ومن الضروري إيضاح ذلك بنحو أوسع هنا.
فمن جهة نرى عالم الوجود بهذه السعة والعظمة والتنظيم المدهش ، حتّى اعترف كبار العلماء بأنّ أسرار العالم بقدر يقف الإنسان عاجزا إزاءها ، فإنّ معلوماته مهما كانت لا تشكّل سوى صفحة من كتاب كبير جدّا. بل إنّ معلوماتنا عن هذا الوجود ما هي إلّا «ألف باء» لهذا الكتاب العظيم التأليف والأسرار.
فكلّ واحدة من هذه المجرّات العظيمة تضمّ مليارات من الكواكب ، وعدد المجرات والفواصل بينها كبير بدرجة تثير الدهشة حين حساب المسافة بينها بسرعة الضوء ، علما بأنّ سرعة الضوء تبلغ ثلاثمائة ألف كيلومترا في الثّانية.
والدقّة المستخدمة في بناء أصغر وحدة من هذا العالم هي ذاتها التي استخدمت في أوسع بناء فيه.
والإنسان ـ بحسب علمنا ـ أكمل المخلوقات التي نعرفها في الوجود ، وهو أسمى نتاج لهذا العالم ، ومن جهة أخرى يلاقي الآلام والمشاكل الكثيرة خلال عمره القصير حتّى يبلغ أشدّه!! فما يكاد ينهي مرحلة الطفولة بآلامها ومشاكلها ويتنفّس الصعداء منها حتّى يدخل مرحلة الصبا والشباب بتقلّباتها الشديدة المدمّرة.
وما يكاد يثبت قدميه بعد في هذه المرحلة حتّى تدهمه مرحلة جديدة مفعمة بألوان الأذى وأنواع المصاعب ، هي مرحلة الكهولة والشيخوخة ، فيتّضح له مدى ضعفه وعجزه.
فهل يصدق أن يكون هدف هذا الكائن العظيم الأعجوبة في الخلق ، الذي يسمّى الإنسان ، يأتي هو أن إلى هذا العالم ليقضي عددا من السنين ، وليمرّ بكلّ هذه المراحل بما فيها من آلام ومصاعب ، وليأكل مقدارا من الطعام ويلبس لباسا وينام وينهض ثمّ يموت وينتهي كلّ شيء. وإذا كانت هذه هي الحقيقة ، ألا يعني هذا عبثا؟
أتكون كلّ هذه التشكيلات العظيمة من أجل غاية دنيئة كالأكل والشرب والنوم؟
افرضوا بقاء نوع الإنسان ملايين السنين في هذه الدنيا ، وتتعاقب الأجيال ، وترتقي العلوم الماديّة فتوفّر أفضل المأكل والملبس والمسكن وأعلى مستوى من الرفاهية للبشر ، أتكون تشكيلات الوجود كلّه من أجل هذه المقاصد الدنيا؟
وعلى هذا فإنّ دراسة هذا العالم العظيم لوحده دليل على كونه مقدّمة لعالم أوسع يمتاز بالدوام الخالد ، ويعطي الإيمان به حياتنا معناها اللائق بها ، ويخلصها من التفاهات. ولهذا لا نستغرب من تصوّر الفلاسفة الماديّين الذين لا يعتقدون بالقيامة والآخرة أنّ هذا العالم تافه لا هدف له.
ولو كنّا نحن نعتقد بمثل هذا فحسب لاتّجهنا نفس اتّجاههم.
ولهذا نؤكّد أنّه إذا كان الموت نقطة النهاية فخلق الوجود يصبح أمرا تافها ، لهذا نقرأ في الآية (٦٦) من سورة الواقعة (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ)؟!
*مقتطف من تفسير الأمثل ج ١٠ ص ٥٣١