السمة الغالبة للملحد المعاصر بعد العجرفة هي الجهل - الجهل الهائل. يُظهر الملحدون جهلاً أكثر من أي جماعة في العالم، وهذا الجهل، في واقع الحال، يجب أن يُحسب على أنها سمتهم المميزة الرئيسية، وذلك لحجم المعلومات التي يبدو أنهم غافلون عنها. غير أن هذا الجهل سيتحول الى المرتبة الثانية، في سماتهم، إذا ما نظرنا الى الطبيعة النوعية لعجرفتهم - أي مستوى التعالي الذي يظهرونه تجاه المؤمنين.
يُعرَّف الجهل بأنه "نقص في المعرفة أو المعلومات"، ويمكن أن يتخذ أشكالاً عديدة، لكن النوع الأسوأ – النوع الذي يمكن أن يتسبب بالكثير من المشاكل – هو ذلك النوع الذي يحمل معه قدراً ضئيلاً من المعرفة.
إن معظمنا يعرف مقولة ألكسندر بوب المشهورة، "القليل من التعلم شيء خطير"، وهذا ما أعنيه بالضبط.
يمكن لمقدار صغير من المعلومات، المستقاة من الكتب أو البرامج التلفزيونية أو المقررات الجامعية، أن يضلل الناس ويجعلهم يعتقدون أنهم أكثر خبرة مما هم عليه في الواقع. يمكن أن يمنحهم الوهم بأنهم يمتلكون المعرفة حقًا وهم بعيدون كل البعد عنها. وهذا الوهم - تمامًا مثل السراب الناجم عن ارتفاع الهواء الساخن في الصحراء - يمكن أن يدفع الناس إلى التصرف بطرق مدمرة.
على سبيل المثال، في أوائل القرن العشرين كان يُعرف القليل عن عنصر الراديوم الكيميائي. لم يتم اكتشاف مخاطر النشاط الإشعاعي بعد، لذلك بدأ عدد قليل من الأطباء الجهلة في استخدام هذه المواد المشعة كعلاج لمختلف الأمراض. في الواقع، تم تصنيع جميع أنواع المنتجات - بما في ذلك الأدوية ومعاجين الأسنان وكريمات الوجه وحتى أجهزة الاستنشاق - باستخدام هذه المواد الخطرة. كانت النتيجة عددًا كبيرًا من الوفيات الجديدة بالسرطان - كل ذلك لأن بعض "الخبراء" كانوا يمتلكون قدرًا محدودًا للغاية من المعرفة.
يمكن رؤية هذه الديناميكية نفسها عمليًا في كل مجال من مجالات الحياة. كم عدد الشباب الذين تلقوا بعض الدروس في فنون الدفاع عن النفس وخلصوا عن طريق الخطأ إلى أن لديهم مهارات قتالية كبيرة؟ ماذا يحدث لهؤلاء الهواة الجاهلين عندما يدخلون في مشاجرة مع شخص لديه بالفعل مهارات متقدمة في القتال غير المسلح - أو مع شخص لديه سلاح؟
أو ماذا عن عالم الأعمال؟ كم عدد الأشخاص الذين قرأوا بعض الكتب عن ريادة الأعمال وعادوا معتقدين أنهم يتمتعون بدهاء جي بي مورجان التجاري - ليهدروا مدخراتهم على بعض الخطط الغبية التي كان سيتجاهلها أي رجل أعمال متمرس؟
وماذا عن كل تلك النماذج البشرية من الذين يقومون بالقليل من البحوث الطبية على الانترنت وبعدها يعتبرون أنفسهم أطباء، ويشخصون أنفسهم والآخرين على أساس بعض الأعراض العشوائية، وبالتالي يتسببون بكمية هائلة من القلق لجميع المعنيين؟
أو ماذا عن المدرسين الذين يعتقدون أن لديهم عقول جبارة لمجرد أنهم تمكنوا من اكتساب بعض الأحرف بعد أسمائهم؟ ما مقدار الدمار الذي أحدثه هؤلاء الطغاة المتحذلقون في الفصل؟ ما مقدار الضرر الذي لحق بالعقول الشابة سريعة التأثر؟
في كل هذه الحالات وأكثر، يؤدي قدر ضئيل من المعرفة إلى الغلو والتكبر، ومن ثم إلى اتخاذ قرارات خاطئة وأحكام كارثية. هذا هو السبب في أن هذا النوع من الجهل مُغَرِّر للغاية: لأنه يمكن أن يكون غبيًا وخطيرًا.
وهنا مرة أخرى نصل إلى الصورة المثالية للملحد المعاصر، الذي يختلط جهله بالتاريخ مع المقدار المناسب من المعرفة ليصبح ضالاً مضلاً.
الملحدون اليوم لديهم انطباع بأن الإيمان بالله دائمًا ما كان ضارًا بالحضارة. في الواقع، لقد أكدوا أنه، على مدار التاريخ الطويل، أن أولئك الذين اعتنقوا الدين مذنبون بأعظم الشرور التي يمكن تخيلها، وظلوا يرددونها إلى حد الغثيان بأن "الدين كان مسؤولاً عن حروب وقتل وسفك دماء أكثر من أي عامل آخر" - وبالتالي يجب اعتباره آفة على البشرية.
خذ، على سبيل المثال، بعض العبارات النموذجية التي خرجت من قطاع السينما والأفلام. لا يبدو أن المشاهير - الذين لا يُعرف معظمهم بالتفكير العميق - يترددون أبدًا في التعبير عن آرائهم السلبية عن الدين. إلتون جون، على سبيل المثال، قال: "من وجهة نظري سأحظر الدين تمامًا.... الحقيقة هي لا يبدو أن الدين يجدي نفعاً. إنه يحول الناس إلى قوارض كريهة وهو ليس رحيمًا حقًا".
وتتفق الممثلة غوينيث بالترو مع هذا الرأي فتقول: "الدين هو سبب كل المشاكل في العالم. . . وهو السبب في التفرقة بين الناس، فكل ديانة لا تمثل الا مجموعة معينة من الناس، وتتسبب بالحروب".
الكوميدي بيل موراي يعلن: "الدين هو أسوأ عدو للبشرية. لم تقتل حرب واحدة في تاريخ البشرية مثلما قتل الدين من الناس".
ويقول مقدم البرنامج الحواري بيل ماهر: "يجب أن يموت الدين لكي تعيش البشرية. . . نحن أمة غير مستنيرة بسبب الدين".
يمكن تلخيص هذه الطريقة في التفكير بأكملها بتصريح لاري فلينت، ناشر مجلة هاستلر سيئة الصيت، الذي قال: "لقد تسبب الدين في ضرر أكثر من أي فكرة أخرى منذ بداية الزمن. لا يوجد شيء جيد يمكنني أن أقوله عنه".
لا شيء جيد يمكن أن يقال عنه.
الدين هو أسوأ عدو للبشرية.
يجب حظره.
كلمات قوية جداً قد يعتقد المرء أنها ستكون مدعومة بأدلة دامغة، ولكنها ليست كذلك، اذ لا يوجد اي دليل عليها.
لا يمكن لهؤلاء المشاهير الحمقى أن يتجاوزوا العبارات المبتذلة والكليشيهات. وأستطيع القول إنه لا أحد من هؤلاء لديه أدنى فكرة عن كيفية تكون حضارتنا أو ما هي القوى التاريخية التي ساهمت في تقدم المجتمع الحديث. معظمهم ببساطة يرددون أفكارا سمعوها أو قرأوها، والتي يصدف أنها تتفق مع مشاعرهم الخاصة او مع نوعية اخلاقهم "المنحلة". عندما يحاولون استخدام الحجج للتعبير عن معتقداتهم، فإنهم عادة ما يشيرون إلى نفس الكتب القديمة المعادية للدين والقيم والأخلاق، ككتاب "الإله ليس عظيماً" لهيتشنز، أو "وهم الإله" لدوكينز.
بمثل هذا الفهم الضيق ومثل هذه النعوت البغيضة التي يصفون الله بها جل وعلا، لا عجب أن ينظر الملحدون المعاصرون إلى الدين من منظور أسود، ولا عجب أن فهمهم للتاريخ مشوه بالكامل.
باختصار، يعتقد الملحدون أن الدين كان قد أضر بالبشرية لخمسة أسباب أساسية: أولاً، يدعون أن الإيمان بالله يسلب الناس قدرتهم على الانخراط في التفكير النقدي، فضلاً عن قدرتهم على تعلم حقائق جديدة قد تتعارض مع عقيدتهم الخرافية. ثانياً، يعتقدون أن الدين هو عدو للفن والجمال – أنه مسؤول عن الرقابة الواسعة النطاق على الكتب والموسيقى واللوحات والكلام. ثالثاً، يقولون إن الدين يعلم الناس أن يكونوا عاجزين ويعتمدون على كائن أسمى وهمي، بدلاً من أن يعتمدوا على أنفسهم، وبالتالي يدمرون حرية الإنسان ويستعبدون البشرية. رابعاً، يقولون إن الإيمان بالآخرة يمنع الناس من الاستفادة القصوى من هذه الحياة. خامساً، يعتقدون أن الدين يسعى إلى السلطة ويشجع على إراقة الدماء، وبالتالي فهو مسؤول عن عدد لا يحصى من الوفيات.
هذا ما يعتقده الملحدون. لكن هل ان أيا من هذه النقاط صحيح حقًا؟
لنبدأ بفكرة أن الدين يضر بالتفكير النقدي. كما ناقشنا في الفصل السابق، لم يؤمن العديد من عباقرة العلم بالله فحسب، بل كانوا أيضًا أُناس متدينين. لقد رأينا كيف اختار الملحدون تجاهل هذه الحقيقة لأنها تتعارض مع اعتقادهم بأن العلم والإيمان عدوان طبيعيان. لكن إذا حاول الملحدون للحظة أن يكونوا منصفين وسألوا أنفسهم سؤالًا بسيطًا عن سبب إنتاج الدين للعديد من العلماء العظماء، فربما يكونون قد أدركوا ان الجواب بسيط أيضًا: لأن نظام الإيمان بالله قائم على فكرة أن هناك إله عاقل هو مصدر الحقيقة العقلانية.
يعلمنا الدين أن هناك هدفًا وتصميمًا للكون، فإذا كان لشيء ما تصميم، هذا يستتبع أنه يجب أن يظهر نوعًا من السلوك المنطقي والعقلاني. يجب أن يؤدي، بحكم التعريف، إلى ظهور قوانين ومبادئ معينة يمكن التنبؤ بها. هذا النظام من القوانين والمبادئ هو الأساس الكامل للبحث العلمي. لهذا السبب نشأت ممارسة العلم، كمشروع منظم ومستدام للجنس البشري. أحد المعتقدات الأساسية للمؤمنين هو أن الأمور تسير بشكل منطقي، وأكثر من ذلك، أنه من واجبنا كبشر معرفة كيف ولماذا تكون منطقية. هذا هو أساس كل التفكير العقلاني.
في الواقع، من المستحيل دراسة التاريخ دون رؤية الدور الاستثنائي الذي لعبه الأيمان ليس فقط في تطوير التفكير العقلاني ولكن أيضًا في انتشار مثل هذا التفكير - أي إنشاء نظام تعليمي. على الرغم من أهمية التعليم في العالم الوثني، إلا أنه لم يتم إضفاء الطابع المؤسسي عليه حتى جاءت الديانات السماوية وبدأت مسيرتها في جميع أنحاء العالم. لم يكن لدى الإغريق والرومان الأوائل مدارس عامة للتعليم العالي. وكان المؤمنون هم من أنشأ هذه المدارس. عندما اجتاح الهون والقوط والوندال والقوط الغربيون وغيرهم من القبائل "البربرية" ما تبقى من الإمبراطورية الرومانية، كان المؤمنون هم من أخذ القارة الأوروبية المحطمة وفرض عليها العلم والنظام والاستقرار. وفي فترة ما يسمى بالعصور المظلمة، كان المؤمنون مرة أخرى هم الذين حفظوا المخطوطات من العصور القديمة، ونسخوها، ودرسوها بشق الأنفس من أجل نقلها إلى الأجيال القادمة. لذلك، كان المؤمنون مسؤولون بالتالي عن عصر النهضة، أو "إعادة الميلاد" للثقافة اليونانية والرومانية.
فإذا كان الدين معارضًا حقًا للتفكير النقدي، فلماذا كان المؤمنون حريصين على حماية كتابات أفلاطون وأرسطو والفلاسفة الوثنيين الآخرين والحفاظ عليها؟ لماذا لم يحرقوها في نار كبيرة، كما يزعم الملحدون أنهم مولعون جدًا بحرق الكتب التي "تتعارض" مع الإيمان؟
مع كل هذا التركيز على التعلم، فهل من المفاجئ أنه في وقت لاحق، تأسست جميع الجامعات الـ 123 الأولى في أمريكا الاستعمارية -باستثناء واحدة - كمؤسسات دينية بما في ذلك هارفارد، وبرينستون، وييل؟
اما بالنسبة للنقد القائل بأن الدين عدو للفن والجمال؟ يقول جاك هوبرمان، في كتابه "الملحد المقتبس": "لطالما سعت السلطة الدينية إلى ... السيطرة والرقابة على الفن والأدب". وبالمثل، كتب روب بوسطن في مجلة الكنيسة والولاية: "الحقيقة هي أن الرقابة الدينية [للفنون] من قبل الحكومة لها تاريخ طويل في أوروبا والولايات المتحدة".
وهنا يظهر جهل الملحدين التام بأبهى صوره، كيف يمكن لأي شخص أن يتجاهل التأثير الهائل الذي مارسه الإيمان الديني على جميع الأشكال الفنية – البصرية والسمعية والأدبية؟ كيف يمكن لأحد أن يقول إن الدين قد أضر بالعالم في حين أن أعظم اللوحات والهياكل والزخارف المعمارية والمقامات الموسيقية والروائع الأدبية في العالم كانت مستوحاة من المؤسسات الدينية ان لم تكن بطلب منها؟
هل من الممكن أن الملحدين لم يسمعوا عن لوحات مايكل أنجلو أو ليوناردو دافنشي، أو أي من الأعمال الدينية لرامبرانت، وباخ، وموتسارت، وبيتهوفن، وشكسبير، ودوستويفسكي، وميلتون، وديكنز، والآلاف من الآخرين؟ هل من الممكن أنهم رأوا روائع العمارة الهندسية والزخرفة المسيحية والإسلامية في الكاتدرائيات القوطية أو الباروكية والمساجد والمعابد والأديرة ولم يعترفوا بالمرتفعات الفنية التي يمكن للشخص أن يرتفع إليها عندما يستلهم الدين؟
فكما تأسس البحث العلمي على فكرة ان الكون وما فيه مصمم من قبل خالق حكيم عليم، كذلك تأسس الفن الديني على فكرة جمال الله وخلقه الذي صوره بأحسن صورة. هذه هي الفلسفة التي تكمن وراء الكثير من أعظم الأعمال الفنية في العالم.
ومع ذلك يستمر الملحدون في الادعاء بأن الدين كان وما يزال عدوا للفن والجمال!
كما يؤكدون أن الدين يقضي على الحرية. ولكن مرة أخرى، فإن نظرة غير متحيزة للتاريخ تظهر العكس تمامًا. إن المفهوم الكتابي القائل بأن كل الناس خلقهم الله وكرمهم هو أساس حقوق الإنسان العالمية - بما في ذلك الحرية. في الوثنية، كانت الحياة البشرية على هذا الكوكب تعتبر رخيصة. لم يكن قتل الأطفال شائعًا فحسب، بل كان موضع ترحيب. يتم بشكل روتيني التخلي عن الأطفال حديثي الولادة على سفح التل، أو يُتركون ليموتوا جوعاً أو يتجمدوا حتى الموت. او يتم رميهم في النهر - خاصة إذا كانوا اناثاً.
لم يكن الكبار أفضل حالاً.. لقد سمع الجميع عن الساحات الرومانية مثل الكولوسيوم، حيث تعرضت عائلات بأكملها للضرب بالهراوات حتى الموت، أو لنهش الحيوانات البرية، أو للحرق وهم على قيد الحياة فقط للرياضة والتسلية. لم يبد أعظم الكتاب والفلاسفة القدماء واوقرهم اي شكل من اشكال الاعتراض على هذه الممارسات الهمجية. كان المؤمنون هم من حرّموها وحظروها في النهاية.
لماذا؟
لأن الاعتقاد الديني القائم على تساوي البشر، أي أن "جميع البشر خلقوا متساوين" ليس حقيقة واضحة بذاتها، كما ذكر توماس جيفرسون.
بالنسبة للثقافات الوثنية، كانت المساواة مفهومًا غريبًا تمامًا. عندما نظر الناس في العصور القديمة حول العالم، رأوا عدم المساواة في كل مكان - في المظهر الجسدي، والقدرة العقلية، والسلوك الأخلاقي، والممتلكات الاقتصادية والمادية، والسلطة السياسية. فكانت الفكرة القائلة بأن جميع البشر متساوين تبدو غير معقولة بالنسبة لهم.
لهذا فإن الديانات السماوية هي التي أدخلت المبدأ الراسخ "بأن جميع البشر متساوون" ربما ليس في الصفات الجسدية أو الممتلكات المادية، ولكن في الكرامة، وفي الشرف، والقيمة، والروح. والأهم من ذلك هو ما تقوله التعاليم السماوية من أن البشر متساوون لأن الله خلقهم ويحبهم بالتساوي وبدرجة لانهائية. لذلك، لكل حياة بشرية قيمة متساوية وغير محدودة.
النقطة التي يرفض الملحدون فهمها هي أن الديانات السماوية تبنت فلسفة ثورية للمساواة أدت إلى إطلاق عملية فكرية غيّرت كل شيء تدريجيًا.
لقد كانت هذه الديانات السماوية هي التي رفضت الزنا وقدست مؤسسة الزواج - الحب الموجه نحو تربية الأطفال، والذي هو أساس الأسرة التقليدية، وبغض النظر عن مدى استنكار العلمانيين لتلك المؤسسة اليوم، فلا يوجد حتى الآن قوة أخرى أكثر استقرارًا ونفعًا للحضارة منها.
لقد عملت هذه الديانات على رفع مكانة المرأة بشكل كبير، في الوقت الذي كانت فيه ثقافات العالم اجمعها تؤدي في النهاية الى حالة من اضطهادها.
العالم القديم كان يعامل النساء مثل الحيوانات... اقرأ المؤرخين اليونانيين والرومانيين (مثل ثيوسيديدس وبوليبيوس وليفي) للتحقق من صحة ذلك!
والنساء كن ملكًا للرجال، لا يكادون يرقون على العبيد. في عدم امتلاك الحقوق بشكل تام، وهذا ما كان يجعلهن عرضة لنفس الأهوال التي يتعرض لها الأطفال الرضع.
الديانات السماوية غيرت كل هذا الى حد كبير. حيث تمتعت النساء، في ظل تلك الديانات بمميزات هامة، فقد كانت لهن أدوار قيادية في نشر الدين. وكان يتم دعمهن مالياً عندما يموت أزواجهن. كما حصلن على فرص للتعليم إسوة بالرجال، وتم إيواؤهن وحمايتهن.
وهذا التغيير من الواقع السيء المستبد إلى واقع أفضل، فيما يخص النساء، قد شمل العبيد أيضا..
الملحدون نفدوا من إباحة الديانات السماوية للرق والعبودية وامتلاك المؤمنين، في أدوار متعددة في التاريخ، للعبيد.. نفدوا من هذا الى الطعن في انسانية الدين السماوي، ومن ثم نعته بالبشاعة والتخلف. والحال أن هذا الطعن خالٍ من سمات الحقيقة، فالإنسان ـ حسب المنظور الديني ـ هو الكائن الذي اختاره الله وميّزه وجعله خليفته على الأرض. مما أدى إلى التزام الأديان السماوية ـ بشكل مطلق ـ بكل ما يحفظ للإنسان المكانة والكرامة، فألزمت ـ الاديان السماوية ـ اتباعها بعدم المساس بكرامة العبيد واضطهادهم، فضلا عن الحث الكبير على عتقهم ومنحهم الحرية. رغبة في الوصول الى النقطة التي يصبح فيها من الممكن التخلص من الرق نهائيًا.
بحلول العصور الوسطى، استبدلت مؤسسة العبودية – التي قامت عليها الحضارات اليونانية والرومانية والمصرية - بنظام القنانة إلى حد كبير، وهو نظام يضمن على الأقل حقوق الإنسان الأساسية لجميع العمال - مثل الحق في الزواج والتملك.
وعلى العموم فقد كان المتدينون ـ في وقت لاحق ـ هم من بدأوا أول حركة مناهضة للعبودية في التاريخ. ولم تكن الفئات المحايدة للدين كالديمقراطيين، او الجمهوريين أو السياسيين أو النقابات أو أي نوع آخر من الجماعات ذات الوعي الاجتماعي فضلًا عن الملحدين هم من فعلوا ذلك. لقد كانت المؤسسة الدينية هي التي انهت العبودية في أوروبا والعالم بسبب عمل الناشطين المؤمنين.
ونحن نرى هذا التأثير الإيجابي نفسه في كل مجال من مجالات الإصلاح الاجتماعي.
خذ الحرية الاقتصادية مثلا: لم يكن للعالم القديم – المبني على ظهر العبيد – أي مفهوم حقيقي لقيمة العمل. ومع ذلك، أحدثت الديانات السماوية - بتركيزها على المساواة والكرامة الإنسانية - ثورة في مكان العمل. فمفاهيم الملكية الخاصة وحقوق الملكية وحقوق العمال والنقابات، كلها نابعة من التعاليم السماوية الخاصة بالعمل وعلاقتها السليمة بالعدالة الاجتماعية.
خذ عالم السياسة: لقد رأينا كيف أن فكرة كون جميع البشر خلقوا متساوين لها أصولها في الكتب المقدسة. حسناً، فكرة الحكومة المحدودة بأكملها تأتي من التقاليد الكتابية أيضاً. إن فكرة وجود بعض الامور الأخلاقية المطلقة التي وهبها الله، ولا يمكن التهاون والجدال فيها - مثل الحق في الحياة والحرية والسعي لتحقيق السعادة - التي لها الأسبقية على أي مرسوم ملكي او جمهوري، مستمدة من الأديان السماوية. هل من المستغرب أن العديد من الآباء المؤسسين للولايات المتحدة، وما لا يقل عن خمسين من الموقعين الخمسة والخمسين على الدستور الأمريكي، كانوا مؤمنين ملتزمين؟
وبالنسبة للحجة القائلة بأن الأديان السماوية مهتمة للغاية بدخول الناس إلى الجنة لدرجة أنها تتجاهل العناية بهم في هذه الحياة؟
ربما يكون هذا هو أكثر ادعاءات الملحدين سخافة. فقبل الأديان السماوية الرئيسية، لم يكن هناك أي اهتمام مؤسسي فعلي بمساعدة الفقراء أو المرضى أو المختلين عقليًا أو المعاقين أو المسنين أو المحتضرين؛ ولكن بسبب التعاليم الدينية حول كرامة الإنسان، توقفت هذه القسوة المجتمعية بشكل صارخ.
في عام 369 ميلادية، أسس القديس باسيل القيصري مستشفى بثلاثمائة سرير - أول مستشفى واسع النطاق للمرضى والمعاقين في العالم. بدأت المستشفيات ودور العجزة والملاجئ الدينية في الظهور في جميع أنحاء القارة الأوروبية. كانت هذه أولى المؤسسات الخيرية التطوعية للحضارة، وقد قامت المؤسسة الدينية ببنائها ودفع تكاليفها.
وحتى يومنا هذا، يتغلغل التأثير الديني في نظام الرعاية الصحية. ما عليك سوى البحث على الإنترنت عن الجمعيات الخيرية الدينية لترى كمية الأسماء التي تظهر. ستجد عددا ضخما من البعثات إلى دول أجنبية، ومنظمات لمكافحة الجوع في العالم، ومؤسسات لمساعدة أولئك الذين يعانون من جميع أنواع الإعاقة. فكر في الصليب الأحمر والهلال الأحمر.
فكر في حملة الأم تيريزا للأعمال الخيرية... في جميع دور الأيتام الدينية التي ساعدت الكثير من الأطفال المهجورين والمعوزين على مر القرون... في آلاف المستشفيات الدينية التي لا تزال تعمل في جميع أنحاء العالم. ببساطة لا يوجد حد لعدد المؤسسات الخيرية التي تأسست باسم الله.
ما سبب وجود كل هذه المؤسسات الخيرية؟
التفسير الوحيد المعقول هو أنه، على عكس ما يؤمن به الكثير من الملحدين، فإن الكتب السماوية لا تتعلق فقط بالدخول إلى الجنة، بل تعنى بتحسين الظروف في هذه الحياة أيضاً.
أليس هذا منطقيًا؟ إذا كان البشر مخلوقين بأحسن صورة، وإذا كان لديهم ـ حقًا ـ قيمة لا نهائية، فمن واجبنا بالطبع أن نكون مهتمين ورحيمين - لمساعدة الناس في كل مكان، وخاصة أولئك الأقل حظًا.
ومع ذلك، يصر الملحدون على أن المؤمنين يسعدهم الجلوس في بيوتهم يطقطقون اصابعهم شاردي الذهن وهم ينتظرون الحياة الأخرى.
هذا ليس بالشيء السهل القيام به. يتطلب الأمر الكثير من الجهد لإبقاء عينيك مغلقة أمام الكثير من الحقائق. كيف يمكن لأي شخص لديه أبسط معرفة بالتاريخ أن يجهل كل هذه الهدايا الاجتماعية والفكرية والعلمية والثقافية والسياسية والتعليمية والمؤسسية والفنية التي منحها الدين للحضارة؟
ضع في اعتبارك أننا لا نقول إن هذه الأديان مثالية بالكامل، وأن جميع اتباعها خالون من النفاق. لكن عند تقييم نسبة التكلفة إلى الفائدة لأي شيء - خاصةً شيء كبير مثل الدين - يجب عليك فصل الأمثلة الفردية للشر عن النمط العام للخير. يجب أن تنظر إلى الصورة الكبيرة.
وهنا نعود مرة أخرى إلى هذا الشكل الخاص من الجهل المتجذر في "القليل" من المعرفة. يحب الملحدون ان يبحثوا في التاريخ عن "الفاكهة الفاسدة". وعندما يكتشفون البعض منها، يسارعون بحماس إلى الحكم دون أي فهم حقيقي للتاريخ نفسه. وجدوا أمثلة لمؤمنين منعوا كتبًا معينة على أنها تجديف، واستنتجوا أن الدين هو عدو للتعليم. وجدوا أمثلة للمؤمنين استنكروا بعض اللوحات باعتبارها فاحشة، واستنتجوا أن الدين هو عدو الفن. وجدوا أمثلة لمؤمنين امتلكوا عبيدًا، واستنتجوا أن الدين هو عدو الحرية. وجدوا أمثلة لمؤمنين كتبوا عن السعادة في الجنة، واستنتجوا أن الدين هو عدو السعادة على الأرض.
باختصار، هم يبحثون عن بقع داكنة على لوحة التاريخ الواسعة، وعندما يكتشفونها، يستنتجون أن اللوحة نفسها سوداء تمامًا - بينما هي بيضاء بشكل مذهل في الواقع.
*من كتاب: داخل العقل الملحد - أنطوني ديستيفانو - ترجمة شعبة البحوث والدراسات في العتبة الحسينية