وفي رواية ابن نما الحلي أنَّه سجد لله قائلًا: شكرًا لله، وقال: الحمد لله الذي أدرك لي ثأري من عدوِّي وجزا اللهُ المختار خيراً، فكيف يُمكن الجمع بين حرمة المُثلة بالميِّت وبين موقف الإمام السجاد (ع)؟!
بعث المختار لرأس ابن زياد ثابتٌ في الجملة:الظاهر أنَّ بعث المختار الثقفي لرأس عبيد الله بن زياد إلى بني هاشم ومنهم الإمام السجَّاد (ع) ومحمد ابن الحنفية ثابتٌ في الجملة، وذلك لتظافُر الروايات والنصوص التاريخية على نقل ذلك ولكنَّها مختلفة اختلافًا شديداً في بيان التفاصيل، ولذلك لا يصحُّ التعويل على آحاد هذه الروايات وهذه النصوص وإنَّما يُعوَّل من مجموعها على القدر المشترك بينها وهو أنَّ المختار بعث برأس عبيد الله بن زياد إلى بني هاشم، وأمَّا ما هي ردَّةُ فعل الإمام السجَّاد (ع) وكيف تعاطى مع هذا الحدث فليس لنا ما يُمكن التثبُّت من صحَّته، لأنَّ جميع هذه الروايات ضعيفة من حيث السند، ولم يصح منها سوى روايةٍ واحدة، وهي معتبرة جارود بن المنذر، عن أبي عبد الله (ع) قال: "ما امتشطتْ فينا هاشميَّة ولا اختضبتْ، حتى بعثَ إلينا المختارُ برؤوس الذين قَتلوا الحسين (ع)"(1).
وأقصى ما تدلُّ عليه هذه المعتبرة هو أنَّ اهل البيت (ع) استبشروا بمقتل عُبيد الله بن زياد ومَن كان معه من قتلَةِ الحسين (ع) ولا تدلُّ على إقرار الائمة (ع) بصحَّة الكيفيَّة التي قُتل بها هؤلاء، ولا بجواز التمثيل بجثثِهم، ولا بجواز حمل رؤوسهم إلى المدينة أو مكَّة –على اختلاف النصوص– ولا بنصبها فيهما أو في إحداهما، كلُّ ذلك لا يقتضيه مدلول رواية جارود بن المنذر.
التعليق على رواية المدائني:وأمَّا الرواية المذكورة في السؤال فهي منقولة في أمالي الشيخ الطوسي (رحمه الله) ونصُّها: أخبرنا محمد بن محمد، قال: أخبرني أبو عبيد الله محمد بن عمران المرزباني، قال: حدَّثني محمد بن إبراهيم، قال: حدَّثنا الحارث بن أبي أسامة، قال: حدثنا المدائني، عن رجاله: أنَّ المختار بن أبي عبيد الثقفي ".. فبعث برأس ابن زياد إلى عليِّ بن الحسين (عليهما السلام) فأُدخل عليه وهو يتغدَّى، فقال عليُّ بن الحسين (عليهما السلام): أُدخلتُ على ابن زياد وهو يتغذَّى ورأس أبي بين يديه، فقلتُ: اللهمَّ لا تُمتني حتى تريَني رأسَ ابن زياد وأنا أتغدَّى، فالحمد لله الذي أجاب دعوتي. ثم أمر فرُمي به.."(2).
فالرواية عاميَّة أي ليست من رواياتنا، والشيخ الطوسي (رحمه الله) نقلها من كتبهم كما يتَّضح ذلك من ملاحظة سندها، فهي تنتهي إلى عليِّ بن محمد بن عبد الله، أبو الحسن المدائني وهو مؤرِّخٌ شهير من مؤرِّخي العامَّة تُوفي سنة 225 هـ، هذا مضافًا إلى ضعف طريق الشيخ الطوسي إليه لاشتماله على مجاهيل، على أنَّ مِن غير المعلوم مَن هم رجال المدائني إلى الرواية، فهي لذلك بحكم المُرسلة، فالرواية ضعيفة السند من وجوهٍ عديدة.
على أنَّ الرواية غير قابلةٍ للتصديق، فالإمام (ع) لا يسألُ الله تعالى أنَّ يرى أحدًا يُمثَّل بجثَّته وكأنَّه يقرُّ هذا الفعل المحرَّم، على أنَّ نُبل الإمام (ع) وسموَّ نفسِه ومكارمَ أخلاقه تأبى عليه ذلك، فهو ليس كسائر الناس يرغبون في التشفِّي حتى بما يحرم أو بما هو مستبشَعٌ في نفسه.
ويُؤيِّد سقوط هذا المضمون -وهو دعاء الإمام برؤية رأس ابن زياد– أنَّ جُلَّ الروايات إنْ لم يكن جميعها -سواءً الوارد منها في طرقِنا أو طرق العامَّة- ليس مشتملًا على هذا الدعاء، نعم وردَ في بعضِها أنَّ الإمام (ع) لمَّا رأى رأس ابن زياد حمِدَ الله تعالى على استجابة دعائه ولكن لم تُبيِّن مضمون الدعاء، فليس في شيءٍ منها أنَّه دعا أنْ يرى رأس ابن زياد، فلعلَّه دعا أنْ يرى ابن زياد قتيلًا.
ولتوثيق ما ذكرناه ننقلُ لكم أهمَّ الروايات والنصوص التاريخية الواردة في هذا الشأن:
النص الأول: أورده القاضي النعمان المغربي (رحمه الله) في كتابه شرح الأخبار قال: وكان عليُّ بن الحسين (عليه السلام) يدعو في كلِّ يومٍ وليلةٍ أنْ يُريَه اللهُ قاتلَ أبيه مقتولًا. فلمَّا قتل المختارُ قتَلَةَ الحسين (عليه السلام) بعثَ برأس عبيد الله بن زياد ورأس عمر بن سعد مع رسولٍ من قِبَله إلى عليِّ بن الحسين (عليه السلام) وقال لرسوله: إنَّه يصلِّي من الليل فإذا أصبح وصلَّى الغداة هجع ثم يقوم فيستاك، يؤتى بغدائه، فإذا أتيت بابَه، فاسألْ عنه، فإذا قيل لك إنَّ المائدة وُضعت بين يديه فاستأذن عليه وضع الرأسين على مائدته، وقل له: المختار يَقرأُ عليك السلام، ويقول لك: يابن رسول الله قد بلَّغك الله ثأرك، ففعل الرسولُ ذلك. فلمَّا رأى عليُّ بن الحسين رأسين على مائدته خرَّ لله ساجدًا، وقال: الحمدُ لله الذي أجاب دعائي وبلَّغني ثأري من قَتلة أبي، ودعا للمختار وجزَّاه خيرا"(3).
النص الثاني: أورده الكشي في اختيار معرفة الرجال بسنده عن عمر بن عليِّ بن الحسين: أنَّ عليَّ بن الحسين (عليهما السلام) لمَّا أُتي برأس عبيد الله بن زياد، ورأس عمر بن سعد، قال: فخرَّ ساجدًا، وقال: الحمدُ لله الذي أدركَ لي ثأري من أعدائي، وجزى اللهُ المختارَ خيرا"(4).
النص الثالث: أورده اليعقوبي في تاريخه قال: ".. ووجَّه المختار برأس عبيد الله بن زياد إلى عليِّ بن الحسين في المدينة مع رجلٍ من قومه، وقال له: قف ببابِ عليِّ بن الحسين، فإذا رأيت أبوابه قد فُتحت ودخل الناس، فذلك الذي فيه طعامُه، فادخل إليه، فجاء الرسول إلى باب عليِّ بن الحسين، فلمَّا فُتحت أبوابُه، ودخل الناسُ للطعام، دخل ونادى بأعلى صوته: يا أهل بيت النبوَّة، ومعدن الرسالة، ومهبط الملائكة، ومنزل الوحي، أنا رسولُ المختار ابن أبي عبيد معي رأسُ عبيد الله بن زياد، فلم تبقَ في شيء من دور بني هاشم امرأةٌ إلا صرختْ، ودخل الرسولُ فأخرج الرأس، فلمَّا رآه عليُّ بن الحسين قال: أبعدهُ اللهُ إلى النار"(5).
النص الرابع: أورده ابنُ سعدٍ الطبقات الكبرى قال: وبعث برأسه -ابن زياد- إلى المختار فعمد إليه المختار فجعله في جونة ثم بعث به إلى محمَّد بن الحنفية وعليِّ بن الحسين وسائر بني هاشم، فلمَّا رأى عليُّ بن حسين رأس عبيد الله ترحَّم على الحسين، وقال: أُتي عبيد الله بن زياد برأس الحسين وهو يتغدى وأُتينا برأس عبيد الله ونحن نتغدى"(6).
أكثر الروايات خالية من الدعاء الذي تضمَّنته رواية المدائني:هذه هي أهمُّ النصوص الواردة في هذا الشأن، وهي كما تُلاحظون خالية من ممَّا تضمَّنته رواية المدائني من أنَّ الإمام السجَّاد (ع) دعا بأنْ يُريَه الله تعالى رأس ابن زياد بل صرَّحت رواية شرح الأخبار للنعمان المغربي أنَّ دعاء الإمام السجاد(ع) هو: "أنْ يُريَه اللهُ قاتلَ أبيه مقتولًا"، وفرقٌ بين الدعاء بأنْ يرى رأس ابن زياد وبين الدعاء بأنْ يراه قتيلًا، فالأول ظاهرٌ أو مشعِرٌ بالإقرار بجواز قطع رأسِه والتمثيل به، وأمَّا الثاني فهو لا يدلُّ على أكثر من الدعاء بأنْ يُسلِّط الله عليه مَن يقتله بقطع النظر عن طبيعة القتلة وكيفيَّتها.
وحيث إنَّ ما تضمَّنته رواية المدائني –بناءً على ظهورها في الإقرار بجواز المُثلة– منافٍ لِما هو المعلوم من ضرورة الفقه، ومنافٍ لِما هو المعلوم مِن سموِّ أخلاق أهل البيت (ع) لذلك فهذا المقدار من رواية المدائني مكذوبٌ على الإمام (ع)، على أنَّ الرواية –كما ذكرنا- ساقطةٌ عن الاعتبار في نفسِها نظرًا لضعف سندِها.
استبشار السجَّاد بمقتل ابن زياد لا يعني التصحيح لكيفيَّة قتله:وأمَّا ما وردَ في بعضِ هذه الروايات وهذه النصوص التاريخيَّة من أنَّ الإمام (ع) خرَّ ساجدًا وحمِدَ الله تعالى فهو لا يدلُّ على أكثر مِن استبشارِه بقتل ابن زياد، فليس في هذه الروايات دلالةٌ على إمضائه لكيفيَّة القتل كما أنَّه ليس فيها دلالة على إمضائه لحمل الرأس ونصبه، فالمقام أشبهُ شيءٍ بما لو دعا أحدٌ على قاتل أبيه بأنْ ينتقمَ اللهُ تعالى منه فيتَّفق لهذا الرجل القاتل أنْ يفترسه سبُع أو يسقطَ من شاهقٍ أو يقتله قطَّاعُ الطريق فيستبشر ابنُ القتيل باستجابة دعائه في قاتل أبيه، فهو يستبشرُ بما وقع لقاتل أبيه بقطع النظر عن طبيعة ما وقع له، فهو يستبشرُ بقتله سواءً وقع ذلك من طريق افتراس السباع له أو من طريق الفتك به من قبل قطاع الطرق أو غير ذلك، فهو يرى أنَّ دعوته قد استُجيبت أيًا كانت الكيفيَّة التي وقع بها القتل، وليس لأحدٍ أنْ يتوهَّم أنَّ ابن القتيل يُقرُّ بجواز قطع الطريق أو الاغتيال لو كان قد قُتل بالاغتيال، فلو سُئل ابن القتيل هل أنت مستبشِرٌ بمقتل قاتل أبيك لقال: نعم، ولو سُئل وهل أنت مقرٌّ بجواز قتله اغتيالًا مثلًا لأمكن أنْ يقول لا أرى جواز ذلك، فالاستبشار بمقتله الذي وقع بالاغتيال لا يُلازم الإقرار بجواز الاغتيال.
كذلك المقام فإنَّ استبشار الإمام (ع) بمقتل قاتل الحسين (ع) لا يُلازم وليس فيه دلالة على إمضائه لكيفيَّة قتله أو إمضائه للتمثيل به وحمل رأسه ونصبه في المدينة ومكة، وأمَّا الدعاء للمختار (رحمه الله) فلأنَّه تتبَّع قتلَة الحسين (ع) وقتل مَن وقع منهم تحت يده، لذلك فهو مستحِقٌّ لأنْ يُدعى له، وليس في ذلك تصويبٌ لكلِّ ما كان قد فعله، فلم يكن الدعاء له إلا لكونه انتصر لأهل البيت (ع) وقتله لقتلَة الحسين (ع) فالدعاء له بأنْ يجزيَه الله خيرًا منشأه ذلك محضًا فليس فيه دلالة على التصحيح لكلِّ ما يفعل.
فالمختار بناءً على ما ورد في بعض الأخبار كان يهدمُ دور مَن شاركوا في حرب الإمام الحسين (ع) فهل الدعاء له بأنْ يجزيه اللهُ خيرًا بعد قتل قتلة الحسين (ع) يعني أنَّ الإمام (ع) يُصحِّح ما يفعله من هدمٍ لدور مَن شاركوا في حرب الحسين (ع) رغم أنَّ هذه الدور قد تكون ملكًا للورثة أو يأوي إليها من أولاده وزوجاته ممَّن لا شأن لهم بجريرة صاحب الدار.
كلُّ ذلك مع قطع النظر عن الإشكال في أسناد هذه الروايات المشتملة على أنَّ الإمام (ع) قد دعا للمختار في ذلك الموقف وإلا فإنَّ عددًا من هذه الروايات لم تشتمل على أنَّ الإمام (ع) قد دعا للمختار في ذلك الموقف، فالنصُّ الذي أورده اليعقوبي لم يتضمَّن أنَّ الإمام (ع) قد دعا للمختار، فلم يشتمل هذا النصُّ على أكثر من قول الإمام (ع) "أبعدهُ اللهُ إلى النار" يعني ابن زياد، وكذلك فإنَّ النصَّ الذي أورده ابنُ سعد في الطبقات وأورده ابنُ عساكر في تاريخ مدينة دمشق لم يتضمَّن أكثر من ترحُّم الإمام السجاد (ع) على الإمام الحسين (ع) قال: "فلمَّا رأى عليُّ بن حسين رأسَ عبيد الله ترحَّم على الحسين" وهكذا فإنَّ رواية المدائني ومعتبرة جارود بن المنذر لم تتضمَّنا الدعاء للمختار فأكثر الروايات خالية من الدعاء للمختار في ذلك الموقف.
وأمَّا ما ورد في رواية ابن سعد في الطبقات من أنَّ الإمام السجَّاد (ع) قال حين رأى رأس ابن زياد: "أُتي عبيد الله بن زياد برأس الحسين وهو يتغدَّى وأُتينا برأس عبيد الله ونحن نتغدى" فهو بيانٌ لعجيب قضاء الله تعالى وغريب ما يُقدِّره وهو كذلك تعبيرٌ عن الشعور بالاِمتنان بلطف الله جل وعلا بالموتورين من أهل بيت الرسول (ص) فقد فعل (جلَّ وعلا) بقاتل الحسين (ع) مثل ما كان قد فعل، فكما أُدخل رأس الحسين (ع) على ابن زياد وهو يتغدى كذلك قدَّر الله تعالى تسليةً لأوليائه فأُدخل رأس ابن زياد على الإمام زين العابدين (ع) وهو يتغدى، فهو (عليه السلام) لم يأمر بذلك بل ولا طلب من المختار أنْ يحمل إليه رأس ابن زياد فضلًا عن ادخاله عليه وهو يتغدى ولكنَّ اللهَ تعالى قدَّر أنْ يُري عباده كيف ينتقمُ لسيِّد الشهداء (ع).
الاستبشار بمقتل ابن زياد ليس بدافع التشفِّي:ثم إنَّ هنا أمرًا يحسنُ التنبيهُ عليه وهو أنَّ سجود الإمام (ع) وحمده لله المعبِّر عن استبشاره بمقتلِ قتلَةِ الحسين (ع) لم يكن عن قصد الشماتة والتشفِّي - فإنَّ أخلاقَ أهل البيت (ع) وسموَّ طبائعهم وطهارة نفوسِهم تأبى ذلك – وإنَّما هو من الاستبشار بنصر الله تعالى لأوليائه كما قال تعالى: ﴿وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾(7) ويقول تعالى: ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ / وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾(8).
فكما استبشر النبيُّ (ص) بمقتل جبابرة قريش يوم بدر أمثال أبي جهل ابن الحكم وشيبة وعتبة والوليد بن عتبة وأميَّة بن خلف ووقف على جثامينهم بعد أنْ جمعهم في قليب (بئر) وخاطبهم بقوله: "يا أهل القليب إنَّا قد وجدنا ما وعدنا ربُّنا حقَّا، فهل وجدتُم ما وعد ربكم حقَّا"(9)، أو قال: "لقد كنتم جيرانَ سوءٍ لرسول الله، أخرجتموه من منزلِه، وطردتُموه، ثم اجتمعتم عليه فحاربتُموه، فقد وجدتُ ما وعدني ربِّي حقَّا، فهل وجدتم ما وعدكم ربُّكم حقَّا"(10).
فكما استبشرَ رسولُ الله (ص) بمقتل جبابرة قريش يوم بدرٍ وخاطبهم بقوله إنَّه وجد ما وعده ربُّه من النصر واستئصال هؤلاء المرَدة كذلك استبشرَ الإمامُ زينُ العابدين (ع) بمقتل ابن زياد وسائر قتلَةِ الحسين (ع).
التعليق على رواية المنهال في كيفيَّة قتل حرملة:بقي الكلام حول رواية المنهال بن عمرو، قال: دخلتُ على عليِّ بن الحسين (عليهما السلام) منصرفي من مكة فقال لي: يا منهال، ما صنع حرملة بن كاهلة الأسدي؟ فقلتُ: تركتُه حيًّا بالكوفة، قال: فرفع يديه جميعا، فقال: "اللهمَّ أذقْه حرَّ الحديد، اللهمَّ أذقْهُ حرَّ الحديد، اللهم أذقْهُ حرَّ النار".
قال المنهال: فقدمتُ الكوفة، وقد ظهرَ المختارُ بن أبي عبيد، وكان لي صديقا، قال: فكنتُ في منزلي أيامًا حتى انقطع الناس عنِّي، وركبتُ إليه فلقيتُه خارجًا من داره، فقال: يا منهال، لم تأتِنا .. وسايرتُه ونحن نتحدَّثُ حتى أتى الكناس، فوقفَ وقوفًا كأنَّه ينتظرُ شيئًا، وقد كان أُخبر بمكان حرملة بن كاهلة، فوجَّه في طلبه، فلم نلبثْ أنْ جاء قومٌ يركضون وقومٌ يشتدُّون حتى قالوا: أيُّها الأمير، البشارة، قد أُخذ حرملة بن كاهلة، فما لبثنا أنْ جِيء به، فلمَّا نظرَ إليه المختار قال لحرملة: الحمد لله الذي مكَّنني منك. ثم قال: الجزَّارَ الجزَّار، فأُتي بجزار، فقال له: اقطعْ يديه، فقُطعتا، ثم قال له: اقطعْ رِجليه، فقُطعتا، ثم قال: النارَ النارَ، فأُتي بنارٍ وقصب فأُلقي عليه واشتعلت فيه النار.
فقلتُ: سبحان الله! فقال لي: يا منهال، إنَّ التسبيح لحسن، ففيم سبَّحت؟
فقلت: أيُّها الأمير، دخلتُ في سفرتي هذه منصرفي من مكَّة على عليِّ بن الحسين (عليهما السلام) فقال لي: يا منهال، ما فعل حرملة بن كاهلة الأسدي؟ فقلتُ: تركتُه حيًّا بالكوفة؟ فرفع يديه جميعًا فقال: "اللهمَّ أذقْهُ حرَّ الحديد، اللهم أذقْهُ حرَّ الحديد، اللهم أذقْهُ حرَّ النار".
فقال لي المختار: أسمعتَ عليَّ بن الحسين (عليهما السلام) يقول هذا؟ فقلتُ: واللهِ لقد سمعتُه قال، فنزل عن دابَّته وصلَّى ركعتين فأطال السجود، ثم قام فركب، وقد احترق حرملة .."(11).
فهذه الرواية ليس فيها دلالة بل ولا إشعار بإمضاء الإمام (ع) للمُثلة، فما فعله المختار (رحمه الله) بحرملة لم يكن بأمر الإمام (ع) بل لم يكن المختار –أساسًا– يعلم بدعاء الإمام (ع) كما يتَّضح ذلك من الرواية، فهو إنَّما علِم بدعاء الإمام (ع) بعد أنْ أمر بإحراق حرملة، وليس في الرواية أنَّ الإمام (ع) قد أُخبِر بما فعله المختار بحرملة فأقرَّه على ذلك وصحَّح عمله.
وأمَّا دعاءُ الامام السجَّاد (ع) على حرملة بأنْ يُذيقَه اللهُ حرَّ الحديد وحرَّ النار فلا يعني الدعاء عليه بأنْ يُمثَّل بجسده فكثيرًا ما يتَّفق أنْ يموت الإنسان بالحديد والنار معًا، فيُضربُ مثلًا بالسيف في معركةٍ ويكون قريبًا من خندقٍ يشتعل بالنار فيتقهقرُ في ذلك الخندق فيجتمع عليه حرُّ الحديد وحرُّ النار.
فلا ملازمة بين الدعاء على أحدٍ بأنْ يُذيقَه اللهُ حرَّ الحديدِ وحرَّ النار وبين الرضا بالمُثلة، فما وقع لحرملة -أخزاه الله- كان استجابةً من الله تعالى لدعاء الامام (ع) وانتقامًا منه تعالى لسيِّد الشهداء (ع) دون أنْ يتحمَّل الامامُ (ع) تبعاتِ التمثيل بجسد هذا الجلف المخذول، يقول الله تعالى: ﴿أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذابًا نُكْرًا﴾(12).
الهوامش: 1- اختيار معرفة الرجال –الشيخ الطوسي- ج1 / ص341. 2- الأمالي –الشيخ الطوسي- ص243. 3- شرح الأخبار -القاضي النعمان المغربي- ج3 / ص271، مناقب آل أب طالب – ابن شهراشوب – ج3 / ص285. 4- اختيار معرفة الرجال –الشيخ الطوسي- ج1 / ص341 5- تاريخ اليعقوبي –أحمد بن أبي يعقوب اليعقوبي- ج2 / ص259. 6- الطبقات الكبرى -ابن سعد- ج5 / ص100، تاريخ مدينة دمشق –ابن عساكر- ج54 / ص343. 7- سورة الصف / 13. 8- سورة الأنفال / 9-10. 9- من لا يحضره الفقيه –الصدوق- ج1 / ص180. 10- تصحيح اعتقادات الاماميَّة –الشيخ المفيد- ص92. 11- الأمالي –الشيخ الطوسي- ص238-239. 12- سورة الكهف / 87.