علم النفس تحدث عن الموت بشكل مسهب ومفصل عن الظواهر وعن الأمراض النفسية الأخرى، تحدث عن القلق، الهلوسة، تحدث عن أغلب الأمراض النفسية، ولكن عندما يصل علماء النفس إلى الموت، فإنهم يتحدثون بنزر قليل عن الموت وعن القلق من الموت، مع أن ظاهرة القلق من الموت هي أكبر ظاهرة، هي الظاهرة التي تحتل المجال الأوسع في نفوس الناس، ومع ذلك فإن علماء النفس عندما يقفون عند هذه الظاهرة، يتناولونها بنزر من الكلمات.
الدكتور محمد أحمد عبد الخالق، في مجلة عالم المعرفة، في عدد 111 يقول:
حاول الأطباء النفسانيون أن يقوموا بدراسات ميدانية عن القلق من الموت، ولكن الدراسات لم تعطي نتائج في هذا المجال كما أعطت في المجالات الأخرى، لأن الفاحص الذي يقوم بالدراسة، والمفحوص الذي تجرى عليه الدراسة، كلاهما لا يحب أن يتحدث عن الموت، ولا يحب أن يتكلم ولا يجيب عن الأسئلة ولا أن يركز في الحديث عن الموت.
التحدث عن الموت شيء مبغوض، ومكروه، الإنسان قلق من الموت، لأن جميع العلل لها دواء إلا الموت، الإنسان يبغض الفشل، يبغض المرض، يبغض الفقر، يبغض الجهل، ولكن لا يبغض هذه الأشياء كما يبغض الموت، هذه الأشياء يمكن علاجها، أما الموت فلا علاج له، الموت آخر علة يعتلها الجسم العليل، الموت علة لا دواء لها
يا موت ما أقساك من نازل
تختطف العذراء من خدرها تنزل بالمرء على رغمه
وتأخذ الواحد من أمه
لماذا نقلق من الموت؟
لأن الموت يعني فراق لذة الحياة، ونحن نحب لذة الحياة، لأن الموت يعني فراق الأحبة والأهل، الحسن الزكي عليه السلام يبكي وقت احتضاره، يقال: يا أبا محمد، أنت سيد شباب أهل الجنة، فما يبكيك؟ قال: ”أبكي لخصلتين: هول المطلع، وفقد الأحبة“.
نحن نقلق من الموت لأن الموت بداية مصير مجهول، عالم مجهول لا نملك عنه خبرة، ولا نملك فيه تجربة، لذلك نقلق منه، نحن نقلق من الموت، لأن وراء الموت محاسبة، وسجلا ينتظرنا، وملفات تستقبلنا.
ولو أنا إذا متنا تركنا
ولكنا إذا متنا بعثنا لكان الموت راحة كل حي
ونسأل يومها عن كل شيء
نحن نتحدث عن الموت لأن الموت من الحقائق، ونحن في موسم وأجواء كربلاء، والموت جزء من تراث كربلاء، الموت احتل مساحة واسعة في خطب الحسين وكلماته، في يوم كربلاء قال: ”خط الموت على ابن آدم مخط القلادة على جيد الفتاة“ ....
بما يتحقق الموت، بموت القلب، أم بموت الدماغ؟لدينا قلب، ولدينا دماغ، القلب مضخة دم لا أكثر، ولذلك يمكن استبدالها بمضخة صناعية، القلب يضخ الدم وإذا توقف عن النبض والضخ، يتوقف الدم عن الورود إلى الأعضاء، الدم يحمل معه نسبة من الأكسجين لجميع الأعضاء، إذا توقف ورود الدم على الأعضاء، نتيجة توقف ضخ الدم من قبل القلب، إذا تموت الأعضاء بالتدريج.
الدماغ يزن 1200 غرام وهو مكون من ثلاثة أجزاء: مخ، مخيخ وجذع المخ، المهم هو جذع المخ، فهو محور البدن كله، جذع المخ كشبكة الاتصالات في جميع خلايا البدن وهي التي توزع مسؤولياتها ووظائفها، يعني إذا مات جذع الدماغ، ماتت الوظائف الحيوية لهذا البدن، والدماغ إذا مات لا يعود، القلب يمكن أن يستبدل، لكن الدماغ لا يمكن استبداله.
عادة الإنسان يموت قلبه، يتوقف عن النبض، بعدها بخمس دقائق يموت الدماغ، تموت الكلية بعد 20 دقيقة أو أكثر، وهكذا تموت بقية الأعضاء، عادة هكذا الموت، ولكن أحيانا قد يموت الدماغ قبل القلب، يصيبه حادث، أو يصبح فيه نزيف، فيموت دماغه قبل قلبه، فالدماغ مات والقلب لا زال ينبض، في مثل هذه الحالة، لدينا إنسان على السرير في المستشفى، مات دماغه، والجهاز عليه - جهاز الإنعاش - ومات دماغه، وحكم الأطباء بأنه لن يعود إلى الحياة ولا بنسبة 1 إلى 1000، فبماذا نحكم عليه؟
جامعة هارفرد سنة 1980م قرروا أن الموت الطبي هو موت الدماغ، ولكن الفقهاء - فقهاء الإمامية - اختلفوا على قسمين، والقسم الأغلب منهم، سيدنا الخوئي، السيد الإمام، السيد السيستاني، شيخنا التبريزي، وأمثالهم من الفقهاء، قالوا: الموت موت القلب، مادام قلبه ينبض، إذا فهو لم يمت، وإن مات دماغه، لا يجوز التصرف فيه، يعني لو أن الطبيب رأى أن هذا الإنسان بقي على السرير خمسة أشهر مثلا، الدماغ مات، والجهاز عليه، وقلبه لم يمت، قد يقول الطبيب نحن نحتاج إلى هذا الجهاز، فيرفع الجهاز، وبمجرد أن يرفع الجهاز عن هذا الإنسان، فإن قلبه يتوقف عن الحركة.
قسم من فقهائنا يقول: قتله، فيجب أن يدفع الدية، لأنه قتله برفع الجهاز عنه، إلا إذا كانت هناك حالة تزاحم، مثلا شخص أحضروه الإسعاف، ومازال دماغه حيا، فهو أحوج إلى هذا الجهاز، ويمكن رفع الجهاز من هذا ووضعه على المريض الجديد، وإلا إذا لم يكن هناك حالة تزاحم، فلا يجوز رفع الجهاز، لأن هذا يعتبر قتل، مثلا لو كان هذا الميت في مستشفى أهلي، فبقاء الجهاز عليه يحتاج لأموال، ومن أين تؤخذ الأموال لمدة خمسة أشهر أو سنة، يقول الفقهاء: تؤخذ أجرة الجهاز من أمواله هو، وإذا ولم تكن له أموال، يؤخذ من مال الزكاة، سهم سبيل الله، يعني من بيت مال المسلمين.
وقسم آخر من فقهائنا يقول: الموت موت الدماغ، إذا قال الأطباء مات دماغه، ولن يعود للحياة ولو بنسبة 1 إلى 1000 إذن يعتبر مات، تترتب عليه آثار الموت، وإن كان قلبه مازال ينبض.
لماذا هذا الخلاف؟عندما نرجع إلى الفقه، والأبحاث الفقهية، الفقهاء يقولون موضوعات الأحكام الشرعية على ثلاثة أقسام:
1- الموضوعات الصرفةمثلا أنت تقرأ الأحكام الشرعية، إذا خرج الإنسان من بلده قاصدا قطع 22 كيلو، فإنه يصلي قصرا، هذا حكم موضوعه الخروج من بلده، الذي يحدد لنا حدود البلد هو العرف الخاص.
2- الموضوعات الشرعيةيعني موضوعات حددها أهل البيت أنفسهم، فنحن نرجع إليهم في تحديدها، مثلا: القبلة، نحن الآن في الشرق والقبلة في الغرب هل ينحرف الإنسان إلى اليمين أو إلى اليسار في توجهه للقبلة، هذه الموضوعات حددتها الروايات عن أهل البيت، إذا القبلة من الموضوعات الشرعية، التي حددتها النصوص، إذن يرجع إلى النصوص.
3- الموضوعات المستنبطةهي عناوين وردت في النصوص، في الآيات أو في الروايات، وهذه العناوين يرجع في تحديدها إلى العرف العربي، وليس عرف البلد، ليس العرف الخاص، بل العرف العام، مثلا عندما تقرأ قوله تعالى: ﴿فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا﴾ ماذا يعني بالصعيد؟ هذا عنوان ورد في النص، يرجع في تحديده للعرف العربي، العرب ماذا يفهمون من كلمة الصعيد.
بعض فقهائنا مثل السيد الخوئي قدس سره يقول: بما أنها لم تلقى على فئة خاصة فالمرجع في فهمها العرف العربي العام، لا فئة من المجتمع، ولا فئة خاصة، مثلا: عندما تفتح الرسالة العملية، تقرأ أنه إذا خرج المني من الإنسان، وجب عليه الغسل، والمرأة هل يخرج منها مني؟ الطب يقول المرأة لا مني لها، يعني أن السائل المنوي الذي يحمل حيوانات منوية، لا يخرج من المرأة، لا يخرج إلا من الرجل، ولكن هناك رواية معتبرة عن الإمام الصادق عليه السلام ”إذا أمنت المرأة أو الأمة فإن عليها الغسل جامعها الرجل أم لم يجامع، في يقظة أم في منام“ قد يشك البعض في هذه الرواية، وهذه الرواية تخالف المنطق العلمي، أن المرأة لا إمناء لها، فنقول أن المرجع العلمي ليس هو العرف الخاص، وهو عرف الأطباء، بل المرجع في العناوين هو العرف العربي العام.
العرف العربي العام يفهم كما أن الرجل تنزل منه مادة منوية، فالمرأة أيضا عندما تشتد بها الشهوة وتصاب برعشة معينة، تنزل رطوبة من رحمها، وتلك الرطوبة لا تحمل خصائص المادة المنوية للرجل، لكنها هي مني المرأة، العرف العربي يسميها مني، كما يسمي السائل من قبل الرجل مني، مع أن الخصائص الكيميائية لكل منهما مختلفة، لكن العرف العربي يسميها مني، إذا حصل للمرأة هذا وجب عليها الغسل.
إذا المرجع في تحديد العناوين الواردة في النصوص، آيات، روايات، العرف العربي العام، وليس التحديد العلمي من طب أو هندسة أو ما شابه ذلك، بهذا عرفنا أن من يقول بأن الموت هو موت الدماغ، يقول بأن العرف العربي هكذا يفهم، ومن يقول أن الموت موت القلب، يقول بأن العرف العربي هكذا يفهم.
ثانيا: الموت بالمنظور الفلسفي:الفلاسفة يقولون بأن الموت انفصال شعاع الروح عن الجسم، وهناك عدة أمور توضح هذا:
الأمر الأول:إذا أردنا أن نفهم الموت، فعلينا أولا أن نفهم الحياة، لأن الموت هو فقدان الحياة، الفلاسفة يقولون: إذا وضعت النطفة في رحم المرأة، واستقرت ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ﴾ النطفة تتحرك في اتجاهين، اتجاه مادي، واتجاه معنوي.
الاتجاه المادي: شرحه لنا القرآن ﴿ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا﴾.
الاتجاه المعنوي «التجريبي»: يعني أن النطفة تكتسب الحياة، والحياة لها ثلاث درجات:
أول درجة في الحياة: هي الحياة النباتية، حياة النمو.
الدرجة الثانية من مراحل الحياة: هي الحياة الحيوانية يعني حياة الإحساس والحركة.
الدرجة الثالثة من درجات الحياة: هي الحياة الإنسانية، يعني حياة العقل والإدراك.
إذا وصلت النطفة إلى درجة العقل والتفكير، أصبحت إنسانا، حقيقة الحياة أنها ليست شيئا ماديا، كثير من الناس يتوهم أن الحياة هي موجودة بالداخل، وعندما يأتي ملك الموت يأخذها ويطلقها كالعصفور، وتطير في الجو.
الحياة ليست شيئا ماديا، الحياة طاقة، يعني شعاع يحيط بالبدن، ليس هناك شيء في داخل البدن اسمه الروح، الروح هي الحياة، والحياة هي طاقة شعاعية تدبر هذا البدن، مثل جهاز التحكم، أنت تحرك به السيارة إلى اليمين أو الشمال، فالروح أيضا تحرك البدن، تجعله يتنفس ويأكل ويمشي ويشرب وهكذا، فالروح تحرك هذا البدن، تتعلق به تعلق التدبير والتصرف، فالروح والحياة هي طاقة إشعاعية تدبر البدن وتديره ﴿فَإِذَا سَوَّيْته وَنَفَخْت فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾ بمعنى أعطيته طاقة إشعاعية تديره وتدبره، فإذا جاء ملك الموت ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَك الْمَوْت الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ﴾ فعندما يأتي ملك الموت فإنه يقطع هذا الشعاع عن البدن، مثلما تقطع الطاقة الكهربائية عن الجسم، فالموت هو انفصال شعاع الروح عن البدن، فإذا انفصل الشعاع يترتب أثران:
الأثر الأول:الإحساس يموت، ماعدا السمع، فإنه يبقى، آخر حاسة تبقى للإنسان هي حاسة السمع، ولذلك أول حاسة يذكرها القرآن هي حاسة السمع ﴿وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ﴾ آخر حاسة يفقدها الإنسان هي حاسة السمع، ولذلك في الروايات ”إذا مات الميت يسمع بكاء أهله، ويسمع حديثهم“.
الأثر الثاني:أن الروح إذا فارقت الجسد المادي، تتلبس بجسد مثالي يعني ليس جسدا ماديا، لا يشغل حيزا من الفراغ، ليس له طول وعرض وعمق، جسد يشبه البدن في صورته، ولكنه ليس ماديا، ولذلك إذا انطلقت الروح ﴿كَلاَّ إِذَا بَلَغَتْ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ﴾ يرتقي الشعاع إلى أن يصل إلى العالم الآخر، الروايات تقول أن الأرواح موجودة، ”دعوها فإنها أقبلت من هول عظيم“ يعني أن الانفصال عن الجسد ليس بالشيء السهل، القرآن يعبر عنها بالسكرات، ﴿وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ﴾ [ق : 19]
أنا الآن في هذا المكان على المنبر، لا أدري ماذا يوجد بالجنوب، لأن المكان يحدني، إذن الزمان حد والمكان حد، فأنا لا أدرك ما وراء الحد، أما إذا مات الإنسان، تحرر من الجسد، فتحرر من الزمان والمكان، وتحرر من الحدود، فإذا تحرر من الزمان والمكان صار إدراكه إدراك إطلاقي، يعني يدرك ما وراء الزمان والمكان، من دون فرق سواء كان مسلم أو كافر، الجميع يصبح لديه حياة إدراكية إطلاقية، لا تعرف حدود الزمان والمكان ﴿فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ﴾ الزمن غطاء، المكان غطاء، هذه كلها أغطية ورفعت عن الإنسان، فيستطيع أن يرى الملائكة والجن والأشباح، الأرواح، العقول الكلية، يرى عوالم غريبة، ما كان يراها وهو في الحياة، ولهذا الشخص العادي يفاجأ بما يرى، أما الشخص الذي انكشفت له العوالم في الدنيا، هناك قسم من الناس اكتشفوا هذه العوالم قبل أن يموتوا، اكتشف عالم الأرواح والأشباح والملائكة والجن، فإذا ماتوا لا يغير الموت من حياتهم شيء، لأنهم اكتشفوها قبل موتهم، يقول الإمام علي : ”لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقينا“ الغطاء يعني الموت.
الحياة البرزخية، حياة إطلاقية، ونفس هذه الحياة الإطلاقية، تنقسم إلى قسمين: حياة انفصالية، وحياة اتصالية.
الحياة الانفصالية: مثل حياة الأشخاص العاديين، إذا ماتوا موتة عادية، يصبح لديهم إدراك للزمان والمكان، لكنهم ينفصلون عن الأرض، الجسم يبقى في الأرض، وإن كانوا يدركون ما وراء الزمان والمكان، أرواحهم تنفصل عن الأرض.
الحياة الاتصالية: بعض الأشخاص حتى إذا ماتوا، يتحركون على الأرض، ويتجولون عليها، لا ينفصلون عن الأرض، يبقون عليها متحركين، حتى بعد موتهم، وهم الشهداء ﴿وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ﴾ الشهداء موجودون بيننا ولكن لا نشعر بهم، يشهدون أعمالنا، يوما بيوم، لحظة بلحظة، ولذلك سموا بالشهداء، يشهدون أعمال من هم على الأرض، ويعيشون حياة إطلاقية، وحياة اتصالية، أكرم حياة تعطى لهم ﴿وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ﴾ لذلك قال الحسين : ”إني لا أرى الموت إلا سعادة، والحياة مع الظالمين إلا برما“ ”صبرا بني عمومتي، ما الموت إلا قنطرة“ مجرد جسر قصير تنطلقون منه إلى حياة ثانية.
القرآن الكريم يقسم الأجل، إلى أجل حتمي، وغير حتمي:﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَىٰ أَجَلًا وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ﴾ هناك أجل غير مسمى، مفتوح، وهناك أجل مسمى، ليس معينا، أجل معين وغير معين:
الأجل الغير مسمى: هو الأجل غير الحتمي، فلان يموت بحادث سيارة، إن خرج اليوم الفلاني بالساعة الفلانية، فلان يموت بالمرض الكذائي، إن شرب الماء الفلاني أو أكل الأكل الفلاني، فلان يموت، يسقط من أعلى شاهق إلى الأرض إن صعد إلى تلك الدار، كل هذا أجل غير حتمي، يعني أنه معلق على أمور اختيارية، احترازية.
الأجل غير المسمى: هو الأجل الذي يعلم الله أن الإنسان سيختاره، يعلم الله أن هذا الإنسان سوف يختار هذا النوع من الأجل، هو بنفسه ذهب إلى العراق مثلا باختياره وبإرادته وضحى بنفسه، إذن هو اختار أجله.
قد يسأل البعض، كيف هو يختار أجله والله تعالى يقول: ﴿فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ﴾ الأجل ليس بيد الإنسان، هو مكتوب، أم كيف يقول الله تعالى في كتابه: ﴿أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ﴾.
أولا: قد يكون الأجل أحيانا غير حتمي، وليس دائما، يعني أنه قد يكون حتميا، وقد لا يكون، يعني أنه يكون منصبا على اختيار الإنسان.
ثانيا: هناك فرق بين اختيار السبب، وبين اختيار النتيجة، الموت هو النتيجة، فأنت لا تختار النتيجة، فهي بيد الله، لأن الإنسان قد يسقط من ألف متر ولا يحصل له شيء، إذن النتيجة وهي الموت ليست بإرادة الإنسان واختياره، بل هي بيد الله، إنما نحن نتحدث عن السبب، هل تموت بالحادث، أم بالرصاص، أو بالمرض، هذا سبب، فتحديد السبب بيد الإنسان وبإرادته، فهناك فرق بين النتيجة والسبب، النتيجة ﴿أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ﴾ لكن السبب وهو كيفية الموت، بيد الإنسان وبإرادته، في بعض الأحيان هو يحدد سبب موته من حيث لا يشعر ولا يدري.
ثالثا: الموت بالمنظور السلوكي، العملي:كلنا نكره الموت، فماذا أعددنا للموت، كلنا نريد أن نتغاضى عن الموت، لماذا نتذكر الموت وهو بغيض إلى هذه الدرجة؟
لابد لنا أن نتذكر الموت، فذكر الموت هو الحاجز الوحيد عن ارتكاب المعصية، الموت هو الرادع الداخلي عن ارتكاب المعصية، إذا تغافلت عن الموت، ارتكبت المعصية، الكذب، الغيبة، عقوق الوالدين، العلاقات الغير مشروعة، ولكن ذكر الموت يقف حاجزا ورادعا عن ذلك، ولذلك ورد عن الرسول محمد صلى الله عليه وآله : ”أكثروا من ذكر هادم اللذات“ اجعل الموت نصب عينك دائما، اجعل الموت ماثلا أمام عينك دائما، وإذا رأيت جنازة محمولة = فاعلم بأنك بعدها محمول
لابد أن أجعل الموت ماثلا أمامي، وشاخصا أمام عيني، لأنه الرادع الذي يردعني عن المعصية، ورد عن أمير المؤمنين : ”كفى بالموت واعظا، وكفى بالأجل حارسا“ الموت هو الواعظ، أنا عندما أتعرض لإغراءات من امرأة أجنبية، من خلال المحادثات، أو السوق، أو من خلال الأماكن الأخرى، أو المرأة عندما تتعرض لخداع الرجل الأجنبي، أقدم على المعصية، على الرذيلة، فما الذي يمنعني غير ذكر الموت، لو كان الموت ماثلا أمامي لما تجرأت وارتكبت المعصية، أنا أحب وأشتهي وأرغب أن أشاهد الفلم الخليع الإباحي من خلال شاشة التلفاز، أو من خلال المواقع الإباحية في الإنترنت، هذه المواقع الخلاعية، أتعلم منها العلاقات الغير مشروعة، فما الذي يحجزني عن هذه الرذيلة وعن هذه المعصية إلا الموت، لذلك علينا أن نربي أنفسنا على ذكر الموت، علينا أن نستحضر الموت أمامنا دائما، علينا أن نجعل الموت يعيش معنا في سلوكنا وفي نبضات قلوبنا، حتى يكون لنا رادعا وحاجزا عن مزاولة الرذائل والمعاصي.
هناك طريقان لأن نربي أنفسنا على ذكر الموت:الطريق الأول:
قراءة سيرة أهل البيت عليهم السلام إن سيرتهم مشبعة بذكر الموت، واستحضار الموت، ابن شهاب الزهري رأى زين العابدين في ليلة من الليالي وهو يحمل جراب على ظهره، قال: إلى أين سيدي بهذا الجراب؟ قال: إلى سفر أعددت له زادا، وفي اليوم الثاني رأى الإمام في المدينة، قال: سيدي تقول إنك في سفر، ولم تسافر؟ قال: ليس السفر ما ظننت، إنه سفر الموت.
كلنا مسافرون، أنا مسافر ولست مقيم، لابد أن يتذكر الإنسان أنه مسافر، أنا مسافر،
وما المال والأهلون إلا وديعة ولابد يوما أن ترد الودائع
****
ألا إنما الإنسان ضيف لأهله يقيم قليلا عندهم ثم يرحل
ليس السفر ما ظننت، إنه سفر الآخرة، وما زاد سفر الآخرة؟ قال: زاده الورع عن محارم الله، وبذل الندى في الخير.
إذن نحن مسافرون إلى حفرة منتنة، مظلمة، موحشة، الرسول يقول: "إذا وضع الميت في قبره
أشد ساعة هي هذه الساعة، بمجرد أن يسجى الإنسان على التراب، ويشعر بوخز التراب، تراب نتن، يرى بينه عظام الموتى، والديدان التي تأكل من جسده، وتنهش لحمه، وهو لا يستطيع دفعها، ولا يستطيع منعها، حفرة مظلمة، موحشة، هذه أشد ساعة على الإنسان، يتمثل له ثلاثة: أولاده، يقول: أولادي ربيتكم تعبت عليكم أنتم تحبونني أما يعز عليكم أن تتركوني في هذه الحفرة الموحشة! يجيبه أولاده: ماذا نصنع، نشيعك إلى قبرك، ونواريك في حفرتك، وتتمثل إليه أمواله، يقول: أموالي أنا موظف راقي، ولدي ادخار كبير، ولدي عقار وأراضي، أين هي أموالي، ماذا تنفعني؟ تجيبه أمواله: ليس لك عندنا سوى سترة بيضاء، تواري بها عورتك، والبقية لغيرك، ويتمثل له عمله، هذا العمل أثقل شيء على قلبه، العمل هذا كله ذنوب ومعاصي، صفحات سوداء مظلمة، ماذا أصنع بهذا العمل! يجيبه عمله: أنا قرينك في قبرك، وصاحبك عند نشرك، أنا الذي لا أفارقك ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾.
الطريق الثاني:أدعية أهل البيت عليهم السلام قراءتها صباحا، مساء، تربطنا بالآخرة، وتذكرنا بالموت، تعلمنا كيف نمتنع عن الرذيلة، تغذي أرواحنا برصيد روحي عظيم، لنقرأها، لنتأملها، زين العابدين يمد لنا لمساته الشفافة «وما لي لا أبكي، ولا أدري إلى ما يكون مصيري، وأرى نفسي تخادعني، وأيامي تخاتلني، وقد خفقت عند رأسي أجنحة الموت، فمالي لا أبكي، أبكي لخروج نفسي، أبكي لظلمة قبري، أبكي لضيق لحدي، أبكي لظلمة قبري، أبكي لسؤال منكر ونكير إياي، أبكي لخروجي من قبري عريانا ذليلا، حاملا ثقلي على ظهري، أنظر مرة عن يميني، ومرة عن شمالي، إذ الخلائق في شأن غير شأني» «وارحمني صريعا على الفراش، تقلبني أيدي أحبتي، وتحنن علي محمولا قد تناول الأقرباء أطراف جنازتي، وتفضل علي ممدودا على المغتسل، يغسلني صالح جيرتي».