ورد عن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام : «تَعَلَّمُوا العِلمَ صِغاراً، تَسودوا بِهِ كِباراً»[1] .
من الطبيعي أن تشكّل بداية السنة الدراسية حدثاً اجتماعيًّا، يسترعي انتباه كلّ أبناء المجتمع، فكلّهم معنيّون بمسألة التعليم، بشكل مباشر أو غير مباشر، حتى مَنْ ليس لديه أبناء في المراحل الدراسية، قد يكون لديه أحفاد أو أسباط، كما أنّ دراسة أبناء المجتمع تهمّ الجميع، ذلك أنّ مستقبل المجتمع يرتبط بمستوى تعليم أبنائه، إذا تقدّم المستوى التعليمي لدى أبناء المجتمع، فإنّ ذلك يصبّ في صالح رقيّ المجتمع ككل، وعلى العكس من ذلك إذا تأخّر أو تقهقر!!
دور المنابر الدينية
من هنا يجب أن يكون لمنابرنا الدينية، وأجوائنا الشعائرية الروحية، دورٌ في الاهتمام بالتعليم، فهي ليست قضية منفصلة عن الدّين والتديّن.
نحن نرى تفاعل منابرنا مع المواسم الدينية، حينما يقبل شهر رمضان المبارك، يقوم العلماء والخطباء بتهيئة الناس للصيام، بالحديث عن فضله وعن مسائله الشرعية، وكذلك قبيل الحج، يتحدّث الدّعاة والموجّهون عن مسائل الحج والترغيب فيه، وكذلك يجري الحديث قبيل عاشوراء، أو زيارة الأربعين، فهي مواضيع حاضرة في أحاديث الخطباء ومحاضراتهم، في مقابل ذلك ينبغي ألّا تغيب مسألة التعليم وبداية السنة الدراسية عن الخطاب الديني، ينبغي للخطباء أن يتناولوا في أحاديثهم هذه المسألة المهمّة، وما يرتبط بها من مسائل فقهية وتربوية، تتعلق بالمعلم ووظيفته، وتعامله مع الطلاب، إضافة إلى الآداب والأخلاقيات الخاصّة بالمعلّم والمتعلّم، وفي تراثنا مئات الأحاديث حول العلم والتعلم والتعليم، هذا التراث الكبير ينبغي أن يُفعّل في مجال الإرشاد الثقافي الديني.
كتاب «منية المريد»
أحدُ أعاظم علمائنا، وهو الشهيد الثاني الشيخ زين الدين بن علي العاملي (911 - 965هـ) صنّف كتاباً مهمًّا، من أروع كتب التراث في التربية والتعليم، وأهمية العلم والمعرفة، وعنوانه (منية المريد في آداب المفيد والمستفيد)، وهو كتاب جميل رائع، حول أهمية تحصيل العلم، ووظيفة المعلم وأخلاقه وآدابه، وكذلك حول طالب العلم وواجباته وحقوقه.
ينبغي لكلّ من له ارتباط بالعملية التربوية التعليمية من معلّمين وإداريين وآباء، أن يقرأوا هذا الكتاب، وأن يطّلعوا عليه، ومن المفيد أن يتبنّى بعض المحسنين نشر الكتاب وإيصاله إلى المعلّمين، بحيث يحصل كلّ معلّم على نسخة منه، حتى يطّلع على دوره ومسؤولياته تجاه أبنائه الطلبة.
معظم المعلّمين اليوم من أبناء المجتمع، وعلى عاتقهم مسؤولية كبيرة تجاه التلاميذ والطلاب، ونظرة المعلم ينبغي أن تتجاوز حدود الوظيفة كمصدر رزق فقط، فالتعليم مهمّة لها مكانتها العظيمة من الناحية الدينية، والمعلّم يقوم بعمل له مسحة دينية، يقوم بعمل عبادي له أجرٌ وثواب إنْ هو أحسن القيام بدوره عنه، وكتاب (منية المريد) يشير إلى هذا الجانب ويُعزّزه.
ونجد أنّ عددًا من الأدعية المأثورة واضحة في الحثّ على العلم، والدعاء للعلماء والمتعلمين كالفقرة التي في الدعاء المروي عن رسول اللّه: «اللّهُمَّ انفَعني بِما عَلَّمتَني، وعَلِّمني ما يَنفَعُني، وزِدني عِلمًا»[2] ، وورد أيضًا في دُعائِهِ : «اللّهُمَّ إنّي أسأَلُكَ عِلمًا نافِعًا»[3] .
وفي الدعاء المروي عن الإمام المهدي (عج): «وَتَفَضَّلْ عَلى عُلَمائِنا بِالزُّهْدِ وَالنَّصيحَةِ، وَعَلَى الْمُتَعَلِّمينَ بِالْجُهْدِ وَالرَّغْبَة»[4] ، وهناك كثير من النصوص والأحاديث والأدعية التي تؤكّد أهمية التعليم، وترفع من شأن طالب العلم.
التكامل بين التعليم والمناسبات الدينية
ينبغي أن تكون برامجنا الدينية متكاملة مع التعليم، وليست متصادمة، البعض يظنّ أنّ هناك نوعاً من التزاحم، ويرى أنّ حضور المناسبات الدينية مقدّم على الدراسة، لكن المتأمّل لجوهر المناسبات الدينية وحقيقتها يجد أنّها حثّ على العلم والمعرفة.
وحتى يتحقّق التكامل فإنّ إحياءنا للمناسبات الدينية يجب أن يأخذ بعين الاعتبار توقيت المدارس وأنظمتها والتزاماتها، ولا بُدّ من وضع حدٍّ لاتخاذ كلّ مناسبة دينية مبررًا للغياب عن المدرسة، وكذلك السهر إلى وقت متأخر في مواكب العزاء في أوقات الدراسة.
ويهمنّي بمناسبة بدء العام الدراسي الجديد أن أؤكّد على قضية مهمة تطرح في مجال التعليم، وهي تحفيز الرغبة في التعليم عند الطلاب، وخلق حالة الشّوق والمحبّة في نفوس الطلاب والطالبات للدراسة والمعرفة، لأننا نلحظ ـ وخاّصة في مجتمعاتنا ـ أنّ التعليم بدأ يصبح وكأنّه شيءٌ ثقيل، الطالب يذهب إلى المدرسة متثاقلاً، بل حتى العائلة تعتبر أيام الدراسة أياماً ثقيلة عليها، تنتظر الإجازة، بل تتمنّى أنّ أغلب أيام السنة إجازة، وكذلك المعلّمون!!
وهذه مشكلة كبيرة، إذا كنّا نتعامل مع العلم والتعليم ـ مع أهميته وخطورته ودوره ـ باستثقال، وننظر له باعتباره عبئاً، فكيف نريد لأبنائنا أن يجدّوا ويجتهدوا ويتفوقوا؟!
القضية المهمّة: كيف نؤكّد مسألة الشّوق للمدرسة والدراسة؟
كيف يذهب الطالب إلى المدرسة بلهفة وشوق لا أن يُجرّ إليها جرًّا؟!
وكذلك المعلم، كيف يذهب إلى المدرسة برغبة واهتمام، وليس باستثقال؟.
هذه الحالة العامة التي نجدها من الحرص على الإجازات، أو تعطيل الدراسة بسبب شيءٍ من الأمطار أو سوء الأحوال الجوية!!
لماذا هذه الحالة؟!، ينبغي أن نحرص على أن يذهب أبناؤنا للمدارس.
هناك بلدان عديدة في العالم تكثر فيها الأمطار، لكنّ الدراسة لا تعطّل، فهم رتّبوا حياتهم بحيث لا تفوتهم أيام دراسة، بينما نجد في مدارسنا أنّ عدد أيام الدراسة قليلة، بسبب هذه الحالة!
النتيجة ماذا ستكون؟!
النتيجة هي تدنّي المستوى التعليمي، انخفاض الرغبة في العلم والمعرفة، وهذا ليس في مصلحة المجتمع، من هنا نحن معنيون جميعاً بخلق حالة التحفيز للدراسة لدى أبنائنا ومعلّمينا، ويتحمّل هذه المسؤولية أطراف عديدة:
أولاً: دور العائلة
يمكن للعائلة أن تقوم بدور كبير في رفد العملية التعليمية، وذلك من خلال:
1- التشويق
ينبغي أن تهتمّ العائلة بخلق حالة الشوق والمحبة في نفوس أبنائها وبناتها للدراسة، بعض الكلمات لها أثر سلبي في نفس الطالب، فحينما يتحدّث الأب بعبارات، مثل: «ستنتهي الإجازة.. الله يساعدنا»، فإنّ هذه العبارة وأمثالها تُشعِر الابن بثقل الدراسة، ويستقرّ في (عقله الباطن) أنّ الدراسة والتعليم شيءٌ ثقيل، بينما ينبغي أن تُشعر العائلة الأبناء بالرغبة في العلم والتعلم، من خلال عبارات لها إيحاءات إيجابية من قبيل: «الحمد لله المدرسة ستفتح أبوابها، ونرتاح بالمدرسة» لإشعارهم بالشوق والمحبّة للدراسة، العائلة معنية بهذا الأمر، عبر الحديث مع الأبناء حول أهمية الدراسة، وأهمية التعلّم، وذكر القصص، والحقائق.
2- عدم تَضخيم الأُمور السّلبية
لا تَخلُو العملية التعليمية في أيّ بلدٍ من بعض السّلبيات، فقد تكون في المدارس نواقص من ناحية المبنى، أو قصور أو تقصير لدى بعض أعضاء هيئة التدريس أو الإدارة، وكذلك المناهج فيها جوانب من النقص أو الضعف، لكن لا ينبغي تضخيمها أمام الأبناء، الطالب قد يلاحظ جوانب النقص، وينقلها لعائلته، وهنا يأتي دور الأب في اختيار الكلمات المناسبة التي لا تترك آثاراً سلبية لدى الأبناء تجاه المدرسة.
بالطبع ينبغي السّعي لمعالجة المشاكل وجوانب القصور والتقصير، لكن يجب أن يكون ذلك في إطار الحكمة التي تلحظ آثار العبارات على نفس الطالب وفكره.
فبعض الكلمات تدفع الطالب إلى النفور من المدرسة، والاتّكاء على ما سمعه من عبارات والديه تجاه المدرسة.
3- التواصل مع المدرسة
ينبغي ألا يكون الولد في المدرسة في عالَمٍ مفصول عن عائلته، على العائلة أن تتواصل مع المدرسة بشكل إيجابي، فكثيرًا ما تشكو إدارات المدارس من ضَعف تواصُل أولياء الأمور، الأب غير مُهتمّ بالتواصل، وفي بعض الأحيان يترك المسؤولية على الأم، وقد لا تكون الأم قادرة على أن تتفقد أبناءها، أو تتواصل مع إدارة المدرسة.
ذات مرة سألت عدداً من الآباء عن التواصل مع المدرسة، فالبعض أجاب بأنه لم يذهب إلى المدرسة منذ أن سجّل ابنه فيها!
والبعض أجاب: لم أذهب إلى مدرسة ابني منذ عدة شهور!!
ابنك يقضي شطرًا كبيرًا من أيّامه في المدرسة، ألا تكلّف نفسك أن تتعرف على وضع هذه المنشأة التعليمية؟ ووضع الإدارة فيها؟!
بعض أولياء الأمور تحدّثوا عن إيجابيات كثيرة من خلال تواصلهم مع إدارة المدارس، سواء من الناحية التربوية أو التعليمية.
4- القدوة الصالحة
أن يكون الوالدان قدوة أمام الأولاد في الاهتمام بالعلم والمعرفة، بعض الآباء والأمّهات يضغطون على أبنائهم، بالعبارات والكلمات المجرّدة:
«لماذا لا تذاكر؟!»، «قم راجع دروسك» إلخ...
بينما الابن لم يَرَ أباه يوماً يقرأ كتاباً!
لم يَرَ أمّه تفكّر في موضوع علمي!
فكيف نخلق عندهم هذا الحافز، ونحن نفتقد ممارسة الاطّلاع والقراءة؟!!
الأبناء الذين يرون عوائلهم، آباءهم، أمّهاتهم، لديهم اهتمام بالعلم والمعرفة، بطبيعة الحال سيتأثرون بهم.
بعض العوائل يتفاعلون مع أبنائهم في دروسهم، ويسألونهم في مواضيع علمية تخصّ دراستهم، وهم بذلك يبدون اهتمامًا مؤثّرًا مشجّعًا، وكأنّ الابن يعلّم أباه أو أمّه، يشرح لهم بعض المسائل العلمية، وهو يشعر بأهمية ما درس، هذا يخلُق حافزًا عند الأبناء، حينما يرون اهتمامًا عند العائلة بالمعرفة والعلم.
5- برمجة حياة العائلة بما يخدم الاهتمام التعليمي
مجتمعاتنا تعوّدت بعض العادات السّلبية التي ليست في صالح الجدّية في التعليم ولا في العمل.
ومنها عادة السّهر، حينما تسهر العائلة على مشاهدة المسلسلات والأفلام، أو الخروج للتمشية والزيارات، ويطلب من الابن المبادرة للنوم المبكر، يشعر بأنه محروم من شيءٍ يعيشه بقية أفراد العائلة، فهو يحبّ أن يجلس معهم ويشاركهم السّهر.
بينما لو كانت العائلة كلّها تُوقّت نومها، ويقظتها، وأوقات طعامها بما يخدم حالة التعليم ووضع الأبناء في التعليم، سيكون ذلك مفيدًا جدًّا.
فحين يسهر الأبناء إلى وقت متأخّر من الليل، يكون استيقاظهم بمشقّة، واستعدادهم للخروج إلى المدرسة يحتاج إلى كلفة.
فكيف يكون لديه نشاط وحيويّة؟!.
الأبناء في مرحلة الدراسة ينبغي أن تحيطهم العائلة بأجواء الجِدّ والحيويّة والنشاط، حتى يكون الأولاد أكثر رغبة وأكثر نشاطًا.
ثانيًا: دور المعلم
المعلم ينبغي أن يعرف أنه يقوم بِعَملٍ عِبَادِيّ اجتماعي.
وأن يتعامل مع الطلاب باعتبارهم أبناءه، وغدًا سيرى نتاج عمله ماثلاً أمامه، طبيبًا يعالجه، أو موظّفًا في دائرة حكومية يخدمه، أو زوجًا لابنته، أو معلّمًا لأبنائه، وهكذا يقطف المعلم في المستقبل ثمار ما غرس في الماضي.
مِن هُنا ينبغي للمُعَلّمين أن يجتهدوا، وأن يُخلِصوا، وألّا يتعاملوا مع التعليم كمجرّد مِهنةٍ أو مصدر رِزقٍ، وإنّما بالفعل يتقرّبون إلى الله سبحانه وتعالى لقيامهم بهذا الدور.
ثالثًا: الأجواء الاجتماعية العامة
ينبغي أن تكون الأجواء الاجتماعية مُشجّعة على التعليم، فالمجتمع ينبغي أن يَخلُق أجواء التنافس للرقيّ بمستوى أبنائه، وقد حصلت بعض المبادرات الإيجابية في هذا الإطار، كإقامة احتفالات تكريم المتفوقين سنويًّا، وهو أمر مهمٌّ للغاية، ينبغي أن ينتشر في جميع مدن وقرى المنطقة.
وقبل ذلك نحتاج إلى صنع الأجواء التي تُنتِج المتفوقين.
كيف نصنع متفوقين؟
أن نهتمّ بالمنشآت التعليمية، نعم.. هي مسؤولية الدولة في المقام الأول، لكن بعض القضايا تحتاج متابعة من أبناء المجتمع، تحتاج اهتمامًا من الناس.
اِعتَبِر نفسَك مَعنِيًّا بِأَوضاعِ المدرسة الموجودة في منطقتك، وينبغي أن تهتم فئة من أبناء المجتمع بأَوضاع المدارس، بتوفير النواقص فيها، بالمتابعة مع المسؤولين. في بعض الأحيان البيئة التعليمية لا تُشجّع الطالب على الرغبة في الدّراسة.
بحمد الله تقلّصت المباني المـُستأجرة في منطقتنا، وهذا أمرٌ طيّب وتُشكَر عليه إدارة التعليم في المنطقة، ووزارة التعليم بشكل عام، ونتمنّى أن يكون ذلك على مستوى الوطن، بتأهيل كلّ منشآت التعليم والدراسة، لتكون بيئة تعليمية صالحة. وإذا كان هناك نقصٌ في بيئات التعليم فعلينا أن نهتمّ بهذا الأمر على الصّعيد الأهلي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
* كلمة الجمعة بتاريخ 24 ذو الحجة 1438هـ
[1] شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج20، ص267، رقم 98.
[2] سنن الترمذي. ج5، ص578، حديث 3599.
[3] الكافي. ج4، ص250، حديث 7.
[4] مصباح الكفعمي، ج1، ص280، من دعاء الإمام الحجة (عج): اللهم ارزقنا توفيق الطاعة.