وعلى رغم أن عدداً من الباحثين يصرحون بأن أنظمة الذكاء الاصطناعي لم تصل بعد إلى مرحلة الوعي، إلا أن وتيرة التطور أخرجته من لائحة التوقعات البشرية المتفائلة، ودفعت كبير العلماء في "أوبن أي آي"، الشركة التي تقف وراء برنامج الدردشة "تشات جي بي تي"، إلى الإعلان عبر مواقع التواصل الاجتماعي أنه من الممكن أن تكون شبكات الذكاء الاصطناعي الكبيرة الأكثر تقدماً واعية إلى حد ما.
اختبار سلوكيوربما كان مهندس "غوغل" بليك ليموين، أول المصرحين بمخاوفه مدعياً امتلاك "لامدا"(LaMDA) ، وهي عائلة من نماذج لغوية كبيرة طورتها "غوغل" وعياً خاصاً بها، عبرت من خلاله عن إدراكها لوجودها ومشاعرها ورغبتها في معرفة العالم ومخاوفها من إقصائها منه، بحسب ليموين.
ولكن ظلت هذه التصريحات طوال الفترة الماضية مجرد افتراضات شخصية، بخاصة أن فرضية إسناد الشعور والوعي للنموذج اعتمدت على سلوكه فقط من دون وجود دلائل تستند إلى نظريات مثبتة وأسس تجريبية مدروسة، إذ يجادل العلماء بأن إخضاع النظام للاختبار السلوكي عن طريق سؤاله عما إذا كان واعياً أو تحديه والبناء على جوابه أو كيفية استجابته، لا يمكن أن يكون مقياساً، خصوصاً بعدما أصبحت هذه الأنظمة جيدة كفاية في تقليد البشر ومحاكاة ردود أفعالهم وطريقة تفكيرهم.
وظل إمكان أن تكون أنظمة الذكاء الاصطناعي واعية يحظى باهتمام عام وعلمي متزايد، لكن قبل أن نناقش فرضية وعي الذكاء الاصطناعي، لنتعرف إلى ماهية الوعي أولاً.
مفهوم فلسفييعرف العلم الوعي بأنه كل ما يختبره الشخص بحواسه، أما الفلسفة، فتعتقد بأنه يعطي معنى وقيمة لحياتنا، بينما يعتقد في بعض المذاهب الفلسفية القديمة مثل المدرسة الروحية الشاملة التي تنسب إلى مجموعة من الفلاسفة ومنهم أفلاطون، بأن الوعي خاصية أساسية عامة في كل الأشياء أي إن لكل شيء وعياً خاصاً به.
وعلى رغم الجهود الكبيرة التي بذلت في سبيل دراسة الوعي إلا أن الباحثين ما زالوا لا يملكون فهماً واضحاً عن كيفية إنتاجه داخل أدمغتنا، مما أدى إلى تحوله للغز استفز العلماء للبحث والتمحيص، وكان من بينهم عالم الأعصاب الألماني كريستوف كوخ الذي بدأ بحثه عن البصمات العصبية للوعي في الثمانينيات ووظف إمكاناته منذ ذلك الحين في تحديد أجزاء الدماغ الضرورية لتوليد الشعور بالرؤية أو السمع أو الرغبة.
فرضيات بشريةودعمت مسعى كوخ هذا تقنيات جديدة عدة مثل "التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي" (fMRI) الذي اجتاح المختبرات في ذلك الوقت وأحدث ثورة في قياس نشاط المخ عن طريق رصد التغيرات الصغيرة المرتبطة بتدفق الدم، وكذلك علم البصريات الوراثي الذي سمح للعلماء بالتحكم في خلايا الدماغ الحية وتحفيز مجموعات محددة منها في أدمغة بعض الحيوانات باستخدام كابلات الألياف الضوئية، لتبدأ بعض الفرضيات بالظهور تدريجاً.
وكان أبرزها نظرية المعلومات المتكاملة (IIT) التي اقترحت أن الوعي عبارة عن بنية في الدماغ يعتقد بوجودها في القشرة المخية الخلفية، في الجزء الخلفي من الدماغ، وتتكون من نوع محدد من التوصيلات العصبية التي تنشط طوال فترة حدوث تجربة معينة، مثل النظر إلى صورة ما.
والنظرية الثانية هي مساحة العمل الشاملة (GWT) التي تشير على النقيض من سابقتها إلى أن الوعي ينشأ عندما يتم بث المعلومات إلى مناطق الدماغ من خلال شبكة مترابطة، ووفقاً للنظرية يحدث هذا البث أو النقل في بداية التجربة ونهايتها ويشمل قشرة الفص الجبهي التي تقع في الجزء الأمامي من الدماغ.
الحقيقة أن الباحثين، بعد تجارب عدة في المختبرات، لم يجدوا دليلاً على التزامن المستمر بين مناطق الدماغ، مما يدل على أن النظريتين بحاجة إلى مراجعة كل على حدة.
وفي وقت لاحق قدم علم الأعصاب نظريات عدة تصف الأساس البيولوجي للوعي، إلا أنه لم يتم الإجماع على أيها الصحيح تماماً، ليؤكد العلماء أننا ما زلنا في حاجة إلى نظريات وعي أكثر دقة ومختبرة جيداً في المستقبل القريب، ليظل بذلك اللغز مستمراً.
الوعي الاصطناعيوبالعودة لسؤالنا الأول، عاد التحدي ذاته "تحديد معنى أن يكون شيء ما واعياً" ليواجه دراسة الوعي في الذكاء الاصطناعي، والحقيقة أن الشركات التي تبني أنظمة ذكاء اصطناعي متقدمة لا تبذل جهداً كافياً لتقييم نماذج الوعي ووضع خطط لما يجب فعله إذا حدث وأصبحت واعية.
لكن توصلت في هذا السياق مجموعة مكونة من 19 من علماء الأعصاب والفلاسفة والكمبيوتر إلى قائمة مرجعية من المعايير التي ستشير، في حال تم استيفاؤها، إلى امتلاك نظام ما فرصة ليكون واعياً، ونشروا دليلهم الموقت في أرشيف مسودات الأوراق العلمية arXiv"".
لا بد للمؤلفين من استخدام مجموعة من نظريات الوعي السابقة لإنشاء إطار عملهم ووضع نهج لتقييم الوعي وتطوير خصائص تحدد مؤشرات الوعي، بحيث يصبح الحكم على احتمالية أن يكون نظام ما واعياً تعتمد على مدى تماشيه مع جوانب عدة من هذه النظريات، واعتمد الباحثون في التقييم على لائحة مرجعية مستمدة من ست نظريات عن الوعي قائمة على علم الأعصاب.
ويعتقد المؤلفون بضرورة وجود هذا النهج لأنه يركز على كيفية عمل هذه الأنظمة، بدلاً من التركيز على ما إذا كانت تظهر أشكالاً من السلوك الخارجي الذي يمكن اعتباره من سمات الكائنات الواعية، ويجادل الفريق بأنه من الممكن علمياً تتبع تقييم وعي الذكاء الاصطناعي.
نهج تدعمه فرضيتانولتطوير معاييرهم، افترض المؤلفون أن الوعي يرتبط بكيفية معالجة الأنظمة للمعلومات بغض النظر عن المادة الأساس التي تتكون منه، سواء كانت مصنوعة من خلايا عصبية أو شرائح كمبيوتر أو أي شيء آخر، ويسمى هذا النهج "الوظيفية الحسابية" (computational functionalism)، إذ يتبنى الباحثون وجهة النظر هذه على افتراض أن الوعي يعتمد على نظام الذكاء الاصطناعي الذي ينفذ حسابات معينة.
وكذلك افترضوا أن نظريات الوعي القائمة على علم الأعصاب (المعتمدة على تقنيات مثل مسح دماغ البشر والحيوانات) والتي تهدف إلى تحديد الوظائف الحسابية المرتبطة بالوعي لدى البشر، يمكن تطبيقها على الذكاء الاصطناعي.
وعلى أساس هذه الافتراضات اختار الفريق ستاً من هذه النظريات واستخرجوا منها قائمة بمؤشرات الوعي، إحداها على سبيل المثال نظرية "منطقة العمل الشاملة" التي تؤكد أن البشر والحيوانات الأخرى يستخدمون عدداً من الأنظمة المتخصصة التي تسمى أيضاً "الوحدات لأداء المهمات المعرفية" مثل الرؤية والسمع.
وتعمل هذه الوحدات بشكل مستقل ولكن بالتوازي، وتتشارك المعلومات من خلال الاتحاد في نظام واحد، وبالتالي بحسب العلماء سيقيم نظام معين ما في حال أظهر مؤشراً مشتقاً من هذه النظرية من خلال النظر إلى بنية النظام وكيفية تدفق المعلومات عبره.
ويقدم التقرير تقييماً لنماذج اللغات الكبيرة "تشات جي بي تي" كمثال، نتيجته أنه يمكن القول إنه يمتلك بعض مؤشرات الوعي المرتبطة بنظرية منطقة العمل، ويشير التحليل النهائي إلى أنه لا توجد أنظمة ذكاء اصطناعي حالية واعية تماماً، لكنه يلفت أيضاً إلى عدم وجود عوائق فنية واضحة أمام بناء أنظمة ذكاء اصطناعي تلبي هذه المؤشرات.
وفي النهاية يؤكد المؤلفون أن ورقتهم البحثية هذه ليست صورة نهائية حول كيفية تقييم أنظمة الذكاء الاصطناعي من حيث الوعي، ويدعون الباحثين إلى المساعدة في تنقيح وتحسين منهجيتهم.
المصدر: independentarabia