أولاً: لا نعرف المصدر الذي تلقَّى منه السائل هذي المعلومة المغلوطة المشوَّهة، وكوَّنت تصوُّره وتساؤله؟!
فقد افترَض: أن مراجع الشيعة لا يحجُّون! ثم افترَض: أن تعلُّم الناس أحكام الحج يتوقف على حَجِّ المراجع!
وهذا اشتباه واضح، بل مجرَّد زَعْمٍ بلا بيِّنة!
فمراجع الشيعة ـ قديماً وحديثاً ـ يرون أن الحج من أركان الإسلام، ووجوبه عينيٌّ على كل مكلَّف توفرتْ فيه الشروط المذكورة في المدوَّنات الفقهية المعتبرة.
ولا فرق في هذا الحُكم التكليفي بين الفقيه وبين العامي، فالكل يجب عليه أداء فريضة الحج إذا استكمل شروطها.
قال السيد اليزدي ـ وهو فقيه الشيعة الأكبر ـ في العروة الوثقى: ج٤ ص٣٤٢، «ِمن أركان الدين الحج: وهو واجب على كل مَن استجمع الشرائط الآتية ـ من الرجال، والنساء، والخُناثى ـ بالكتاب، والسُّنة، والإجماع من جميع المسلمين، بل بالضرورة. ومنكرُه في سِلك الكافرين، وتاركُه ـ عمداً، مستخفاً به ـ بمنزلتهم، وتركُه ـ من غير استخفاف ـ من الكبائر. ولا يجب ـ في أصل الشرع ـ إلا مرة واحدة في تمام العمر، وهو المسمَّى بـ(حَجة الإسلام)، أي: الحج الذي بُنِي عليه الإسلام، مثل: الصلاة، والصوم، والخمس، والزكاة».
ثانياً: كثير من مراجع الشيعة ـ قديماً وحديثاً ـ حَجُّوا ولله الحمد، فبعضهم حجُّهم مؤرَّخ في تراجمهم ـ كما سيأتي ـ وبعضهم عاصرناهم ورأيناهم يحجُّون، أو سمعنا بحجِّهم.
منهم مثلاً:
١- السيد محسن الأمين: ذكر عن نفسه أنه حَجَّ مرتين، في كتابه أعيان الشيعة: ج١١ ص٤٩.
٢- الشيخ محمد الحسين كاشف الغطاء: ذكر عن نفسه أنه حَجَّ سنة ١٣٢٩هـ، في كتابه العبقات العنبرية: ص١٢.
٣- السيد حسين البروجردي: حَجَّ سنة ١٣٤٤هـ، كما في كتاب حياة سيِّد الطائفة: ص٩٠.
٤- السيد محسن الحكيم: حَجَّ سنة ١٣٨٧هـ، وكانت حَجَّته حدثاً إسلامياً مشهوراً، رجال المستمسك: ص٦٤.
٥- السيد أبو القاسم الخوئي: ذكر عن نفسه أنه حَجَّ سنة ١٣٥٣هـ، في كتابه معجم الرجال: ج٢٣ ص٢٢.
٦- السيد عبدالأعلى السبزواري: ذكر عن نفسه أنه حَجَّ مرتين، كما في كتاب العارف ذو الثفنات: ص٨٤-٨٥.
وغيرهم كثير، فهؤلاء من أكابر علماء الشيعة المتأخرين، وبعضهم انتهتْ إليهم الزعامة العامة للطائفة.
نعم بعضهم حَجَّ مرة واحدة ـ وهي المقدار الواجب أداؤه على المكلَّف ـ وبعضهم حَجَّ أكثر ـ بحسب ظروفه ـ وليس تكرار الحج بواجب عليه شرعاً، حتى ولو كان مستطيعاً.
وإنما الواجب على المراجع: حِفظ الدين وترويجه، وتربية المجتهدين، وإعمار الحوزة العلمية بالدروس والمؤلفات، وإدارة الشؤون العامة لشيعة أهل البيت (ع) بالعالَم.
لأجل تحمُّل مسؤولية هذا الواجب المعقد، لا يتكرَّر الحج كثيراً من الفقهاء ـ والذي هو مستحب في نفسه ـ فلديهم وظائف دينية أوكد وأهم من أداء الحج المندوب.
ثم الذين لم يحجُّوا من مراجعنا هُم القِلَّة، وسيجيء بيان بعض الأعذار الشرعية التي اضطرَّتهم لعدم الحج.
ثالثاً: للحج شروط فقهية محدَّدة، ولا يجب على المكلَّف ما لم تجتمع له هذه الشروط ..
قال ابن قدامة الحنبلي في المغني: ج٥ ص٦ م٥٣٨،
«الحج إنما يجب بخمس شرائط:
• الإسلام.
• والعقل.
• والبلوغ.
• والحرية.
• والاستطاعة.
لا نعلَم في هذا كله اختلافاً».
ومَن لم يحج من الفقهاء، فلعدم توفره على هذه الشروط ولابد، وليس لأسباب أخرى غير شرعية.
غالباً يكون المانع لديهم هو: عدم تحقق شرط الاستطاعة، إما المالية أو البدنية.
فإن أكثر مراجع الشيعة فقراء شَيَبة، يقاسون شَظَفاً وعَوَزاً، وليست المرجعية تعني الثراء والرخاء، إنما تعني مسؤولية جسيمة، مليئة بالمصاعب والمتاعب.
والأموال الشرعية التي تُجبى إليهم من مقلِّديهم، ليس بها لهم غير إدارتها بأمانة ونزاهة، وإيصالها إلى مستحقيها في أرجاء الأرض، أو صرفها في مواردها الاجتماعية المعروفة.
ولا نعرف أحداً بمراجعنا ـ طوال تاريخ المرجعية العريق ـ عاش حالة الغِنى، إلا النوادر جداً، ممَّن هُم بالأصل أغنياء، وحتى هؤلاء يعيشون حياة الزهد والبساطة.
بل بلغ الورع والتقوى والاحتياط بفقهائنا، أنهم لا يصرفون شيئاً من الحقوق الشرعية على أنفسهم وأهلهم ـ برغم أن لهم سهماً بها ـ وينفقون من شُغلهم وكَدِّ يدهم!
فمثلاً: ذكروا في ترجمة الشيخ مرتضى الأنصاري ـ مرجع الطائفة الأعلى ـ أشياء مدهشة في قوة صبره على فقره! معارف الرجال: ج٢ ص٣٩٩، وأعيان الشيعة: ج١٠ ص١١٧.
والسيد المرعشي النجفي ـ وهو من كبار مراجع الشيعة المتأخرين ـ أوصى ابنه السيد محموداً أن ينوِّب عنه في الحج، لأنه لم يحج لشدة فقره! الإجازة الكبيرة: ص٥٢٩.
رابعاً: لا يقتصر عدم الحج ـ لأسباب شرعية ـ على بعض فقهاء الشيعة، إذ بعض مشاهير فقهاء السُّنة لم يحجُّوا.
فمنهم مثلاً:
(١) المجتهد ابن الحدَّاد المغربي المالكي: حكى الذهبي في كتابه سير أعلام النبلاء: ج١٤ ت٢٠٧ ص١١٦، أنه لم يحج.
(٢) الفقيه ابن حزم الظاهري: حكى ابن القيِّم في كتابه زاد المعاد: ج٢ ص٢١٣، أنه لم يحج.
(٣) أبو إسحاق الشيرازي الشافعي: حكى الذهبي في كتابه سير أعلام النبلاء: ج١٨ ت٢٣٧ ص٤٥٥، أنه لم يحج.
(٤) قاضي القضاة الدَّامَغاني الحنفي: حكى الذهبي في سير أعلام النبلاء: ج١٨ ت٢٣٧ ص٤٥٥، أنه لم يحج.
(٥) محيي السُّنة البغوي الشافعي: حكى الذهبي في كتابه سير أعلام النبلاء: ج١٩ ت٢٥٨ ص٤٤١، أنه لم يحج.
(٦) القاضي عياض المالكي: حكى ابن حجر في كتابه فتح الباري: ج٣ ص٦١٣، أنه لم يحج.
(٧) الدَّوْلَعِي الشافعي خطيب دمشق ومفتيها: حكى الذهبي بسير أعلام النبلاء: ج٢٣ ت١٧ ص٢٥، أنه لم يحج.
قال الشيخ السَّلفي بكر أبو زيد في كتابه النظائر: ص٢١٢، في الاعتذار لهؤلاء الفقهاء السُّنة عن عدم حجِّهم:
«ولا يمكن أن يقول أحدٌ من أهل الإسلام: إن هذا من باب إيثار العِلم على الحج ـ وهو ركنٌ من أركان الإسلام ـ لكن الأسباب متكاثرة، والعوارض متواردة، ولكلٍّ سببُه الذي يعايشه: فهذا مُعدَم، وذاك خائف غير آمن، وآخر بعُدتْ به الشُّقة، أو أعيَتْ به النفقة، وهكذا من عوارض الاستطاعة، ووجوه الأعذار».
وهذا الاعتذار نفسه، يصلح أن يعتذَر به لبعض فقهاء الشيعة، ممن لم يوفَّق للحج، لأسباب شرعية تخصُّه.
خامساً: تعلُّم المكلَّف لمسائل الحج من واجباته هو، لا من واجبات المراجع، ولا علاقة لحج المراجع بتعلُّمه لها، فسواء حجُّوا أم لم يحجُّوا، مسؤوليته الشرعية أن يتعلَّم أحكامه الابتلائية من مصادرها الموثوقة.
وطرق تعلُّمها وفيرة منوَّعة، وهي متاحة له بيُسْر وسهولة:
فإن للفقهاء رسائل عملية خاصة بمناسك الحج والعمرة، تشرح كل المسائل التي يُبتلى بها المكلَّف في نُسُكِه، وهي مطبوعة بعدة لغات عالمية، وأيضاً لها نُسخ الكترونية.
كما للمراجع وكلاء معتمَدون منتشرون في أقطار العالَم، يستطيع المكلَّف مراجعتهم في احتياجاته بأريحية.
وأيضاً لمراجعنا بعثاتٌ علمية تَرِدُ إلى موسم الحج سنوياً، وظيفتها: إرشاد الحُجاج والمعتمرين وتعليمهم أحكامهم.
هذا غير المواقع الالكترونية، والتطبيقات الذكية، لمكاتب المراجع، والمتاحة لتواصل جميع المكلَّفين في كل حين.
فما ندري، لماذا يحمَّل الفقهاء ما لا يحتملونه؟! ويكلَّفون ما لا يطيقونه؟! ويلزمون بمسؤوليات هي قائمة أصلاً على أفضل وجه ممكن، ببركة جهودهم؟!