إن من الموضوعية الاعتراف بوجود فهم مشوه يقدم مقولات الزهد على أنها استسلام وهروب من تحمل مسؤوليات الحياة، ومن هنا لا يمكننا الدفاع عن التدين الذي يتصور حالة من التنافي التام بين الدنيا والآخرة، ولتقديم مقاربة لواقع التدين وما ينبغي أن يكون عليه، لا بد من البحث عن الإنسان والأديان وعلاقة كل واحد منهما بالأخر.
فهل الأديان وجدت من أجل الإنسان؟ أم وجد الإنسان من أجل الأديان؟ وبعبارة أخرى، هل الدين يسعى لتحقيق شيء للإنسان؟ أم الإنسان هو الذي يسعى لتحيق شيء للأديان؟
وكل واحد من اللحاظين قد يعكس مفهوماً للدين مغايراً للأخر، فالدين الذي يكون محور اهتمامه هو الإنسان؛ لابد ان يراعي طموحات الإنسان، وآماله، وآلامه، محققاً بذلك تداخلاً وتفاعلاً لا يستغني الإنسان عنه، فالإنسان الذي يغفل عن نقاط ضعفه، ولا يلتفت إلى نقاط قوته، بحاجه دائمة لمن يذكره ويعزز ثقته، والدين بهذا الوصف ليس شيئاً غير التذكير والتنبيه (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ) . يذكره بعقله وضرورة العمل به (أَفَلَا تَعْقِلُونَ)، وبأن العلم هو الذي يحقق السمو والتكامل (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ)، ويأمره بالأخلاق الفاضلة، والتحلي بالقيم المثلى (عِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً)، وينهاه عن الهوى، والشهوات، وصغائر الامور، (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى). والإنسان في معترك الحياة لا يستغني عمن يدفعه ويأخذ بيده إلى ما فيه صلاحه.
والدين بهذا الوصف ليس صلاحاً للإنسان على مستوى الحياة الدنيا فحسب؛ وإنما أيضاً يفتح له الآفاق لحياةٍ أخرى كان غافلاً عنها، فالإنسان عندما يصبح كاملاً في حدود إنسانيته، لا يكون لكماله معنى إذا أكله التراب وأندثر إلى الابد، ومن هنا كان هناك ضرورة للدين الذي يحقق للإنسان أملاً في حياة ليس لها حد محدود (قَالَ اللَّهُ هَٰذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ). وبالتالي تصبح كل اهتمامات الأديان هي الإنسان، والدين بهذا المعنى لا يكون ديناً إلا إذا حقق للإنسان قيمة حياتيه وأخرويه.
أما التيارات اللا دينية فلها صورة أخرى لعلاقة الإنسان بالأديان، فهي تصور الدين بوصفه حالة استلاب وتنازل من قبل الإنسان لصالح الأديان، فالإنسان ضمن هذا التصور يتخلى وبمحض إرادته عن عقله من أجل نصوص وحيانية، ويهمل أسباب العلم من أجل إيمانيات غيبية، ويترك دنياه من أجل حياة أخرى موعودة، وهكذا يعيش الإنسان ويموت من أجل الأديان، وبذلك تعلن الأديان انتصارها الابدي على حساب الإنسان.
وقد يرتكز هذا التصور على شواهد من واقع التدين الشكلي، حيث يُسخّر الإنسان فيه كل طاقاته من أجل الحفاظ على مسمى الدين بعيداً جوهره وحقيقته، ولو اكتفينا بواقع بعض الجماعات المسلمة، ومدى تأثير هذا التدين على واقع الإنسان الحضاري، لاجتمعت عندنا شواهد كثيرة تغيّبُ فيها قيمة الإنسان وكرامته، فبعض الخطابات الإسلامية لا تلتفت كثيراً للإنسان كقيمة محورية في الإسلام، فالعقيدة عندهم ليست رؤية معرفية واساساً صلباً لقيم الإنسان الحضارية، وإنما هي مجرد أفكار يجب الإيمان بها حتى لو لم تكن لها انعكاس إيجابي على مستوى الحياة الدنيا، كما أن التشريعات لم تعد الإطار الذي يجعل من سلوكيات الإنسان سلوكيات حضارية، فعندهم انفصلت الأحكام عن قيمها وابتعدت التشريعات عن حِكمها، فأصبحت طقوس فارغة وشكليات لا معنى لوجودها.
هكذا هو حال الوعي الديني عند بعض الجماعات المسلمة، لم يكترث للإنسان وإلى ما يعانيه من جهل ورجعية وتخلف وتبعية، بل قد يلعب هذا الوعي المشوه دوراً سلبياً عندما يبرر الواقع الفاسد ويخدر الناس باسم الدين نفسه، من أجل أن يتعايشون مع مصيرهم ويرضوا بما قسم لهم من عناء، فالكرامة المهدورة، والحقوق المضيعة، والحريات المصادرة، والفقر المستشري، والجهل المُتحكّم، كل ذلك ضريبة الإيمان عندهم، فالدنيا عندهم جنة الكافر والآخرة جنة المؤمن وليس له نصيب من الحياة، أو هكذا يراد لهم أن يفهموا الدين.
ومن هنا فإن البحث عن قيمة للإنسان وفهم الدين ارتكازاً على هذه القيمة هو الكفيل بفضح التدين السلبي في واقع المجتمعات المسلمة، وقد تعرضنا في أجوبة سابقة للكثير من الإشكالات التي تحمل الإسلام مسؤولية التخلف والرجعية في العالم الإسلامي، وسوف نكتفي هنا بالإشارة إلى الفهم الخاطئ لبعض المقولات الدينية مثل "الدنيا فانية". "الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر". "وما الدنيا الا متاع الغرور".
فالأمر المؤكد أن هذه المقولات لا تعارض مسؤوليات الإنسان اتجاه الحياة وضرورة اعمار الأرض، فهي بالأساس تهدف إلى خلق توازن بين الدنيا والآخرة، فالإنسان بطبعه الغريزي اكثر حرصاً على الدنيا، فمع أن الموت حقيقة حتمية إلا أن الإنسان يميل إلى عدم التصديق به، وقد قال الامام علي (عليه السلام) في ذلك: "ما رأيت حقاً اشبه بالباطل كالموت"، ومن هنا كان الإنسان في حاجة ماسة إلى من يذكره دوماً بحقيقة فناء الدنيا، فوظيفة الدين هي ربط الإنسان بالآخرة، أما الدنيا فلا يحتاج الإنسان إلى من يربطه بها، قال تعالى: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ).
فالاهتمام بالجانب المادي للإنسان ضروري ولكن بشرط ألا يكون على حساب الجانب الروحي لديه، فكما يشعر الإنسان بحاجة مادية يشعر كذلك بحاجة روحية، والافراط والتفريط في أي واحد منهما قد يحقق مكسباً في جهة ولكن على حساب خسائر في جهة أخرى، وهكذا يبقى الانسان ضائعاً وفي حاجة ابدية لمن يحقق له توازن الروح والجسد، وهذا لا يتم إلا بفهم الدنيا في إطار الآخرة، فدعوة الدين إلى التعقل يفتح الطريق نحو تفاعل منطقي مع متطلبات الحياة، وتزهيد الدين في الدنيا يفتح الطريق إلى السكينة والانسجام الروحي، ولكي تكتمل هذه النظرة التكاملية لابد من النظر إلى الإنسان بوصفه محوراً وقيمة أساسية للأديان.
وبذلك يصبح التدين هو الإطار الذي تتساوى فيه أهمية الإنسان كمادة وروح، فليس التدين حالة من الجذب الوجداني فقط، وإنما ايضاً حالة من الوعي المرتبط بالحياة والمتفاعل معها، فالمتدين حقاً هو الذي يحقق وعياً بوجوده ووعياً بمحيطه، فيحافظ على سمو روحه وسلامة بدنه وصلاح مجتمعه، أما التدين الشكلي فهو انعكاس لحجم الإحباط الذي عاشه المسلم، ففضل الهروب بدل المواجهة وتزرع بهذا الفهم المشوه الذي يرفع المسؤولية عن كاهله.