ومن هنا انبرى جمعٌ من الكتاب -بحسن نيةٍ منهم- لنفي هذه التُّهمة عن طريق تضعيف هذه الروايات، أو دعوى أنَّ هذه الروايات صدرت لمعالجة قضيَّةٍ خارجية معيَّنة وليس المقصود منها الحكم على طبيعة النساء وإنَّما المقصود منها نساء محدَّدات اقتضت المصلحة التعريض بهنَّ حتى لا ينساقَ الناسُ وراءهن لمجرَّد موقعهنَّ الاجتماعي.
إلا أنَّه لا أعتقد أنَّ ذلك نافعٌ لمعالجة هذه الإشكالية، إذ أنّ صياغة مجموعة من هذه الروايات يأبى هذا الحمل، ولذلك فالأجدرُ في مقام الإجابة عن هذه الإشكالية أنْ يُقال:
إنَّه ليس من الانصاف والموضوعيَّة في البحث عزلُ هذه الروايات عن الآيات والروايات الكثيرة التي تصدَّت لبيان موقع المرأة في الـمـنـظـور الإسلامي، إذ بملاحظتها سينكشف زيفُ هذه الإشكاليَّة، وقد أوضحنا ذلك في بحث قيمومة الرجل، وأثبتنا من خلال الآيات الكريمة أنَّ الإسلام يرى إنسانيَّة المرأة متكافئةً مع إنسانيَّة الرجل، وأنَّ الله عزَّ وجلَّ عندما أكرم الإنسان لم يُميِّز في ذلك بين الذكر والأنثى 2 وعندما حمَّل الإنسان أمانةَ الخلافة في الأرض أمَّنه إياها بلحاظ إنسانيتِه 3 والتي يتساوى فيها الرجلُ والمرأة، ثم جعل أساس القُرب والحظوة عنده بالتقوى، فكلُّ مَن كان أتقى كان أقربَ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ وإنْ كان أنثى 4. وإذا كان ثمةَ مِن تفاوتٍ فهو في الوظائف والمسؤوليَّات، ولم يتحدَّد ذلك عبثاً وجزافاً وإنَّما نشأ عن مقتضيات طبيعة الخَلْق والتكوين لكلٍّ مِن الرجل والمرأة والتي أودعتْها عنايةُ الله عز وجل في جبلَّة كلٍّ منهما حرصاً على خَلْق التوازن في البناء الاجتماعي.
معنى الرواية:وعندئذٍ يتَّضح أنَّ الروايات – لو صحَّت- ليست بصدد الانتقاص من قدْرِ المرأة وإنَّما هي بصدد التعريف بـالـواقـع التكويني للمرأة، فلا ضيْرَ على المرأة أنْ يكون هذا هو واقعها إذا كانت قد خُلقت وهُيئت لتشغل دوراً في عمليَّة البناء لا يُناسبُه إلا أنْ تكون بهذا الواقع الذي هي عليه فنقصُ العقل هو نتيجة حتميَّة لغلبة الملَكات المودَعة في جبلَّة المرأة المناسبة لدورها في البناء والمجافية لمقتضيات التعقُّل. فالرأفةُ والحنانُ والوداعة والرقَّةُ والخجلُ والحياءُ مشاعرُ إنسانيَّة إلا أنَّ حظَّ المرأةِ منها أكثرُ من حظِّ الرجل، فهي أعمقُ امتداداً في وجدانها منها في وجدانِ الرجل، وهذا ما يُفضي إلى أنْ تتلوَّن معظمُ مواقفِها وقراراتها بلونِ هذه السِمات.
ومعلومُ أنَّه عندما تستحكمُ هذه السِمات والمشاعر في النفس ويستوثقُ أثرُها في القلب فإنَّ مستوى من التعقُّل ينحجب عن الأفق، لأنَّ انفعال النفس بالمشاعر المذكورة يحولُ دون انبساطه، وهو ما يقلِّل من تأثيره نظراً لضيق المساحة التي سيشغلُها بعد افتراض انشغال النفس بمشاعرَ تستحوذُ على معظم مساحتها. فلأنَّ النساءَ أرهفُ شعوراً كنَّ أضعفَ تعقُّلاً، وليس في ذلك انتقاصٌ لقـدْر المرأة نظراً لحاجة البناء الاجتماعي والأسري لدورها الخطير والمُفتقر في طبيعته لهذا المستوى من الشعور.
فلئِن كانت المرأةُ أضعفَ تعقُّلاً من الرجل فالرجل أضعفُ عطفاً ورحمةً وحناناً، فكما أنَّ وصفَ الرجل بذلك لا يُعبِّر عن انتقاصٍ لقدْرِه فكذلك الحال بالنسبة للمرأة، على أنَّ الوصف بالأضعفيَّة أمرٌ نسبي، وليس معناه سلبَ التعقُل عن المرأة، كما أنَّ وصف الرجل بالأضعفية من جهة الرحمة والعطف لا يعني سلب الرحمةِ والرأفة عن قلبِه، وإنَّما يعني أنَّ الرحمة إذا أُضيفت إلى الرجل فهي أضعفُ تجذُّراً في قلبِه بالقياس للمرأة، وهكذا إذا أُضيف التعقُّل إلى المرأة فإنّ معنى ذلك أنَّ استحكامَه في قلبِها أقلُّ من استحكامِه في قلب الرجل، وكلُّ ذلك نشأ عن طبيعة الخَلْق والتكوين لكلٍّ منهما لغرض خلْق التوازن الذي هو ضرورةٌ حتميَّة في عمليَّة البناء الاجتماعي.
الفرقُ بين الذكاء والتعقل:ثم إنّ هنا أمراً لا بدَّ من التنبيه عليه لتكون الروايات أكثر وضوحاً، وهو أنَّ المقصود مِن التعقُّل هو حسنُ التدبير ووضعُ الشيء في موضعِه، وليس المقصودُ منه الذكاء والإدراك والقدرة على استيعاب المعلومات وحفظِها وغير ذلك ممَّا يتَّصل بالفهم والاستجابة الذهنية لحلِّ المُعضِلات الرياضية مثلاً، فإنَّه ليس في ذلك تفاوتٌ يُذكر بين الرجل والمرأة.
والذي يُؤكِّد هذا الفهم هو استعمالات العرب لهذا اللفظ "العقل" فإنَّهم يستعملونه في الحِلْم، وسعةِ الصدر، والحكمةِ في مُعالجة الأمور، فالعاقلُ في استعمالاتِهم هو مَن يُعالج الأمور على أساس الحكمة، ويُوازن بين أوجُهِ المصالح والمفاسد بعيداً عن الانفعال والعاطفة. فكلُّ من يُدير شؤونه على هذا الأساس يكون عاقلاً في استعمالات العرب حتى لو لم يكنْ عالماً بل وحتى لو كان أميَّاً، وكلُّ مَن لا يُحسِنُ تدبير شؤونِه فإنَّه لا يكون عاقلاً حتى لو كان يملك قدْراً كبيراً من العلم.
فالعقلُ هو المُنتِج للرأي الصائب والسلوك السليم، وذلك لأنَّه يعتمد الحِلْمَ وسعةَ الصدرِ والهدوءَ والتأنِّي ومراجعةَ الأمور وموازنتَها وسائلَ للوصول للنتيجة بعيداً عن الهوى والانفعال، فهو مِن عقْل النفسِ وحبْسِها عن الانسياق مع الرغبةِ والهوى وإشفاء الغليل أو الخلود للراحة والدِّعة.
يقول ابنُ منظور في لسان العرب: العاقل الذي يحبس نفسه ويردُّها عن هواها، وهو مأخوذ من عقل البعير أي حبسه 5 ويقول: إنَّ العقل هو التثبُّت في الأمور، وسُمِّي العقلُ عقلاً لأنَّه يعقل صاحبَه عن التورُّط في المهالك أي يحبسُه. ويقول ابن الأنباري 6: إنَّ العاقل هو الجامع لأمرِه ورأيِه، مأخوذٌ من عقلتُ البعير إذا جمعتُ قوائمَه.
وبهذا يتَّضح أنَّ المرأة أقلُّ حظاً في ذلك من الرجل نظراً لطُغيان جانب الانفعال والعاطفة عليها، وهذا ما يُوجب صعوبة حبْس أثرِها والعجز عن استجماع الرأي واستكمال موادِّه، فعندما يُقال إن المرأة ناقصةُ عقلٍ فهو بمعنى أنَّ قُدرتَها على حبْس مشاعرها عن أنْ تؤثر في قراراتها ومواقفها أقلُّ من قدرةِ الرجل على ذلك، وهذا ما تُؤكده التجارب والدراسات العلمية التي قام بها الكثيرُ من علماء النفس حيث توصَّل الكثيرُ منهم وبعد البحث والاستقراء إلى أنَّ قرارات المرأة غالباً ما تقعُ تحت تأثير المشاعر والأحاسيس.
والمتحصَّل ممَّا ذكرناه أنَّ هذه الروايات تصلح جواباً عما يثار حول منشأ جعل القيمومة والطلاق للرجل، فلأنَّ القيمومة والطلاق أمران لا سبيل لإهمال تشريعهما نظراً لأثرهمِا البالغ في عمليَّة البناء، ولأنَّ الشريعة تحرصُ على أنْ يكون أداؤهما يناسبُ الغرض من جعلهما، لأنَّ الأمر كذلك كان لا بدَّ من اختيار مَن هو أكثر كفاءةً لحمل هذا العبء بعيداً عن بريق الشعارات الصاخبة التي لا جدوى منها غير أنَّها تلامس المشاعر.
فالرجلُ وبحسب استعداداته التكوينيَّة أقدرُ على جعل الأمور في نصابِها نظراً لكونه أكثر هدوءً وتأنِّياً، وأوسع صدراً وأقدر على حبسِ عواطفه وكبحِ جماح مشاعره، وهذه هي موادُّ التعقل المُفضية لاستجماع الرأي، وهو مبرِّرُ اختيار الرجل لتحمُّل مسؤولية القيمومة دون المرأة، وذلك لا يعني أنَّ المرأة غير قادرةٍ مطلقاً على حزمِ أمورها بما يُناسب مقتضى التعقُّل وإنَّما يعني أنَّ الرجلَ أقدرُ على ذلك منها، ولذلك لم تسلِب الروايات صفةَ التعقُّل عن المرأة وإنَّما وصفت تعقُّلَها بالنقص.
الهوامش: 1. صحيح البخاري ج1 / ص83، صحیح مسلم 1986 / حدیث 79، سنن ابن ماجه ج2 / ص1326 / حديث 4003، أحكام القرآن للجصاص ج2 / ص24، مسند أحمد ج3 / ص373 بتفاوت يسير في الجميع. الرواية عن النبي (ص)، وبالمضمون عن الإمام علي عل في نهج البلاغة تحقيق الصالح ص105، الوسائل ج15 / ص95 / ب 34 من أبواب جهاد العدو وما يناسبه ح۳ (20057)، الوسائل ج 27 / ص 272 / ب 15 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى حه (33756)، الوسائل ج27 / ص335 / ب 16 من أبواب الشهادات / ح۱ (33871). صبحي. 2. ﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا ﴾ سورة الاسراء: 70، ﴿ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ﴾ سورة الأحزاب: 35، ﴿ فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ ... ﴾ سورة آل عمران / 195، ﴿ وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا ﴾ سورة النساء/ 124، ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ سورة النحل / 97. 3. ﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ ... ﴾ سورة الأحزاب / 72. 4. ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾ سورة الحجرات / 13. 5. لسان العرب -ابن منظور- ج11 / ص458، تاج العروس -الزبيدي- ج15 / ص505. 6. لسان العرب -ابن منظور- ج11 / ص458، تاج العروس -الزبيدي- ج15 / ص505، المحيط في اللغة- الصاحب بن عباد-ج1 / ص19، تهذيب اللغة- الأزهري- ج1 / ص161.