يقول تعالى: ﴿وَإِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ ۖ وَإِذًا لَّاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا ﴿٧٣﴾ وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا ﴿٧٤﴾ إِذًا لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا﴾. [الإسراء: 73-75]
ظهر في التاريخ الإنساني، كثير من القادة الذين تبوؤوا مواقع الزعامة في مجتمعاتهم، والتفَّ حولهم جمهور الأتباع.
ويمكن تصنيف هؤلاء القادة إلى صنفين رئيسين:
الصنف الأول: القادة الإلهيون، الذين يحملون رسالة الله تعالى إلى عباده، وهم الأنبياء، والأئمة، ومن يسير على دربهم، ويتمسّك بهديهم.
الصنف الثاني: الزعامات التي تنطلق من طموحات ذاتية، أو تطلّعات اجتماعية، كالسياسيين، وشيوخ القبائل، وقادة الحركات الفكرية والاجتماعية.
ومن أهم الفوارق المائزة بين الصنفين، أنّ القادة الإلهيين يلتزمون بقيم الرسالة الإلهية التي يحملونها، ويجتهدون في الارتقاء بوعي الناس إلى مستوى تلك القيم والمبادئ، أما الزعامات الأخرى فإنّها غالبًا ما تتبنّى ما يجذب إليها جمهور الناس، من أفكار وشعارات ومواقف، وإن كانت مجانبة للحقّ والصّواب.
طبيعة الجمهور
إنّ الطبيعة السّائدة في جمهور الناس، هي النزوع نحو الانفعال العاطفي، على حساب التفكير العقلاني، والانشداد لعصبية الانتماء القبلي والعرقي والقومي والمناطقي والطائفي، والتمسّك بالأعراف والتقاليد الموروثة، والقبول بالأفكار السّاذجة والبسيطة، على حساب الأفكار العلمية العميقة، والنزوع نحو الحسية أكثر من الأفكار النظرية التجريدية.
وحين تتبنّى أيّ جهة ما يتماهى مع توجهات الجمهور وميوله، فإنّها تكسب ولاء الجمهور وقبوله. وهذا ما تجيده الزعامات المصلحية، وتوظّفه في تحقيق زعامتها، وتوسيع قاعدتها الشعبية.
إنّ هذا النوع من القيادات تبحث عمّا يحرّك مشاعر الجمهور ويجذبه باتجاهها، حقًّا كان أو باطلًا، فهي قد تطرح ما لا تؤمن به، لكنّها تتظاهر بالتلبّس به أمام الجمهور، وقد تحدّث نابليون أمام مجلس الدولة الفرنسي ليقول لهم بصراحة: (لم أستطع إنهاء حرب الفاندي إلّا بعد أن تظاهرت بأنّي كاثوليكي حقيقي، ولم أستطع الاستقرار في مصر إلّا بعد أن تظاهرت بأنّي مسلم تقي، وعندما تظاهرت بأنّي بابوي متطرّف استطعت أن أكسب ثقة الكهنة في إيطاليا، ولو أنه أتيح لي أن أحكم شعبًا من اليهود لأعدت من جديد معبد سليمان)[1] .
وقد سلّط علم النفس الاجتماعي الأضواء على خصائص الطبيعة الجماهيرية، ومن أهم مفكريه العالم الفرنسي (غوستاف لوبون، 1841- 1931م) وله كتاب مرجعي في هذا العلم، هو (سيكولوجية الجماهير، صدر عام 1895م).
وقد انطلق غوستاف لوبون من دراسته للحركات الجماهيرية في أوروبا وخاصّة في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.
ومن الأفكار التي يؤكدها (لوبون) في كتابه: إنّ من خصائص الجماهير: سرعة الانفعال، والسّذاجة، والتأثّر السّريع، وهيمنة النّزعة العاطفية، والميل للعواطف المتطرفة، وهي غير ميالة كثيرًا للتأمل والمحاكمة العقلية، وقد تنتقل من النقيض إلى النقيض بسرعة البرق، وذلك تحت تأثير المحرّض.
وإذا كانت بعض أفكاره محلّ جدل وأخذ وردٍّ، حيث بادر معاصره (غابرييل تارد) إلى الرّد عليه، وإصدار كتابه (الرأي والجمهور) عام 1901م، أي بعد ست سنوات من صدور كتاب (سيكولوجية الجماهير).
إلّا أنّ جوهر فكرة الكتاب يصدقها التاريخ الإنساني في مختلف عصوره، وحتى في عصرنا الحاضر، مع تقدّم العلم، واتساع مساحة المعرفة عند أبناء المجتمعات، وتوفر أدوات العلم ووسائل المعرفة والاطّلاع، إلّا أنّ ذلك لم يضعف تأثير معظم تلك الخصائص التي تحدّث عنها (لوبون) على الجماهير المعاصرة. مما أعطى للإعلام ووسائط التواصل الحديثة دورًا كبيرًا في التأثير على الرأي العام، في مختلف المجتمعات، من خلال الاستفادة من تلك الخصائص.
معاناة الأنبياء
ومن هنا كانت الصّعوبة بالغة في حركة الأنبياء والرّسل؛ لأنّهم يريدون الارتقاء بوعي الناس، وليس الاستجابة لرغباتهم وتوجهاتهم العاطفية الانفعالية.
إنّ الله تعالى بعث الأنبياء لإنقاذ الناس من الجهل ومن هيمنة الخرافات والأساطير على عقولهم ونفوسهم، ولتحصينهم من تأثير الانفعالات العاطفية، ولا يمكن للأنبياء أن يتلوّنوا بغير صبغة رسالتهم الإلهية، ولا أن يجاروا الناس في ضلالهم وانحرافهم ليتمكّنوا من قيادتهم.
يقول تعالى: ﴿كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَىٰ أَنفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ﴾. [المائدة: 70]
حيث يخوض الأنبياء صراعًا ومعارك مستمرّة، ضدّ النزعات السّلبية التي تظهر في جمهور مجتمعاتهم، حتى بعد قبولهم للدين الإلهي، كالنزوع إلى الميل العاطفي وسطحية التفكير، وقبول الأساطير والخرافات، وروح العصبية، والمبالغة في ردود الفعل.
إنّ القرآن الكريم يتحدّث عن بني إسرائيل، أنّهم بعد أن نصرهم الله على فرعون وأغرقه وجيشه، طلبوا من نبي الله موسى أن ينصب لهم أصنامًا يتوسّلون ويبركون بها كحال المشركين، يقول تعالى: ﴿وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ * وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَىٰ قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَىٰ أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَٰهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ * إِنَّ هَٰؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ * قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَٰهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾. [الأعراف: 137-140]
إنّ فكرة الإيمان بالإله المتعالي عن إدراك الحواس، الذي لا يحدّه زمان ولا مكان، عسير الهضم على من ألِفُوا التصوّرات السّطحية السّاذجة، لذلك يطلبون من نبيّهم أن يضع لهم أصنامًا تجسّد فكرة الإله.
وقد واجه النبي محمد (ص) المشكلة نفسها، حيث طلب منه بعض أصحابه أمرًا مشابهًا لطلب بني إسرائيل، فقد روي أنَّ رسولَ اللهِ لمَّا خرَجَ إلى خَيبرَ، مَرَّ بشجرةٍ للمشركينَ يُقالُ لها: ذاتُ أَنْواطٍ، يُعلِّقونَ عليها أسلحتَهم، تبركًا بها وطلبًا للنصر، فقالوا: يا رسولَ اللهِ، اجعَلْ لنا ذاتَ أَنْواطٍ كما لهم ذاتُ أَنْواطٍ، فقال النبيُّ: «سُبحانَ اللهِ! هذا كما قال قَومُ موسى: ﴿اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ﴾ [الأعراف: 138]، والذي نَفْسي بيدِه، لَتَرْكَبُنَّ سُنَّةَ مَن كان قَبلَكم»[2] .
ضغوط ومحاولات للتأثير على النبي
وقد واجه نبيّنا محمد (ص) كثيرًا من المعاناة في دعوته إلى الله، وتبشيره بالقيم الإلهية، فقد كانوا يضغطون على النبي لكي يهبط وينحدر إلى مستوى أوهامهم وخرافاتهم، حتى يقبلوا دعوته. لكنّه بتسديد الله تعالى له كان يرفض الاستجابة إلى ضغوطهم. وكانت الضّغوط شديدة بحيث لو لا التسديد الإلهي، لكان استجاب لهم بدرجة أو بأخرى.
يقول تعالى: ﴿وَإِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَّاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا * وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا * إِذًا لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا﴾. [الإسراء: 73-75]
وفي آية أخرى يقول تعالى: ﴿وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ﴾. [المائدة: 49]
ويقول تعالى: ﴿وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَات قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَٰذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾. [يونس: 15]
طلبات غريبة
ونقرأ في السّيرة النبوية وما نقلته كتب الحديث، أنّ بعض المسلمين كانوا يطرحون على رسول الله بعض الطّلبات النابعة من العواطف السّاذجة، والمخالفة للقيم الإلهية، فمثلًا:
روى أبو داود السّجستاني بإسناده إلى قيس بن سعد قال: (أتيتُ الحيرَةَ، فرأيتُهم يسجدونَ لِمَرْزبانٍ لهم، فقلْتُ: رسولُ اللهِ أحقُّ أنْ يُسْجَدَ لَهُ، قال فأتيتُ النبيَّ فقُلْتُ: إِنَّي أتيتُ الحيرةَ فرأيتُهم يسجدونَ لمرزبانٍ لهم، فأنتَ يا رسولَ اللهِ أحقُّ أنْ نسجدَ لكَ)[3] .
ونقرأ في الخبر عن معاذ بن جبل (أنه أتى الشّام فرأى النّصارى يسجدون لأحبارهم وعلمائهم وفقهائهم، فقال: لأيّ شيءٍ تفعلون هذا؟ قالوا: هذه تحيّة الأنبياء، قلنا فنحن أحقّ أن نصنع بنبيّنا ، فلما قدم على النبي سجد، فقال : ما هذا يا معاذ؟ قال: إنّي أتيت الشّام فرأيت النصارى يسجدون لأساقفتهم وقسّيسيهم ورهبانهم وبطارقتهم، ورأيت اليهود يسجدون لأحبارهم وفقهائهم وعلمائهم، فقلت: أيّ شيءٍ تصنعون هذا؟ وتفعلون هذا؟ قالوا: هذه تحيّة الأنبياء، قلت: فنحن أحقّ أن نصنع بنبيّنا، فقال نبي الله : إنّهم كذبوا على أنبيائهم، كما حرّفوا كتابهم)[4] .
ومن هذه الأخبار ما روي أنَّ رَجُلًا قالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ، نُسَلِّمُ عَلَيْكَ كَما يُسَلِّمُ بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ، أفَلا نَسْجُدُ لَكَ؟ قالَ: «لَا، وَلَكِنْ أَكْرِمُوا نَبِيَّكُمْ، وَاعْرِفُوا الْحَقَّ لِأَهْلِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُسْجَدَ لِأَحَدٍ مِنْ دُونِ اللَّهِ»[5] .
الرّسالة والدّرس
وحينما يتحدّث القرآن عن مثل هذه المواقف، فإنّ من أغراضه تحذير حملة الرسالة وقادة الدين في كلّ عصر من الوقوع في هذا المطب.
فإنّ الجمهور قد تظهر فيه توجّهات انفعالية عاطفية، وتكون الفرصة سانحة لمن يريد ركوب الموج، لكنّ الدّعاة المخلصين الصّادقين هم من يلجؤون إلى عون الله، وتثبيته لنفوسهم حتى لا يخضعوا لهذه الضّغوط، ولو بعنوان ثانوي من أجل الاستقطاب والجذب، فإنه لا يطاع الله من حيث يعصى.