والذي أراه إننا بحاجة إلى قراءة معرفية لهذه المقولة، بحيث نفهم ما نريد منها على وجه التحديد، وفحص ما يحيط بها من محاذير والتباسات. وفي هذا النطاق سوف أقدم قراءتي التي استقل بها في هذا الشأن، وهي حصيلة نظر مستفيض، وحصيلة متابعة واشتغال لهذا الحقل. وتتحدد هذه القراءة من جهتين، من جهة تفكيكية يكون النظر فيها بقصد تحليل عناصر ومكونات تلك المقولة. ومن جهة تركيبية يكون النظر فيها بقصد تحديد المعنى العام والكلي لتلك المقولة. الجهة الأولى: تفكيك عناصر المقولة.
أولاً: (تجديد) هذه الكلمة ناظرة إلى الآلية، والطريقة التي بإمكانها أن تحقق فعل التجديد، ليكون للتجديد المعنى الناجز والمتحقق. وبالتالي فإن البحث هنا هو في المنهجية، بمعنى ما هي المنهجية التي من خلالها نصل إلى التجديد ليتحقق بالفعل، وليكون المعنى له نسبة خارجية.
ثانياً: (الخطاب) هذه الكلمة ناظرة إلى طبيعة المجال الذي يتوجه إليه فعل التجديد، وهذا المجال هو بنية النص المتصل والمتفاعل بشرائط ومكونات الزمان والمكان والحال، أو ما يطلق عليه جمعا وتركيبا بمفهوم العصر.
ثالثاً: (الإسلامي) هذه الكلمة ناظرة إلى مرجعية الخطاب، وهذه المرجعية يقصد بها مجموع القواعد والأصول والثوابت التي يرجع إليها ذلك الخطاب، ويستند عليها، ويتقوّم بها. وبالتالي فهي ناظرة إلى محددات وجوهر التجديد.
وعلى ضوء هذه المحددات نستخلص النتائج التالية:التجديد هو بحث عن الجانب المنهجي، ما هو المنهج أو المنهجية؟.
والخطاب هو بحث عن الجانب المعرفي، بمعنى تكوين المعرفة بهذا الخطاب المستهدف في عملية التجديد. والإسلامي هو بحث عن الجانب المرجعي، بمعنى تكوين المعرفة بأصول هذه المرجعية وقواعدها ومصادرها.
التجديد هو بحث عن المنهج، والسؤال ما هو هذا المنهج؟ والجواب أن محددات هذا المنهج في أمرين، الأول هو الموضوع والمقصود به الخطاب. والثاني هو الإطار العام أو الإطار المرجعي والمقصود به الإسلامي.
الخطاب هو الجانب المتغير، والإسلامي هو الجانب الثابت. ولا ينبغي أن ينفصل المتغير عن الثابت، كما لا ينبغي أن يفتقد الثابت إلى المتغير. فالثابت يعطي المتغير عنصر النظام الذي يحفظه من الفوضى والانفلات، والمتغير يعطي الثابت عنصر المرونة والحركة الذي يحفظه من التوقف والجمود.
الإسلامي هو المحدد والضابط لما هو التجديد، ولما هو الخطاب. بمعنى أن لا يقود التجديد إلى خطاب غير إسلامي أو لا يتوافق مع الإسلام، وهذا هو المعيار الرئيسي والثابت في تحديد واختيار المنهج. كما أن الخطاب المستهدف في عملية التجديد هو خطاب يتصل بمرجعية الإسلام، وإذا لم يتصل بهذه المرجعية، أو لا ينتمي إليها فهو خارج عن مجال البحث.
هذا من جهة تفكيكية، وأما من جهة تركيبية، يمكن القول بأن مقولة تجديد الخطاب الإسلامي تتحدد في نسقين، النسق الفكري الذاتي، والنسق الفكري الموضوعي. وبحسب النسق الأول فإن مفهوم تجديد الخطاب الإسلامي يعني محاولة اكتشاف ما يمكن أن يقوم مقام الحداثة في الفكر الغربي. على أن يكون هذا الاكتشاف من داخل المرجعية الإسلامية وبعيدا عن الاستلاب. وهذا المعنى له ثلاثة عناصر:
تغليب النزعة المعاصرة على النزعة التراثية القديمة، للتخلص من إشكالية الاحتباس في الماضي، وهذا يرتبط بعلاقة الخطاب مع ذاته.
اكتساب القدرة على مواكبة العصر وشروطه ومقتضياته، للتخلص من إشكالية الانغلاق، وهذا يرتبط بعلاقة الخطاب مع عصره.
اكتشاف مفهوم التقدم والتأكيد عليه، للتخلص من إشكالية الجمود، وهذا يرتبط بعلاقة الخطاب مع ذاته وعصره معاً.
وأما بحسب النسق الموضوعي فإن مفهوم تجديد الخطاب الإسلامي يعني محاولة تحديد صورة لهذا الخطاب تكون مفارقة ومغايرة عن حالتين، عن حالة الجمود والتحجر في الحالة الأولى، وهي حالة داخلية متوارثة من عصور الانحطاط والتخلف. وعن حالة التبعية والاستلاب في الحالة الثانية، وهي حالة خارجية متوارثة من عصور الهزيمة والسيطرة الغريبة. فالجمود والتحجر لا يحمي هوية، ولا يحفظ تراثاً، ولا يصنع تجديداً بالتأكيد. والتبعية والاستلاب لا تخلق حداثة، ولا تبني تقدماً، ولا تصنع تجديداً بالتأكيد. وتجديد الخطاب الإسلامي هو تعبير عن نقد ومفارقة لتلك الحالتين، والعمل على بلورة نموذج ثالث يتواصل مع التراث ولا ينغلق عليه، ويتواصل مع العصر ولا ينسحق به. وهذا يعني أن التجديد هو في الرؤية الفكرية والمنطق الفكري للخطاب الإسلامي، وليس في العبادات أو العقائد أو الأخلاق، لأن المشكلة ليس في العقيدة، وإنما في الفكر، وليس في الدين وإنما في الفهم البشري المتكوّن حول الدين.