كثرت الدعوات في الآونة الأخيرة للإصلاح السياسي ووجوب تطبيقه فوراً لأنه السبيل الوحيد لتلافي ما سيؤول له الأمر لو بقي الحال على ما هو عليه، وبالرغم من أن الإصلاح ضرورة ملحة إلا أنه ما زال مثار جدل للكثيرين سواء كانوا قادة او نخب او ناس عاديين، الأمر الذي يعطل فرص تحقيقه في العديد من الدول.
ولعل من اهم الأبحاث إثارة وأكثرها مداراً للنقاش موضوعة كيفية الاصلاح، فهل يبدأ الإصلاح السياسي من رأس الهرم، والأفضل لنا ان نوجه طاقتنا وقوتنا إلى اسقاط رأس السلطة الاستبدادي الذي يقف حائل دون أي مشروع إصلاحي، ام ان توجيه المعركة إليه نوع من العبثية والخوض في مغامرات فاشلة، والأجدى أن تتوجه الحركة الإسلامية نحو القاعدة الشعبية، وبعبارة أخرى: هل يجب ان نبدأ به من القمة او من القاعدة؟
يقول الدكتور جاسم سلطان صاحب كتاب (ازمة التنظيمات الإسلامية): لا توجد وصفة واحدة للتعامل مع هذا النمط لكن كلما اعتمدت حركة التحول على تطوير المجتمع نفسه، كلما كان المجتمع يلتقط الأفكار الحية سواء كانوا حكاماً او محكومين.
فرغم اعتقاد اغلب الناس بأن الثورات هي التي تحدث التغيير المطلوب، لكن التاريخ يكذب ذلك، ففي بريطانيا مثلاً وبعد قيام العديد من الثورات فيها والتي كان من اهمها وأشهرها ثورة (تروم ول) التي انتهت بإلغاء الحكم الملكي الاستبدادي وإقامة النظام الجمهوري نرى البريطانيين تراجعوا وطالبوا بالحكم الملكي مرة أخرى لكن بشروط جديدة، وما ذلك الا بسبب فشل الجمهوريين بإدارة الدولة.
كما ونجد في العديد من تجارب الدول صور من الاصلاح السياسي جاءت على يد الحكام المستبدين، كما حصل في اليابان مثلاً، فرغم ان نظام الحكم كان أسرياً استبدادياً ، إلا ان هذه الاسر كانت متنورة فأنشأت في القرنين الخامس والسادس عشر التعليم والقيم اليابانية العميقة وصنعت طبقة مؤمنة بهذه القيم، مع أنها كانت حكومات أسرية ويطلق عليه نظام "الشوكن" وما زال اليوم موجود في اليابان بعد ما اعيد التعديل القانوني، او كالذي حصل في اسبانيا التي جاءتها الديمقراطية عبر ملك اسبانيا الحالي والاسرة المالكة الآن، من بعد ديكتاتورية عسكرية عنيفة جداً، بل حتى في بريطانيا نفسها فقد حكى لنا التاريخ محاولات بعض ملوكها في القرن الحادي عشر تقييد سلطته وسلطة القصر بقوانين.
إذن ففكرة ان التنوير يأتي فقط من الشعوب وليس هناك حكام متنورين ليست دائمية وانما هي في تبادلية؛ فإذا انتشر الوعي في المجتمع بدرجة معينة فهؤلاء الذين في السلطة والحكم ليسوا مغفلين ففيهم العقلاء والمخلصين مع كل الآفات التي تعتري البشر سواء كانوا في القاع او القمة.
هل الحل يكمن في الثورات؟
قد يتصور البعض هذا، لكنه ايضاً ليس دائمياً؛ فقد يكون ثمن الثورة أكثر بكثير من قيمة ما تستهدفه من إصلاح النظام، وقد يؤول الأمر الى استبداد أشد، وهذا ما نلاحظه جلياً في فكر العديد من الجماعات الساعية للحكم والسلطة، فرغم مناداتها بالتعددية وما تقوم به من دور الارشاد والتنوير وتحارب الاستبداد داخل المجتمعات، إلا انها ذاتها تكون أشد استبداداً ورفضاً للآخر حين تملك السلطة، والأمثلة على ذلك كثيرة، نكتفي بالإشارة الى ما قامت به جمعية الاتحاد والترقي العثمانية في بدايات القرن العشرين، والتي انظم لها العديد من الشباب المسلم ومن كافة المذاهب الدينية والتيارات الاجتماعية لكنها سرعان ما أظهرت وجهاً قومياً يسارياً يخالف سائر الجمعيات والافراد التي انظمت لها.
نحن لسنا ضد الثورات، لكن التفكر في المآلات مهم في هذه الأمور، ولسنا نبرء الحكام، ولكن نحتاج إلى تبصر شديد جداً في إدارة معركة التطور داخل المجتمعات، وكلما امكن ان تتم ولو بصبر وتكلفة أكثر كان أفضل للمجتمع. ولعل هذا الامر لا تدركه أحيانا القوى الاجتماعية نفسها فتكون عدوة لنفسها اكثر من الحكومات وعداوتها لها.
وخلاصة ما نقوله: إننا نحتاج إلى تيار رشيد داخل المجتمع حتى اذا أراد ان يفعل شيئاً يتفكر فيه بطريقة حكيمة لكي لا تسحبه الظروف لفضاءات لا يستطيع العودة منها.
من هنا لابد من التأكيد على ان التغيير الاجتماعي الناضج والواعي لابد له من قيادة توازن بين الثمرات المرجوة من هذه الحركة الاجتماعية والثمن المدفوع بإزائها، فكم شدد الشرع على الاحتياط في دماء المسلمين، وحرمة أهراقها الا في موارد محددة ترك تقديرها بيد القيادة الشرعية، لذا نقرأ في النصوص الإسلامية تحذيرات شديدة اللهجة بشأن الإقدام على سفك الدماء والاستهانة بالأرواح والإعانة على الجريمة ولو بشطر كلمة، فعن النبي (ص): "لَزوالُ الدنيا أهون على الله من دم يُسفك بغير حق. كتاب الزهد لابن ابي عاصم: ص138.
وعن الإمام الباقر (ع) عنه (ص): "قال أول ما يحكم الله فيه يوم القيامة الدماء فيوقف ابنَي آدم، فيقضي بينهما ثم الذين يلونهما من أصحاب الدماء حتى لا يبقى منهم أحد ثم الناس بعد ذلك حتى يأتي المقتول بقاتله فيشخب دمه في وجهه فيقول: هذا قتلني فيقول أنتَ قتلته فلا يستطيع أن يكتم الله حديثاً. الوافي: ج15، ص564.
وعن الباقر (ع) أيضاً قال: "إنّ الرجل ليأتي يوم القيامة ومعه قدر محجمة من دم فيقول: والله ما قتلت ولا شركت في دم فيقال له: بل ذكرت عبدي فلاناً فترقى ذلك حتى قتل فأصابك من دمه". الوافي: ج16، ص567.
وانطلاقاً من هذه النصوص وغيرها أسّس الفقهاء قاعدة خاصة في باب النفوس والدماء هي قاعدة الاحتياط، خلافاً للقاعدة العامة المحكمة في أكثر الأبواب الفقهية، عنيت بها قاعدة البراءة والإباحة، ومفاد الاحتياط هنا: أنَّ أدنى شبهة كفيلة بحقن دم الإنسان ولو كان قاتلاً أو متّهماً بالقتل.
إنّ ذلك كلَّه لا بدّ أن يؤسِّس لذهنيّة إسلاميّة تتورّع عن سفك الدماء وتتجنّب الخوض في كلِّ ما يعين على سفكها بغير حقّ.
الأقلية المبدعة..
لارنولد توينبي نظرية مفادها: ان كل جماعة سياسية تصل الى مرحلة الاختناق السياسي فهذا يعني فقدانها للإبداع، مما يجعلها تحاول فرض ارادتها بالقوة لا بالإقناع، الأمر الذي يؤول بعد ذلك لظهور جماعات صغيرة تطرح طرحاً مغايراً وتبدو كأقليات مبدعة، فأما ان تقبل النخب التي في رأس الهرم بالفكرة وتجنب المجتمع كل الكوارث، مثل ما فعلت الملكية في بريطانيا واليابان مع النخب، او لا فحينئذ يدور صراع بين هذه الأقلية والسلطة الحاكمة، فحينئذ إما ان ينظم المجتمع للأقلية فيحصل التغيير الناجز، او يبقى في نفس الفضاءات التي حكمته بها السلطة.
وقد تصل هذه الأقلية المبدعة الى الحكم سواء عن طريق قبول السلطة بذلك او مساندة الشعب لها، لكنها تفقد ابداعها مما يجعل الدائرة تدور وهكذا يحصل التغير الاجتماعي، فالإصلاح السياسي مزيج من الثورات والحكام المتنورين.
فالذي يصنع التغيير الاجتماعي ومنه الاصلاح الساسي هو الوعي والتنوير، وهو قد يتأتى من الطبقة الحاكمة احياناً وقد يأتي من الجمهور.