ومع أن هناك مساحة واسعة من المباحات التي لا يكون الميزان فيها قائماً على الحق والباطل، إلا أن الاتجاه العام لأفكار الإنسان وقناعاته تتباين بين كونها حقاً وعلماً، وبين كونها باطلاً وأهواء وشهوات، فأحياناً قد يتفق أن تهوى النفس الحق لا لكونه حقاً، وإنما لكونه يمثل مصلحة للنفس ضمن ظرف معين، وسرعان ما تنقلب عليه النفس إذا تبدلت الظروف وتغيرت المصالح. وعليه فإن خيارات الإنسان ليست علمية فقط وإنما نفسية أيضاً، وليس بالضرورة أن تكون كل الأمور متضحة دائماً للإنسان، أو أن خيارات الإنسان منحصرة بين الأبيض والأسود، فقد لا يحصل للإنسان العلم في بعض الأمور، حتى لو طلبه واجتهد في تحصيله، كما أن النفس أحياناً تحتار في تحديد ما يصلحها وتختلط عليها الأمور فتصبح مضطربة ومترددة، وبالتالي ليس بالضرورة أن كل ما يصيب الإنسان من شك وتردد له علاقة بالعلم والتعقل، وإنما قد يكون بسبب حيرة النفس في تحديد رغباتها واختيار شهواتها. ولذا من الضروري الوقوف على أسباب هذا الارتياب وتحديد مصدره.
وفي المحصلة هناك قوتان تتنازعان الإنسان تمثل الأولى الإيمان والثانية الكفر، قال تعالى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا}.
وبما أن الإيمان نظام من المعارف والأفكار، كذلك الكفر أيضاً نظام من المعارف والأفكار، والفرق بينهما أن الأول نابع من الحق والهدى، والثاني نابع من الباطل والضلال، وفلسفة رسالات الله قائمة على التمييز بين الاتجاهين والتأكيد على خيار الحق ونبذ خيار الباطل، وفي المقابل هناك الشيطان الذي يحرك الغرائز ويزين الشهوات.
ومع أن الحق والباطل بينهما تباين كبير، إلا أنهما يختلطان كثيراً عند الإنسان بحيث يصعب عليه التمييز بينهما، ولذا من الضروري إيجاد معيار لتحقيق هذا التمايز. وقد أشار القرآن إلى معيارين أحدهما عام يمثل مشتركاً بين جميع البشر، والثاني خاص يمثل الموقف الشخصي لكل إنسان. أما الأول: فهو محاكمة الفكرة علمياً وذلك من خلال الكشف عن مصدرها وأدلتها والطرق الموصلة لها. أما الثاني: فهو المسؤولية الفردية والشعور الداخلي لكل إنسان.
المعيار العام:
قال تعالى: {وَقَالُوا لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}.
هناك فكرة قائلة بأن الجنة لا يدخلها إلا يهودي أو نصراني، وعليه كيف يمكن أن نكشف عن مدى صحة هذه الفكرة؟ وهل هي نابعة من العلم أم نابعة من هوى النفس؟ المعيار الذي طرحته الآية هو المطالبة بالبرهان على هذه الفكرة {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}، والبرهان هو الدليل الذي يجعل الإنسان مسلماً بمطابقة الفكرة للواقع، فإذا تحصل البرهان علمنا أن الفكرة نابعة من العلم وليس الهوى. وفي هذه الآية نجد أنها حددت مصدر الفكرة بوضوح عندما قالت {تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ} أي أنها مجرد تمنيات ورغبة نفسية. وقد فصلت آيات أخرى مشكلة التمني في توليد قناعات الإنسان، وكيف ميز الله بين الأفكار النابعة من الحق وبين الأفكار النابعة من الأمنيات، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّىٰ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * لِّيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ حَتَّىٰ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ}. تحدثت الآية الأولى عن دور الشيطان وكيف يلقي وساوسه في أمنيات البشر، ولا ينجو من ذلك إلا من عصمه الله، ولذا نجد أن الله ينسخ ما يلقيه الشيطان للرسول ثم يُحِكم آياته. وبعد ذلك تتحدث الآية الثانية عن استغلال الشيطان للقلوب المريضة التابعة للهوى، وكيف أنه يزين لها الأفكار الضالة ليفتنهم ويضلهم عن الهدى. ثم تنتقل الآية الثالثة لتتحدث عن العلم وذلك من أجل التمييز بينه وبين أفكار النفس ووساوس الشيطان، فتتحدث عن الذين أوتوا العلم كيف أنهم يعلمون أنه الحق من ربهم، وكيف تسلم قلوبهم له، {فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ}، حيث لا يمكن للإنسان أن يستغني عن هداية الله لمعرفة الحق لأنه هو الذي يهدي إلى الصراط المستقيم، ثم تعود الآية الرابعة من جديد لتبين الحالة النفسية التي تصيب من اتبع هوى النفس ورفض الإقرار بالحق {وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ} ولا سبيل لكشف الستار عن قلوبهم إلا بأن تأتيهم الساعة بغتة أو يأتيهم عذاب يوم عقيم.
والنتيجة المتحصلة من هذه الآيات هو أن الأمنيات وما تهواه النفس هو مصدر كل الأفكار والمعتقدات الضالة، والمعيار الذي وضعته الآيات للتمييز بين أفكار النفس وأفكار العقل هو البرهان.
وغير ما تقدم هناك الكثير من الآيات التي جعلت البرهان هو المعيار العام للتمييز بين الأفكار، مثل قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ * لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ * أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَٰذَا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُم مُّعْرِضُونَ}، وقال تعالى: {وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ}. وقال تعالى: {أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَٰهٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}، وقال تعالى: {وَنَزَعْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ}.
المعيار الخاص:
والمقصود به هو شهادة الإنسان على نفسه وإقراره بالحق في عمق وجدانه، فمهما تحايل الإنسان على الآخرين لا يمكنه التحايل على ما تسر به نفسه {بَلِ الْإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ. وَلَوْ أَلْقَىٰ مَعَاذِيرَهُ}، وعليه فإن المعارف والأفكار والمعتقدات هي مسؤولية فردية قبل أن تكون مسؤولية أمة ومجتمعات، وقد أشارت الكثير من الآيات لعلم الإنسان بالحق في قرارة نفسه مع ذلك فضل الباطل لهوى في نفسه. قال تعالى: {يا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ}. يعلمون بالحق إلا أنهم يكتمونه ويلبسونه بالباطل لهوى في أنفسهم. وقال تعالى: {وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ}. وقال تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ}. وغير ذلك من الآيات الكاشفة عن محكمة الضمير عند كل إنسان، حيث تجعله مسؤولاً عن الحق الذي يراه في قرارة نفسه. وقد فصلت لنا آيات أخرى سبب ميل الإنسان إلى الباطل مع علمه بالحق، وقد أرجعت كل ذلك إلى هوى النفس، قال تعالى: {لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إليهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَىٰ أَنفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ}.
وفي المحصلة يمكننا أن نقول إن الأفكار الصادرة من النفس والتمنيات تسمى في المصطلح القرآني بالظنون، ومهما بلغت النفس من الدقة في تحديد ما يخدم هواها لا يصبح علماً؛ لأنه مجرد اندفاع نفسي تحركه الأهواء والتمنيات، قال تعالى: {... إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَىٰ Q أَمْ لِلْإِنسَانِ مَا تَمَنَّىٰ} . وقد ربطت هذه الآية بين الظن وما تهوى الأنفس، حيث يبدو أن الواو هنا تفسيرية، أي أن الظن هو ما تهوى الأنفس وليس شيئاً آخر غير هوى النفس، ثم تأتي الآية الثالثة لتربط كل ذلك بالتمني {أَمْ لِلْإِنسَانِ مَا تَمَنَّىٰ} لتؤكد مسؤولية التمني في إنتاج الظنون. وتتفاوت هذه الظنون في قربها أو بعدها عن الحق، فقد تهوى النفس أحياناً الحق لا لكونه حقاً وإنما لكونه يحقق مصلحة لها، وفي هذه الحالة يكون الظن مطابق للواقع، ومع ذلك لا يعد علماً؛ لأن مصدره الأهواء وما تتمناه النفس.