وحسمُ هذا الجدلِ غيرُ ممكنٍ إذا لم نمتلِك وسائلَ النّفي والإثباتِ التي تفيدُ القطعَ واليقينَ، وما هو متاحٌ مِن وسائلَ لا يرتقي إلى مستوى اليقينِ، فالذينَ يؤكّدونَ حدوثَه إنّما يستدلّونَ ببعضِ الحوادثِ والحالاتِ مثل قراءةِ القرآنِ على بعضِ المرضى وما يحدثُ لهم مِن إضطرابٍ إلى درجةِ أنّهم يتحدّثونَ بأصواتٍ ليسَت أصواتهم، وبما أنَّ الإنسانَ يحارُ في تفسيرِ مثلِ هذه الحالاتِ يصبحُ من السّهلِ عليه نسبةُ ذلكَ إلى الجنِّ، أمّا الذينَ لا يقبلونَ بمثلِ هذا التفسيرِ نجدُهم يميلونَ إلى تفسيرِها بالتحليلِ النّفسي وسيطرةِ العقلِ الباطن أو ببعضِ الأمراضِ النفسيّةِ التي يمكنُ علاجُها بالطبِّ النّفسي، وبما أنَّ العلمَ الحديثَ لم يصِل بعدُ إلى التفسيرِ القطعي لمثلِ هذهِ الحوادثِ سيحافظُ كلُّ فريقٍ على موقفِه.
وحسم الجدلَ دينيّاً من خلالِ القرآنِ ورواياتِ أهلِ البيت (عليهم السّلام) غيرُ ممكنٍ؛ والسببُ بسيطٌ وهوَ أنَّ الدينَ مشروعٌ لهدايةِ الإنسانِ والارتقاء به معنويّاً وأخلاقيّاً، وليسَ مِن وظائفِه تقديمُ تفسيرٍ لكلِّ الظواهرِ الوجوديّةِ والاجتماعيّة والنفسيّة، فهناكَ الكثيرُ منَ الظواهرِ التي لا نعرفُها فهل يُطالَبُ الدّينُ بتفسيرِها وبيانِ أسرارِها؟ ومنَ المؤكّدِ أنَّ الكثيرَ منَ الظواهرِ فسّرَتها البشريّةُ بشكلٍ خاطئ فهل أرسلَ اللهُ لهم أنبياءَ حتّى يصحّحوا لهم تلكَ الأخطاء؟ ومِن هنا ليسَ هناكَ فرقٌ بينَ وجودِ فايروس مجهول يسبّبُ حالةً منَ الهستيريا للإنسانِ وبينَ وجودِ جنيٍّ يسبّبُ صرعاً للإنسان؟ فإذا كانَ وجودُ الفايروس وكيفيّةُ الوقايةِ منه لا يُسألُ عنه دينيّاً فكذلكَ الحالُ بالنسبةِ للجني، فكلُّ الحالاتِ الصحيّةِ التي تعتري الإنسانَ سواءٌ عرفنا أسبابَها المباشرةَ أو لا، وسواءٌ كان َعلاجُها بالعقاقيرِ الطبيّةِ أو بالجلساتِ الروحيّةِ ليسَت من اهتماماتِ الدّين، ولا يتدخّلُ الدّينُ في هذهِ الأمورِ إلّا في ما يتّصلُ بالحرامِ أو الحلال أو فيما يتّصلُ بالضلالِ أو الهداية، ومِن هنا لم نجِد في آياتِ القرآنِ أو أحاديثِ أهلِ البيتِ أيَّ ذكرٍ لتفسيرِ بعضِ الظواهرِ النفسيّة، وما زالت البشريّةُ تجهلُ الكثيرَ مِن أسرارِ الخلقِ، والجنُّ ليسَ إلّا خلقاً كبقيّةِ الخلق، وقد عرفنا بعضَ المخلوقاتِ وغابَ عنّا أكثرُها، ولولا أنَّ القرآنَ أكّدَ لنا وجودَ الجنِّ لما استيقنا مِن وجودِه لعدمِ امتلاكنا الوسائلَ التي تمكّنُنا مِن ذلك، ويبدو أنَّ الداعي لذكرِ الجنِّ في القرآنِ هوَ وجودٌ مُشتركٌ في التكليفِ بينَ الإنسانِ وبينَ الجن، قالَ تعالى: (وَمَا خَلَقتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعبُدُونِ) أو لوجودِ بعضِ التداخلِ بينَهما فيما يخصُّ الهداية والضّلال كقولِه تعالى: (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الجِنَّ وَخَلَقَهُم وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيرِ عِلمٍ سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ) وقولِه تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالجِنِّ يُوحِي بَعضُهُم إِلَى بَعضٍ زُخرُفَ القَولِ غُرُورًا وَلَو شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرهُم وَمَا يَفتَرُونَ) وكلُّ ذلكَ يُفهم في إطارِ قولِه تعالى: (يَا مَعشَرَ الجِنِّ وَالإِنسِ أَلَم يَأتِكُم رُسُلٌ مِنكُم يَقُصُّونَ عَلَيكُم آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُم لِقَاءَ يَومِكُم هَذَا قَالُوا شَهِدنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتهُمُ الحَيَاةُ الدُّنيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنفُسِهِم أَنَّهُم كَانُوا كَافِرِينَ) ولم يحدّثنا القرآنُ عن تواصلٍ مباشرٍ بينَ الإنسِ والجن إلّا في موردِ سيّدنا سليمان وكيفَ أنَّ اللهَ سخّرَ له الجنَّ والرّيحَ والطيرَ وجعلَهم جنوداً بينَ يديه قالَ تعالى: (وَحُشِرَ لِسُلَيمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الجِنِّ وَالإِنسِ وَالطَّيرِ فَهُم يُوزَعُونَ) وكذلكَ حالُ الرّواياتِ التي تثبتُ قدرةَ الأئمّةِ (عليهم السّلام) على التواصلِ مع عالمِ الجنِّ، إلّا أنَّ كلَّ ذلكَ يثبتُ قدرةَ الإنسانِ على التفوّقِ والسيطرةِ وليسَ العكس كما هوَ في موردِ السّؤال.
والخلاصةُ انَّ الجنَّ حقيقةٌ قرآنيّةٌ لا يمكنُ إنكارُها أمّا تلبّسُ الجنِّ بالإنسانِ لم يتطرّق لها القرآنُ نفياً وإثباتاً ومنَ الخطأ البحثُ عنها في الآياتِ والأحاديثِ لكونِها خارجةً عن أهدافِ الرّسالةِ وغاياتِها، واللهُ أعلم.