هذهِ حقيقةُ السّؤال، ولكنَّ لسانَ السَّائلِ لم يُفصِح عَنها بوضوحٍ، وإنَّما صاغَها بطريقةٍ تجعلُ السَّامعَ أو القارئَ يُتمّ بيانَها بما ذكرناه.
ونسبةُ الظلمِ إلى اللهِ تعالى بهذا البيانِ كمَن يقولُ: إنَّ الرَّسّامَ ظلمَ الورقةَ إذ جعلَ مِنها لوحةً جميلةً، والنَّحّات بخَسَ الخشبةَ إذا صيَّرَ مِنها تُحفةً غالية، والفلاحَ غشَمَ الترابَ إذ سوَّى منهُ حديقةً غنَّاء.
فهوَ بدَلَ أن يحمدَ اللهَ تعالى إذ أخرجَهُ مِن كتمِ العدمِ إلى نورِ الوجود، وشرَّفَهُ بمعرفتِه، وكلَّفَهُ بطاعتِه ليكونَ لائقاً بثوابِه وأجرِه فهوَ يعكسُ الآيةَ مِن غيرِ درايةٍ ويعترضُ بهذا الاعتراض.
ونحنُ مِن أصولِ مذهبِنا العدل، وهوَ الأصلُ الثاني عندَنا بعدَ التوحيد، نُنزّهُ اللهَ سبحانَه وتعالى عن كُلِّ قبيحٍ ومِنهُ الظّلم.
ونلحظُ عدلَ اللهِ تعالى بمعنىً آخر وهوَ وضعُ الشيءِ في موضعِه في رسمِه لهذهِ اللوحةِ الكونيَّةِ الجميلة, هذا الفضاءُ , وهذه الكواكبُ في مساراتِها العجيبةِ, ومسافاتِها الدقيقة, بحيثُ أنَّ الأرضَ التي تبعدُ عن الشَّمسِ ب 150 مليون كم لا أكثرَ مِن ذلك ولا أقلّ, فلو أنَّ المسافةَ كانَت أقرب لاحترقَت الأرضُ وما عليها, ولو كانَت أبعدَ لجمدَت الأرضُ ومَن عليها, فلو أرادَ اللهُ تعالى تعذيبَ بني الإنسانِ يكفي أن يُغيّرَ المسافةَ بينَ هذهِ الكرّةِ والشَّمسِ المُلتهبةِ حتّى يُهلكَهم حَرقاً أو يقتلَهم برداً، وليسَ ذلكَ على اللهِ بعزيز.
ولقد أكرمَ اللهُ تعالى بني آدم، فخلقَ الإنسانَ مُنتصبَ القامةِ في أحسنِ تقويم، ولأجلِه تباركَ اللهُ تعالى أحسنُ الخالقين، فلو أرادَ عذابَه لخلقَه بهيئةٍ غيرِ هذه الهيئةِ يصعبُ معَها عليهِ العيشُ الكريم.
ولقد شرَّفَ اللهُ تعالى آدم – عليهِ السَّلام – أبا البشرِ فخلقَهُ بيدِه (قَالَ يَا إِبلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسجُدَ لِمَا خَلَقتُ بِيَدَيَّ)؟ واللهُ تعالى ليسَ جِسماً فاليدُ هُنا كنايةٌ عن القُدرةِ، وكنايةٌ عن تشريفِ آدمَ عليهِ السَّلام باعتنائِه بخلقِه (بيدي), فإذا كانَ اللهُ تعالى مُكرِّماً للإنسانِ بهذه الشَّواهدِ التي ذكَرنا وغيرها ممّا لم نذكُر فكيفَ يُعذّبُه وهوَ يُريدُ إكرامَه؟
فالانتقامُ ليسَ غايةً وشهوةً (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبعَثَ رَسُولا).
وبإمكانِ الإنسانِ أن يدفعَ هذا العذابَ بشُكرِه وإيمانِه، (مَا يَفعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُم إِن شَكَرتُم وَآمَنتُم)؟ لأنَّ اللهَ تعالى ليسَ ظالِماً (وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِلعَبِيدِ) بل الإنسانُ هوَ مَن يظلمُ نفسَه (وَمَا ظَلَمنَاهُم وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُم يَظلِمُونَ) غايتُه أنّهُ أرسلَ الرّسلَ رحمةً للعالمين (وَمَا أَرسَلنَاكَ إِلا رَحمَةً لِلعَالَمِينَ) فلو كانَ يُريدُ عذابَهم فلمَ أرسلَ الرّسلَ مُبشّرينَ ومُنذرين؟
وهذه الرّحمةُ هيَ الغايةُ مِن خلقِهم ليعبدوه (وَمَا خَلَقتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعبُدُونِ)
فإذا عبدوهُ واتّقوه أدخلَهم في الجنَّاتِ برحمتِه.
هل علمُ اللهِ تعالى سببٌ لشقاءِ الإنسان؟
ولكِن دعنا نتساءلُ معاً ونتحدَّثُ بصراحةٍ أكثر، ونقول: هل علمُ اللهِ تعالى بأنَّ هذا العبدَ سيكونُ مُذنِباً هوَ علَّةٌ تامَّةٌ – أي سببٌ وحيد - لشقائِه وعذابِه؟ ومِن ثَمَّ يكونُ تعذيبُه على ذنوبِه ظُلماً عظيماً؟
وسأضربُ لكَ بعصا التقريبِ مثلاً لتوضيحِ السّؤال، لو كانَ هُناكَ مُدرّسٌ في الجامعةِ وكانَ يعلمُ أنَّ الطالبَ الفُلاني سيرسبُ في آخرِ السَّنةِ فهل علمُ المُدرّسِ سببُ رسوبِ الطالب؟ أم سببُ رسوبِه تهاونُ الطالبِ نفسهِ بدروسِه وعدمُ تحضيرِه لها؟
ولو أنَّ رجلاً دُهِسَ في حادثِ سيرٍ لعدمِ مُراعاتِه قوانينَ المرور، وعندَما كشفَ الطبيبُ عليه تبيَّنَ له أنَّ هذا الرّجلَ سيكونُ معوَّقاً, فهل علمُ الطبيبِ هو سببُ عوقِ الرجل؟ أم حادثُ السيرِ وعدمُ التزامِ الرجلِ بقانونِ المرور هوَ سببُ عَوَقه؟
وعليهِ فعلمُ اللهِ تعالى بشقاءِ أبي لهبٍ وأنَّه سيُعذَّبُ بالنَّار (سَيَصلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ) ليسَ سبباً لشقاءِ أبي لهب، بل سببُ شقائِه هوَ عدمُ انصياعِه للنَّبيّ الكريم – صلّى اللهُ عليهِ وآله – وإطاعةُ الأوامرِ الإلهيّة.
فعلمُ اللهِ تعالى بشقاءِ البعضِ وتعذيبِهم بسببِ عدمِ التزامِهم بالقانونِ الإلهيّ كما لم يلتزِم الرجلُ المعوَّق بحادثِ المرور ليسَ هوَ سببُ شقاءِ هؤلاء، بل سببُ شقائِهم عدمُ الطاعة، وعليهِ لا يجبُ توجيهُ تهمةِ الظلمِ لله.. تعالى عَن ذلكَ علوَّاً كبيراً.
هل الخلقُ سببٌ للشَّقاء؟هل خلقُ اللهِ تعالى للإنسانِ سببٌ لشقائِه؟ وبالتَّالي هوَ ظلمٌ له؟
لنُشبِّه إخراجَ اللهِ تعالى هذا الإنسانَ منَ العدمِ إلى الوجود بإخراجِ الوالدينِ طفلَهما مِن عالَمي الأصلابِ والأرحام إلى الدُنيا، فهل يتوجَّهُ الاتّهامُ للأبوين بالظّلمِ لأنّهما أنجبا أولادَهما للعالَم وهُما يعلمانِ إجمالاً أنّهم قد يتعرَّضونَ لانكساراتٍ مادّيَّةٍ ومعنويَّةٍ، ولحوادثِ الحروبِ والغرقِ والزلازلِ والسرقةِ وغيرِها؟
أم أنَّ المُعادلةَ في الحُكمِ والإنصافِ في القضيّةِ يتطلَّبُ النظرَ للجانبِ الآخر أيضاً؟ أليسَ قد يوفَّقونَ ليكونوا تجّاراً وعلماءَ وروَّادَ فضاءٍ وغيرها أيضاً، فلا يجبُ أن يكونوا بؤساءَ وكذلكَ الإنسانُ قد يُوفَّقُ ليكونَ نبيَّاً وإماماً وعالِماً ومؤمناً وذا ورعٍ ودينٍ ويستحقُّ الأجرَ والثَّوابَ العظيم، فلا يجبُ أن يكونَ شقيّاً.
وإلَّا هل يُلامُ المُهندِسُ وهوَ يصنعُ الطائرةَ بحُجَّةِ أنَّها قد تتعرَّضُ لحادثٍ يوجبُ سقوطَها وقتلَ رُكَّابِها؟ أم يُمدَحُ لأنّهُ صنعَ وسيلةَ نقلٍ سريعةٍ ومُريحةٍ تفيدُ النَّاسَ وتختصرُ المَسافات؟
وهل لأحدٍ أن يلومَ الفلّاحَ أن زرعَ في تُرابِ الأرضِ بذرةً، وتعهَّدَها بالسَّقي والرّعايةِ لتكونَ وردةً آخرُ مصيرِها الذبول؟ أم يُمدَحُ لأنَّهُ عطَّرَ الأجواءَ وأنعشَ النّفوس؟
وهل للنُّطفةِ القذرةِ أن تعترضَ على اللهِ تعالى إذ جعلَها علقةً ثمَّ مضغةً ثمَّ عظاماً ثمَّ كسا العظامَ لحماً ونفخَ فيها روحاً وجعلَها بشَراً سويَّاً بزعمِ أنَّ مصيرَها إلى النَّار؟ أم عليها أن تحمدَه إذ سلكَ بها طريقاً يؤدّي بها إلى الجنَّةِ باعتبارِ الإنسانِ مُخيَّراً يملكُ إرادتَه غيرَ مُسيَّرٍ؟
ألم يُلقِ عليهم البراهينَ، ويلقّنَهم الحُججَ، ويبعثَ فيهم الرّسلَ ليهتدوا إلى السبيلِ القويمِ والطريقِ اللَّاحبة؟
هل المعصيةُ قدرٌ لا مفرَّ منه؟وسؤالٌ ثانٍ: إذا أذنَبَ الإنسانُ فهل هذا قدرُه الذي انتهى إليه بحيثُ يجبُ أن يُخيّمَ اليأسُ على قلبِه؟ أم هناكَ طريقٌ لتلافي المعاصي التي صدرَت مِنه؟
بشَّرَ اللهُ تعالى العاصينَ بأنَّ بابَ التوبةِ مفتوحٌ, وفي الروايةِ: (أقبلَ علينا رسولُ الله صلّى اللهُ عليهِ وآله وسلّم فقال: إنّه مَن تابَ قبلَ موتِه بسنةٍ تابَ اللهُ عليه، ثمَّ قال: وإنَّ السّنةَ لكثير، مَن تابَ قبلَ موتِه بشهرٍ تابَ اللهُ عليه، ثمَّ قال: وشهرٌ كثير، مَن تابَ قبلَ موتِه بجُمعةٍ تابَ اللهُ عليه، ثمَّ قالَ: وجمعةٌ كثير، مَن تابَ قبلَ أن يموتَ بيومٍ تابَ اللهُ عليه، ثمَّ قال: ويومٌ كثير، مَن تابَ قبلَ أن يموتَ بساعةٍ تابَ اللهُ عليه، ثمَّ قال: وساعةٌ كثيرة، مَن تابَ وقد بلغَت نفسُه هذه وأومأ بيدِه إلى حلقِه تابَ اللهُ عليه) فلو كانَ اللهُ تعالى يُريدُ تعذيبَ الإنسانِ فلِمَ يفتحُ له بابَ التوبةِ إلى هذهِ الدَّرجة؟
قالَ تعالى وهوَ يفتحُ بابَ التوبةِ على مِصراعيه: (قُل يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِم لَا تَقنَطُوا مِن رَّحمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ)، فأيُّ أملٍ بعدَ هذه الآيةِ للنّفوسِ برحمةِ اللهِ تعالى التي وسعَت كلَّ شيءٍ؟
(كَتَبَ رَبُّكم عَلى نَفسِهِ الرَّحمَةَ).