجه الشريف، او في زمن الشيخ الانصاري رحمه الله كما يزعم البعض.
ان التقليد الشرعي هو التقليد العرفي المتمثل برجوع غير العالم إلى العالم، مع فارق أن التقليد الشرعي يلتمس فيه الحجة لما يترتب عليها من تنجيز وتعذير.
ونعني بالتنجيز: هو أن غير المختص عندما يثبت لديه أن هذا الفقيه العالم بالأحكام الشرعية قد توفرت فيه الشروط التي تصحح الرجوع إليه واخذ الأحكام الشرعية منه، وان فتواه حجة تنجز التكليف في حقه، أي تجعله جاهزاً للامتثال، و يستحقّ المكلّف العقاب في حالة تخلّفه عن هذه التكاليف.
والتعذير: هو انه يعطي المجال للاعتذار أمام اللّه تعالى عند عدم إصابة الفتوى للواقع المطلوب.
وجاء هذا لان التقليد العرفي ظاهرة بشرية عامة قامت عليها سيرة الناس (العقلاء) في جميع شؤونهم الحياتية، حيث يرجع غير العالم في كل مجال من مجالات الحياة الى العالم.
وجاء المشرع الاسلامي، واقر هذه الظاهرة في مجال الامتثالات الشرعية فانبثق منها مظهر من مظاهر سيرة المتشرعة (المسلمين) حيث يرجع غير المختص الى المجتهد.
وتاريخ المسلمين المتشرعين (وهم المسلمون الملتزمون بالتشريع الاسلامي) أقوى شاهد على ذلك.
هل قلّد المسلمون في زمن النبي (ص)؟
فقد بدا التقليد الشرعي، بوصفه ظاهرة شرعية اجتماعية، في عهد رسول اللّه (صلى الله عليه و آله)، وبتخطيط منه (صلى الله عليه و آله) ثم بتطبيقه من قبل المسلمين بمرأى ومسمع منه (صلى الله عليه و آله) وتحت إشرافه و بإرشاده.
وتمثل هذا في الأشخاص الذين كان ينتدبهم (صلى الله عليه و آله) للقيام بمهمة تعليم الأحكام الشرعية في البلدان و الأماكن التي اسلم أهلها في عصره.
ومن هذا بَعْثه (صلى الله عليه و آله) مصعب بن عمير إلى المدينة المنورة، و معاذ بن جبل إلى اليمن.
فقد كان المسلمون في هذه ألاماكن النائية عن مقر النبي (صلى الله عليه و آله)،
يتعلمون الأحكام من هؤلاء الصحابة المنتدبين لهم و المبعوثين إليهم، ويعملون وفق ما يتعلمون منهم.
وكان المسلمون عندما يحتاجون إلى معرفة حكم شرعي للعمل به يسألون هؤلاء ويجيبونهم ويعملون وفق ما يفتونهم به.
في هذا الصدد يقول السيد الخوئي قدس سره: "التقليد كان موجودا في زمان الرسول (صلى الله عليه و آله) وزمان الأئمة عليهم السلام لان معنى التقليد هو اخذ الجاهل بفهم العالم، ومن الواضح أن كل احد في ذلك الزمان لم يتمكن من الوصول إلى الرسول الأكرم أو احد الأئمة عليهم السلام و اخذ معالم دينه منه مباشرة، واللّه العالم ".
الأئمة عليهم السلام والتقليد
أما الأئمة عليهم السلام فقد أرجعوا شيعتهم الى المتخصصين في معالم الدين، وهناك جملة من الروايات استدل بها على حجية الفقيه ورد بعضها عن الصادقين (عليهما السلام)، ومنها روايات الامر بالإفتاء والارجاع الى آحاد الفقهاء والعلماء.
فعن الحسن بن يقطين، قال: قلت لأبي الحسن الرضا (عليهم السلام): جعلت فداك! إنّي لا أكاد أصِل إليك أسألك عن كلّ ما أحتاج إليه من معالم ديني، أ فيونس بن عبد الرحمن ثقة، آخذ عنه ما أحتاج من معالم ديني؟ فقال: نعم
وعن أحمد بن إسحاق، عن أبي الحسن (عليهم السلام) قال سألته وقلت: من أعامل؟ وعمّن آخذ؟ وقول من أقبل؟
فقال: «العمري ثقتي، فما أدّى إليك عنّي، فعنّي يؤدّي. وما قال لك عنّي، فعنّي يقول. فاسمع له! وأطِع! فإنّه الثقة المأمون». قال: وسألت أبا محمد (عليهم السلام) عن مثل ذلك، فقال: العمري وابنه ثقتان. ...
وعن أبان تغلب، قال: قال لي أبو عبد اللّه (عليهم السلام): جالس أهل المدينة، فإنّي أحبّ أن يروا في شيعتنا مثلك.
و عن سليمان بن خالد الأقطع، قال: سمعت أبا عبد اللّه (عليهم السلام) يقول: «ما أحد أحيا ذكرنا وأحاديث أبي(عليهم السلام)، إلّا زرارة، وأبو بصير ليث المرادي، ومحمد بن مسلم، وبريد بن معاوية العجلي، ولولا هؤلاء، ما كان أحد يستنبط هذا. هؤلاء حفّاظ الدين، وأمناء أبي(عليهم السلام) على حلال اللّه وحرامه، وهم السابقون إلينا في الدنيا، والسابقون إلينا في الآخرة».
وعن عبد اللّه بن أبي يعفور، قال: قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام): إنّه ليس كلّ ساعة ألقاك، ولا يمكن القدوم، ويجيء الرجل من أصحابنا، فيسألني، وليس عندي كلّما يسألني عنه، قال: فما يمنعك من محمّد بن مسلم الثقفي؛ فإنّه قد سمع من أبي، وكان عنده وجيهاً.
و عن شعيب العقرقوفي، قال: قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام): ربما احتجنا أن نسأل عن الشيء فمن نسأل؟ قال: عليك بالأسدي، يعنى أبا بصير.
و عن علي بن المسيّب، قال: قلت للرضا(عليه السلام): شقّتي بعيدة، ولست أصل إليك في كلّ وقت، فممّن آخذ معالم ديني؟ فقال: من زكريّا بن آدم القمّي، المأمون على الدين والدنيا.
ان هذه الروايات وغيرها تبين دور المتخصصين كوسطاء لبيان معالم الدين في زمن الظهور قبل الغيبة، وهذا هو الدور الذي يقوم به الفقيه في زمن الناس هذا مع تفاوت في بعض الجوانب التي تفرضها طبيعة الغيبة والبعد الزمني الطويل بيننا وبين عصر الظهور، الا ان الرجوع الى المتخصص والاعتماد على قوله كطريق الى الواقع لم يختلف من حيث الجوهر والمضمون.
التقليد على لسان علمائنا القدماء
قال الشيخ الصدوق رحمه الله في كتابه كمال الدين وتمام النعمة: "فإن قيل: فكيف التمسك به ولا نهتدي الى مكانه ولا يقدر أحد على إتيانه؟
قيل له: نتمسك بالإقرار بكونه وبإمامته وبالنجباء الاخيار الفضلاء الابرار القائلين بإمامته المثبتين لولادته وولايته، المصدقين للنبي والائمة في النص عليه باسمه ونسبه من ابرار شيعته العالمين بالكتاب والسنة. ..".
وهذه دعوة صريحة للتقليد واتباع العلماء أشار إليها الشيخ، رحمه الله، بالنجباء الأخيار والفضلاء الأبرار.. ألخ.
وقال الشيخ المفيد رحمه الله في كتاب الرسالة الاولى في الغيبة: "فإن قال: اذا كان الامام عندكم غائبا ومكانه مجهولا فكيف يصنع المسترشد ؟ وعلى ماذا يعتمد الممتحَن فيما ينزل به من حادث لا يعرف له حكما والى مَن يرجع المتنازعون ؟ لاسيما ان الامام نُصب لما وصفناه.
قيل له: هذا السؤال مستأنف... الى ان يقول: فأما الممتحَن بحادث يحتاج الى علم الحكم فيه فقد وجب ان يرجع في ذلك الى العلماء من شيعة الامام عليه السلام".
وقال السيد المرتضى رحمه الله في كتاب الذريعة: "والذي يدل على حسن تقليد العامي للمفتي انه لا خلاف بين الامة قديما وحديثا في وجوب رجوع العامي الى المفتي وانه يلزمه قبول قوله لأنه غير متمكن من العلم بأحكام الحوادث ومن خالف في ذلك كان خارقا للإجماع".
وقال شيخ الطائفة ابو جعفر محمد بن الحسن الطوسي في كتابه عدة الأصول: "اني وجدت عامة الطائفة (يعني الإمامية) من عهد أمير المؤمنين إلى زماننا هذا (القرن الخامس الهجري) يرجعون إلى علمائها و يستفتونهم في الأحكام و العبادات، و يفتونهم العلماء فيها، و يسوغون لهم العمل بما يفتونهم به".
ويقول أيضاً رحمه الله "و ما سمعنا أحدا منهم قال لمستفتٍ: لا يجوز لك الاستفتاء، و لا العمل به، بل ينبغي أن تنظر كما نظرتُ، و تعلم كما علمت، و لا أنكر عليه العمل بما يفتونهم. وقد كان منهم الخلق العظيم عاصروا الأئمة عليهم السلام، و لم يُحكَ عن واحد من الأئمة النكير على هؤلاء، و لا إيجاب القول بخلافه، بل كانوا يصوبونهم في ذلك، فمن خالف في ذلك كان مخالفا لما هو المعلوم خلافه".
وقد استمر الرجوع الى المتخصص واشتدت الحاجة اليه في عصر الغيبة الكبرى وما زال الله يمن علينا بعلماء عدول ثقات متخصصين في معارف الدين كالشيخ الصدوق والمفيد والسيد المرتضى والشيخ الطوسي وابن ادريس الحلي و القاضي بن البراج والمحقق الحلي والعلامة الحلي والشهيدين العاملين وما زالت معاهد العلم والتحقيق تزخر بالعلماء وتعد المحققين المدققين زاد الله في توفيقهم وحرسهم بحراسته من كيد أعداء المذهب.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
*مقتطف من مجلة «البلاغ» الصادرة عن شعبة البحوث والدراسات – العدد الأول