الجواب من سماحة الشيخ محمد صنقور:
لو لم يستجب الإمام الحسين (ع) لدعوات أهل الكوفة لأدانه التاريخ ولقال إنَّ الحسين -والعياذ بالله- قد فرَّط في المسئوليّة الإلهيَّة المُناطة به، وذلك لأنَّ الظروف قد تهيَّأت له بعد أنْ راسله الآلاف مِن أهل الكوفة وجمع كبير مِن الوجهاء ورؤساء العشائر(1)، وأكّدوا له أنّهم على استعدادٍ تامٍّ لمناصرته وأنَّ الكوفة متهيِّئةٌ لاحتضان ثورته، وأنَّه ليس مِن العسير عليهم طردُ الوالي الأموي مِنها، وحينئذٍ وعندما تسقط الكوفة فإنَّ ذلك يُنتج سقوط القرى والمدن المجاورة لها نظرًا لارتباطها سياسيًّا وأمنيًّا بأمارة الكوفة بل وحتّى بلاد فارس والأهواز وبعض المدن الإيرانيَّة وقراها كانت تابعة سياسيًّا لإمارة الكوفة بل إنَّ سقوط الكوفة بِيَد الثوّار يُنتج سهولة الهيمنة على مدينة البصرة والمدن المجاورة لها، وذلك لأنَّ الثقل العسكري والسياسي في العراق آنذاك كان في مدينة الكوفة، وكلُّ مَن له معرفة بالتاريخ يُدرك هذه النتيجة.
ومِن هنا يكون إهمال الإمام الحسين (ع) لدعوات أهل الكوفة يعدُّ تفريطاً وتفويتاً لفرصةٍ استثنائيّة خصوصًا وأنَّ الحسين(ع) يُدرك أنَّ الأمّة ما كانت لتستجيب ليزيد لولا قوَّتُه وسطوته، فإذا ما استطاع أنْ يُوهن هذه القوّة فإنَّ الحواضر الإسلاميّة سوف تتداعى واحدة تلوَ الأخرى، إذ ليس ثمّة حاضرة مِن الحواضر الإسلاميّة تكنُّ الولاء الحقيقي ليزيد وللنظام الأموي إذا ما استثنَيْنا بلاد الشام، هذا بالإضافة إلى عنصرٍ آخر يُؤكّد المسئوليَّة التاريخيَّة على الحسين (ع) وهو احترام وتقدير الأمّة له نظراً لقرابته مِن رسول الله (ص) ونظرًا لإيمانها بنزاهته وكفاءته وليس مِن عائق يحول دون مؤازرته سوى بطش السلطة الأمويّة الذي أصاب الأمّة بالإحباط واليأس، فلو أنَّ الحسين (ع) استطاع إدخال الوهن على النظام الأموي فإنَّ الأمّة ستهبُّ لا محالة لمؤازرته.
مِن هنا كان سقوط الكوفة مع ملاحظة الاعتبارات الأخرى مساوقاً لضعف النظام الأموي وعجزه عن بسط هيمنته على الحواضر الإسلاميّة. ذلك لأنَّ مركز القوّة للنظام الأموي متمثِّلًا في بلادَيِ الشام والكوفة، لهذا تمكّن الثوّار في المدينة المنوّرة وكذلك مكّة الشريفة مِن طرد بني أميّة بكلّ سهولة أيّام يزيد بن معاوية، ولولا أنْ بعث إليهم يزيدُ بن معاوية جيشَ الشام بعد أنْ رفض ابن زياد واليه على الكوفة الذهاب إليهم لما تمكّن مِن استرجاع هاتَيْن المدينتَيْن مِن يد الثوّار.
وهو ما يُعبِّر عن أنَّ الكوفة والشام هما مركز القوّة للنظام الأموي، وأنَّ سرَّ هيمنته وانبساط سلطته هو ما يُدركه الناس مِن أنَّ عاقبة التمرُّد هو أنْ يُسلّط عليهم النظامُ الأموي جيشَ الشام أو الكوفة.
ومِن هنا نُؤكّد أنَّ سقوط الكوفة بِيَد الثوّار معناه أنَّ النظام الأموي يٌصبح أمام قوّةٍ مكافئة لقوّته، وهو ما كنّا نقصده مِن دخول الوهن على النظام الأموي المستوجب لتداعي الحواضر الإسلاميّة بعد أنْ لم يكن خضوعها له ناشئاً عن ولائها وإيمانها بجدارته واستحقاقه، وإنّما كان ناشئاً عن خوفها مِن بطشه وشدَّة بأسه.
وبما ذكرناه اتَّضح المنشأُ لاستجابة الحسين (ع) لدعوات أهل الكوفة فقد تواترت عليه كتبُهم حتّى تجاوزت الاثني عشر ألف كتاب، كلُّ كتاب مختوم مِن اثنين أو ثلاثة أو أكثر(2)، وكتب إليه رؤساءُ العشائر والوجهاء وأوفدوا إليه الرسل، ورغم كلِّ ذلك بعث إليهم مسلم بن عقيل ليقف على واقع حالهم، فجاءه كتابُ مسلم بن عقيل أنْ أقدِم فإنَّ الكوفة مهيّأة(3) لاحتضان نهضتك، فما كان يسعُه التخلُّف ولم يكن يسعه الاعتذار عن المصير إليهم بدعوى أنَّ لهم سوابقَ تُوجبُ عدم الوثوق بجدّيّة دعواتهم بعد أن بايعوا مسلم بن عقيل وعبَّروا له عن استعدادهم وصدق نواياهم.
وأمَّا عدم رجوع الحسين (ع) بعد علمه بمقتل مسلم بن عقيل فلأنَّ الخيار الذي اتَّخذه الإمامُ الحسين (ع) هو الاستشهاد وذلك حينما ينكشف للأمّة وللتاريخ أنَّ المسلمين لم يكونوا حينذاك مؤهّلين للجهاد ولمقارعة النظام الأموي، فقد عقد العزم على أنْ يقدِّم نفسه قرباناً لله مِن أجل أنْ تستفيق الأمّةُ مِن سُباتها، وتُدرك أنَّ النظام الأموي مريدٌ لتقويض بُنَى الإسلام، وأنّه لا يرعى حرمةً لرسول لله (ص) وأنّه على استعدادٍ لفعل كلِّ عظيم مِن أجل أن يبقى سلطانه وتبقى هيمنتُه، وأنّه لا يهمُّه كثيراً أنْ يُعصى الله في الأرض بل يمارس هو دور التضليل والإفساد.
وإذا ما أدركت الأمّةُ كلَّ ذلك واستفاقت على وقع فاجعةٍ هي بحجم قتل الحسين (ع)، وقتل ذرِّيّته وسبي بنات رسول الله (ص) فإنَّ مِن المفترض أنْ تنبعث فيها روحٌ جديدة قادرة ولو بعد حين على أنْ تُجهز على هذا النظام الفاسد.
أراد الحسين (ع) بنهضته وتضحيته أنْ يكسر حاجز الخوف وأنْ يُبدِّد حالة اليأس والخنوع الذي أصاب الأمَّة نتيجة البطش والتعسُّف اللذَين مارستهما السلطة الأمويّة معها، وأراد أنْ يُؤسِّس لفهم إسلامي أصيل هو شرعيَّة المواجهة للسلطان الجائر، وشرعيَّة السعي لتقويض سلطانه، ذلك لأنَّ النظام الأموي عمِل وفي غضون عقدَيْن مِن الزمن على ترويج دعوى هي حرمة الخروج على النظام الحاكم حتّى ولو كان فاسدًا جائرًا(4)، وسخّر لذلك المأجورين ممَّن يُنسبون لصحابة رسول الله وغيرهم ليضعوا مِن عند أنفسهم رواياتٍ تؤكِّد على عدم شرعيَّة الخروج والثورة على السلطان(5) وإنْ كان فاسقًا مستحلًّا لحرمات الله، وأنَّ وظيفة المسلم هي النصيحة والدعاء له بالهداية(6)، فإن ثابَ إلى رشده وإلاّ فعلى كلِّ مكلّفٍ الصبر، وإنْ جلَدَ السلطانُ ظهره وأخذ مالَه(7).
وهذه الثقافة الخطيرة التي سادتْ وتجذّرت بفعل السياسة الأمويَّة لم يكن مِن الممكن تصحيحها لو لم يتصدَّ لذلك رجلٌ هو بحجم الحسين (ع) ولم يكن التصدّي بمستوى التضحية، فالحسين(ع) قدّم نفسه قرباناً لله مِن أجل أنْ يُعيد الأمّة إلى المسار الصحيح، يقول (ع): "أيُّها الناس إنَّ رسول الله (ص) يقول: مَنْ رأى منكم سلطانًا جائرًا مستحلًّا لِحُرَمِ الله ناكثًا عهده مخالفًا لسنَّة رسول الله (ص)، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان فلم يُغيِّر عليه بفعلٍ ولا قول كان حقًّا على الله أنْ يُدخله مدخله، ألا وإنَّ هؤلاء قد لزِموا الشيطان وتركوا طاعة الرحمن وأظهروا الفساد وعطَّلوا الحدود واستأثروا بالفيء وأحلُّوا حرام الله وحرَّموا حلاله وأنا أحقُّ مَنْ غيَّر .."(8).
وأمّا نصيحةُ بعض أصحابه له بعدم الخروج على يزيد أو بعدم التوجُّه إلى الكوفة فلأنَّ حساباتهم كانت سياسيَّة، ولأنّهم أنفسهم ممَّن شملهم الداء وأصابهم الوهنُ واستبدَّ بهم اليأس والإحباط، لذلك فهم لا يفهمون لغة الحسين (ع) ولا يُدركون أبعاد خروجه ونهضته.
فهذا ابن عبّاس الذي لا نشكّ في إخلاصه للإمام الحسين (ع) يتمنَّى لو كان يتمكّن مِن حبس الحسين (ع) والحيلولة دون خروجه(9)، ذلك لأنّه لم يكن قادرًا على استيعاب معنى التضحية والاستشهاد، إذ هي لغةٌ لا يفهمها إلاّ أهل البصائر ولا يقف على أبعادها إلاّ مَن تجرَّدت روحه عن كلِّ علائق الدنيا، فكم هو غريبٌ قول الحسين (ع): "إنّي لا أرى الموت إلاّ سعادة والحياة مع الظالمين إلاّ برما"(10) فهو يأنسُ بالموت والآخرون تُؤنسهم الحياة.
وقد تمكّن الإمام الحسين (ع) مِن تحقيق غايته ولم يتمكّن النظام الأموي مِن إرغام الحسين(ع) على خياره رغم ما بذله مِن وسع، وما اعتمده مِن وسائل لا تصمد أمامها أقوى الإرادات، وهذا هو معنى انتصار الدمِ على السيف.
وهكذا تبخَّر النظامُ الأموي وتلاشت أطروحتُه الرامية لتقويض بُنَى الإسلام وخَلُد الحسين وخلُدت مبادؤه.
الهوامش: 1- الإرشاد -الشيخ المفيد- ج2 / ص36، إعلام الورى -الطبرسي- ج1 / ص436، مثير الأحزان -ابن نما الحلي- ص16، شرح نهج البلاغة -ابن أبي الحديد- ج11 / ص43، كتاب الفتوح -أحمد بن أعثم الكوفي- ج5 / ص27، البداية والنهاية -ابن كثير- ج8 / ص163. 2- الإرشاد -الشيخ المفيد- ج2 / ص38، روضة الواعظين -الفتال النيسابوري- ص172، اللهوف في قتلى الطفوف -السيد ابن طاووس- ص24، تاريخ الطبر ج4 / ص294، أنساب الأشراف -البلاذري- ج3 / ص158 وغيرها. 3- أنساب الأشراف -البلاذري- ج3 / ص167، تاريخ الطبري -الطبري- ج4 / ص297، مقتل الحسين (ع) -أبو مخنف الأزدي- ص72، تجارب الأمم -ابن مسكويه الرازي- ج2 ص60، البداية والنهاية -ابن كثير- ج8 / ص181. 4- صحيح البخاري -البخاري- ج8 / ص87، صحيح مسلم -مسلم النيسابوري- ج6 / ص22، عمدة القاري -العيني- ج24 / ص178، رياض الصالحين -يحيى بن شرف النووي- ص339، نيل الأوطار -الشوكاني- ج7 / ص356. 5- نفس المصدر. 6- نفس المصدر. 7- نفس المصدر. 8- تاريخ الطبري -الطبري- ج4 / ص304، الكامل في التاريخ -ابن الأثير- ج4 ص48، مقتل الحسين (ع) -أبو مخنف الأزدي- ص85، الفتوح -ابن أعثم- ج5 / ص81. 9- البداية والنهاية -ابن كثير- ج8 / ص172، الدر النظيم -إبن حاتم العاملي- ص546، مجمع الزوائد -الهيثمي- ج9 / ص192، أمالي المحاملي -الحسين بن إسماعيل المحاملي- ص226، المعجم الكبير -الطبراني- ج3 / ص119، تاريخ مدينة دمشق -ابن عساكر- ج14 / ص200، ترجمة الإمام الحسين (ع) -من طبقات ابن سعد- ص61. 10- تحف العقول -ابن شعبة الحراني- ص245، شرح الأخبار -القاضي النعمان المغربي- ج3 / ص150، مناقب آل أبي طالب -ابن شهر آشوب- ج3 / ص224، ذوب النضار -ابن نما الحلي- ص8، ذخائر العقبى -احمد بن عبد الله الطبري- ص150، المعجم الكبير -الطبراني- ج3 / ص115، تاريخ مدينة دمشق -ابن عساكر- ج14 / ص218، تاريخ الطبري -الطبري- ج4 / ص305.