من المسائل التي لا يجد الباحث الاسلامي مناصا من تناولها باهتمام كبير، هي تعدد الاتجاهات العقائدية والثقافية في شرائح المجتمع وكيفية التعامل مع هذه المشكلة على ضوء التعاليم الاسلامية، لما لهذه المشكلة من حضور كبير في الواقع الاجتماعي المعاش. كيف نتعامل نحن المسلمين مع من يخالفنا في قضايا الدين؟! سيما في وقتنا الراهن الذي نعيش فيه حالة من انفتاح المسلمين فيما بينهم خاصة، وانفتاحهم على غير المسلمين عامة، وفي هذا المقال نورد أهم معالم هذه الثقافة وفق المنظور الاسلامي الذي يحاكي جميع شؤون حياة الانسان وفقا لتعاليمه السامية.
ثقافة الاختلاف بين المؤمنين
إن اختلاف المؤمنين الفكري أمر طبيعي في حد ذاته، فهم ليسوا سواسية في مستوى العلم والوعي والفكر، وهي ظاهرة طبيعية بل صحية لو استثمرناها لبلورة الافكار التي تعزز من قوة المذهب وتشييد صرحه الشامخ، بل تكشف عن حيوية المذهب وتطوره وأنه ليس مذهبا جامدا عاجزا عن محاكات عصر الحداثة، وتعكس وجها مشرقا من هذه الناحية، ولكن عندما يكون الاختلاف في مسلمات المذهب تتحول القضية حينئذ الى حيز مباين لما كانت عليه، لذا قال العلماء: الذي يظهر الايمان ويختلف معنا في مسائل حقة ومسلمة أحد صنفين:
من خالف المسلمات لشبهة
وهو الذي يكون اختلافه قائما على اساس علمي، وهذا الصنف على نحوين: يمتلك ضوابط علمية ويُشهد له بأنه من أهل التحقيق، وقد أوصلَه اجتهاده إلى رأيه المخالف، أو انه قد نتج رايه المخالف عن شبهة او جهل مركب ، وميزة هذا الصنف أنه غير مكابر ولا معاند ولا يعمل بالمنهج التشكيكي، ومن الواضح ان مثل هذا الشخص ينبغي ان لا يكون الاختلاف مثاراً للخلاف معه وذلك من خلال طرح الأفكار ضمن الضوابط العلمية بعيدا عن التهم والتعنت.. فالاختلاف في الفكر والرأي لا ينبغي أن يمحو آية الأخلاق والمودة والمحبة بين المؤمنين، فعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الباقر (ع) قَالَ: (إِنَّ أَكْمَلَ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَاناً أَحْسَنُهُمْ خُلُقاً)[1]، فلا قيمة لكثرة العلم والعبادة مع سوء الخلق.
فحرمة المؤمن عند الله تبارك وتعالى أعظم من حرمة الكعبة، فلا ينبغي أن يكون الاختلاف الفكري سببا لإسقاط هذه الحقوق، بل لابد ان يبقى الاختلاف في دائرة الفكر ولا يتحول الى خلاف شخصي، فالإمام السجاد (ع) يقول في رسالة الحقوق: (وحق أهل ملتك إضمار السلامة والرحمة لهم، والرفق بمسيئهم، وتألفهم واستصلاحهم، وشكر محسنهم وكف الأذى عنهم وتحب لهم ما تحب لنفسك وتكره لهم ما تكره لنفسك..)[2]، فلا ينبغي أن نصيّر الاختلاف الفكري رمحا نطعن به هذه الحقوق التي أصّلها أئمة الهدى (ع).
ومن المؤسف أن نجد البعض يحول المسألة بمجرد الاختلاف بالتقليد الى خلافات شخصية وفئوية! والحال أن اختلاف الفقهاء في الفتاوى يوجب على المكلفين أن يعمل كلٌ بفتوى مقلده ولا تتحول المسألة الى هتك الحرم والتسقيط وتشتت أبناء المذهب وبالتالي الدخول في نزاعات اجتماعية .
فالإمام الباقر (عليه السلام) يقول: (عَظِّمُوا أَصْحَابَكُمْ ووَقِّرُوهُمْ ولَا يَتَجَهَّمُ[3] بَعْضُكُمْ بَعْضاً ولَا تَضَارُّوا ولَا تَحَاسَدُوا وإِيَّاكُمْ والْبُخْلَ كُونُوا عِبَادَ اللَّه الْمُخْلِصِينَ)[4]، فلا نحول ظاهرة الاختلاف الايجابية الى ظاهرة سلبية خلافا لما جاء عن أهل البيت (ع).
أهل الريب
وأما القسم الثاني وهو الذي يخالف في المسلمات عنادا وطلبا للشهرة، كأن يثير بعض الشبهات على مسألة مسلمة انطلاقا من قاعدة: (خالف تُعرف)، وهم يرومون ضرب الدين من الداخل.
ولا يخفى أن مثل هؤلاء يدّعون التحقيق والتدقيق والتجديد، بل يدعون بأنهم يحركون عجلة الفكر الاسلامي.. والملفت للنظر أنهم ليس لهم دور في تجديد أصول أو ضروريات المذهب، بل تجد دَيْدَنهم التشكيك فيها وزرع الشبه، وقد تجدهم يأتون ببعض الشبه من أعداء المذهب ويقومون بعملية تطوير لها ثم بثها بين المؤمنين كي يجلبوا أكبر عدد يتابعهم، وكل ذلك تحت عنوان التجديد.
والحق أن نسمي هؤلاء باسم مجددي الشبهات، لأن حقيقة التجديد هي الاتيان بنظريات تعزز من أدلة الثوابت المذهبية أو الدينية التي فيها عزة الاسلام، لا العكس من ذلك، وأما الكلام في تحديد الموقف من هؤلاء فينبغي تنبيه المؤمنين ليحذروا منهم ومن دوافعهم الشخصية ورد شبهاتهم بالحجج والأدلة القاطعة لمادة الاشكال لكي لا يجد طمعهم سبيلا للفساد.
قد يقال اليس باب الاجتهاد مفتوحا عندنا، وساحة التحقيق والتدقيق والانتقاد متاحة لمن له الاستطاعة؟ نقول صحيح ولكن ينبغي أن يكون وفق موازين وقواعد علمية وضوابط مقررة، وليس مجرد اثارة شبهٍ تصب في مصالح شخصية.
ثقافة الاختلاف مع المذاهب الإسلامية الأخرى؟
حين يتعسر توحيد المسلمين على منظومة عقدية واحدة فلا يعني تعسر وحدة الصف والعمل على المصالح العامة للأمة، بل لابد من التركيز على الخطوط العريضة التي تصب في مصلحة الأمة، وينبغي نبذ لغة التشنج في الخطاب وإيقاظ روح التعصب في الآخر أو انتهاك حرمته، ومن هنا ينبغي ذكر أمرين لابد ان نراعيهما كمسلمين:
الأول: هو الوعي المرحلي، فعلى العقلاء من كل مذهب أن يدركوا بوعي متطلبات المرحلة التي يعيشها المسلمون، وذلك من خلال: الوعي بأهداف الإسلام العامة، والآليات التي نحقق من خلالها تلك المصالح والأهداف، ومعرفة الموانع والعوائق التي تحول بيننا وبينها.
كما ينبغي تحديد الاولويات، فلا ينبغي أن يزاحم المهم الأهم.
الأمر الثاني: إشاعة روح التسامح والمحبة والمودة بين المسلمين، ومن حق كل مذهب أن يدعو إلى عقيدته ويقدم دليله عليها ولكن بالأسلوب العلمي والحوار المسؤول الذي يشتمل على آداب الإسلام، فالخلق الحسن هو الخلق الذي يجمع المسلمين على موقف واحد إذا لم يتفقوا على رأي واحد.
ثقافة الاختلاف مع غير المسلمين
قد يتصور البعض قساوة الاسلام على غير المسلمين في بعض أحكامه، ويُصور بأنه دين يحتكر الرحمة والمغفرة لأتباعه ويقصي الآخرين ويحكم عليهم بالقتل والهتك .. وأنهم من أهل النار.. وبالتالي هذا الدين دين لا يريد الرحمة والنعيم للجميع وانما للذين يتسمون باسمه فقط.
ولكي يتضح خطأ هذا التصور نقول: إن من الأفعال القبيحة معاقبة الجاهل المعذور في جهله، فلو خالف الإنسان قانونا ما وكان جاهلا وغير مقصر في معرفة هذا القانون قبّح العقلُ معاقبتَه، ومن هنا قالوا: قبح العقاب بلا بيان، وقد أرشد القرآن الكريم إلى هذه القاعدة بقوله تعالى: «وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا»[5]، فلا يليق بعدل الله وعظمته أن يعاقب عبده قبل إقامة الحجة عليه إلا إذا آتاه العلم والقدرة ولم يطع، ومن هنا قسموا غير المسلم الى قسمين:
المعاند: وهو الذي ألقيت عليه الحجة وقام عنده دليل على وجود الله ونبوة النبي محمد (ص) والمعاد، ولكنه عاند وكابر، أو لم يقم عنده الدليل، ولكن التفت إلى وجود الدين الاسلامي وهذا الدين يُوجب عدة مسائل، منها الطاعة لله وللرسول وللأئمة من بعده وكان بإمكانه أن يحصل على المعرفة ولكنه تساهل وقصر ولم يبحث عن الحقيقة.
القاصر المعذور: وهو من لم يؤمن بأصل من أصول الاسلام، ولكنه لم تُلق عليه الحجة، بل لم يسمع بالدين الاسلامي أو سمع ولكن لم يتمكن من البحث لعلة ما أعاقته عن معرفة أحقية الاسلام، فهؤلاء معذورون في كفرهم، وهم في عقيدتنا لا يعاقبون.
فعن عبد الله بن سلام مولى رسول الله (ص) أنه قال: سألت رسول الله (ص) فقلت: أخبرني أيُعذب الله عز وجل خلقا بلا حجة؟
فقال: معاذ الله .
قلت: فأولاد المشركين في الجنة أم في النار؟
فقال: الله تبارك وتعالى أولى بهم ..)[6]
فأمر هؤلاء الى الله تعالى، إذن المدار مدار الحجة، فإذا ألقى الله تعالى الحجة على عبده وخالف يُعاقب ولو كان مسلماً، وإذا لم تقم عليه الحجة لا يعاقب وإن كان كافراً.
هذا ما نعتقده في مجازاة غير المسلم في الآخرة، وأما وظيفتنا معه في الدنيا فهي أن ندعوه إلى الإسلام بأفضل الأساليب، بالبرهان ولغة العقل التي يفهمها الإنسان بما هو إنسان وليس بلغة الذبح والتفجير وهتك الأعراض وإسالة الدماء التي عمل بها بعض من تسمو بالمسلمين، فالإسلام دين حوار ومنطق، قال تعالى: «ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ»[7]، وقال تعالى: «وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ»[8]
وقد كان أئمتنا يجسدون سماحة الإسلام للإنسان بأفضل صورة، فمثلاً يروى ان أمير المؤمنين (ع) كان يمشي يوما في أسواق الكوفة أيام حكمه، فرأى شيخاً كبيراً يستعطي الناس، ويطلب منهم حاجته، فالتفت إلى أبي رافع خازن بيت المال، وقال: ما هذا؟
سؤال عن الحالة التي يراها فكأنه قال ما الذي أرى يا أبا رافع!
ولعل أبو رافع ظن أنّ الإمام (ع) يقول من هذا؟ فأجاب: رجل نصراني.
فقال أمير المؤمنين (ع) : استعملتموه حتى إذا كبر وعجز منعتموه؟ ! أنفقوا عليه من بيت المال)[9]، بهذه الأخلاق دخل الناس في الإسلام.
فسلام عليك يا أمير المؤمنين يوم ولدت ويوم قتلت ويوم تبعث حيا.
-----------------------------------------
[1] الكافي للكليني: ج2 ص99 .
[2] الخصال للصدوق: ص570 .
[3] جهمه كمنعه وسمعه : استقبله بوجه كريه .
[4] الكافي: ج2 ص173 .
[5] الإسراء: 15
[6] التوحيد للصدوق: ص391
[7] النحل: 125 .
[8] العنكبوت: 46 .
[9] ميزان الحكمة للريشهري: ج2 ص1228