وانطلاقاً من ذلك فهؤلاء يعمدون الى إلصاق تهمة التحريف بالقرآن الكريم لكيلا يشكل عليهما بتحريف التوراة والانجيل.
إن التاريخ يثبت بالأدلة والأرقام أن نسخ التوراة تعرضت مراراً للتلف والإندراس نتيجة للحوادث التاريخية المختلفة، خاصة أثناء هجوم بخت النصر على اليهود، ثم قام بعض علمائهم بإعادة كتابتها لاحقاً[1] .
كما أن التاريخ يشهد على أن الانجيل الرباعي إنما دوّنه عدد من أتباع النبي عيسى (ع) بعد وفاته بمدة من الزمن؛ وعلى هذا الأساس، لا أثر للكتاب الواحد الذي نزل على المسيح (ع) [2].
ومن أسس كافة معارفه وأصوله الدينية على أساس هذه الكتب المحرفة التي فقدت قيمتها واعتبارها يرغب بإلحاق المصير نفسه بالقرآن الكريم ليستطيع القول: إن هذا الكتاب أيضاً طاله التحريف ولا يمكن الاعتماد عليه.
هذا في حين أن طريقة جمع القرآن الكريم في جميع المراحل التاريخية تختلف تماماً عن طريقة جمع التوراة والانجيل في الديانتين اليهودية والمسيحية.
إن التاريخ يؤكد على أنه لا وجود للإبهام والغموض في كافة مراحل جمع القرآن الكريم. وفي هذا الإطار لا بدّ من الالتفات الى موضوعين هامين؛ إذ يتضح من خلالهما الاجابة عن كثير من الأسئلة، وهما:
1- إن القرآن الكريم عبارة عن كتاب أحدث انقلاباً عظيماً في كافة شؤون الحياة الاجتماعية للمسلمين؛ فنسف ماضيهم وصنع لهم حياة جديدة متقومة بالإيمان والمبادئ الانسانية. بناء على ذلك، فالقرآن الكريم كان له صلة بأهم شؤون حياة المسلمين؛ إذ كانوا يستمدون من هذا الكتاب السماوي سياستهم واقتصادهم وقوانينهم الأخلاقية، بل حتى آداب ورسوم المعاشرة الصحيحة في الأسرة. ويرتبطون به خمس مرات يومياً في صلواتهم؛ ومن هنا فهم يرجعون في كافة شؤون حياتهم اليومية الى القرآن الكريم أولاً ثم السنة النبوية ثانياً.
وفي هذه الحالة كيف يطال التحريف كتاباً امتزج بحياة الناس الى هذا المقدار وكان المعول والمستند لهم في كل شاردة وواردة، ومع هذا لم يلتفت العوام أو الخواص الى هذا التحريف؟
فاحتمال وقوع التحريف في القرآن الكريم دون علم أحد بذلك بمثابة احتمال أن يطال التحريف دستور أمة كبيرة وعظيمة دون أن يشعر أحد من أفرادها بذلك؛ فهل من الممكن أن يطال التحريف دستور أمة ما من دون أن يفهم أبناؤها بوقوعه وترتفع أصواتهم بالاستنكار والتنديد؟
إن دور القرآن الكريم في الحياة الاجتماعية للمسلمين يفوق بكثير الدور الذي يلعبه القانون الأساسي في حياة الشعوب المعاصرة؛ وعليه فإن الأنظار كانت وما زالت متجهة إليه، وما إن يحدث فيه شيء من التحريف حتى تتعالى الأصوات وتبدأ ردود الأفعال المختلفة والاعتراضات المتوالية من كل حدب وصوب.
2- إن تاريخ جمع القرآن الكريم، سواء في حياة النبي الأكرم (ص) أم في الفترة التي تلته، والاهتمام الكبير الذي كان النبي (ص) والمسلمون يبدونه تجاه حفظ وكتابة القرآن، كل ذلك يثبت أنه لا مجال لنقصان كلمة واحدة من كتاب الله المجيد.
وقد ذكر في التاريخ أن هناك علماء مسلمين يصل عددهم الى ثلاثة وأربعين شخصاً [3] كانوا متواجدين زمن النبي (ص) وقد أمرهم بكتابة كل آية أو سورة بمجرد نزولها عليه، ومن ثم حظيت تلك الكتابات باهتمام المسلمين من بعده وحفظت على أكمل وجه ممكن.
وأشهر هؤلاء الذين أبدوا اهتماماً منقطع النظير بتدوين القرآن الكريم علي بن أبي طالب (ع) وزيد بن ثابت؛ فكان المسلمون يحتفظون بنسخ عديدة من تلك المدونات حيث كانت تمثل لهم مرجعاً في القراءة والاستفادة من كتاب الله المقدس.
وفضلاً عن هاتين النقطتين، كان غالبية المسلمين يحفظون آيات وسور القرآن في قلوبهم، وكانوا يتوخون منتهى الدقة في الحفظ حتى لا يفرطون بكلمة واحدة منه. وكانت هذه الثلة من المسلمين الذين يطلق عليهم اسم "القراء" مرجعاً لآحاد المسلمين في القراءة والتلاوة.
إن موضوع الاهتمام بحفظ القرآن الكريم وصيانته من التحريف كان على قدر كبير من الأهمية بين أوساط المسلمين، حتى أنه لما قتل عدد كبير من القراء في وقعة اليمامة في عهد أبي بكر عزم المسلمون على إبداء مزيد من الاهتمام بهذا الموضوع؛ ولأجل ذلك جمعوا كافة النسخ القرآنية الموجودة وأبرزوا عدم ارتياحهم من وجود تفاوت بينها، فقاموا بتوحيدها.
وفي عهد عثمان بن عفان جرى توحيد جميع نسخ القرآن الكريم ونسخت منه أربع نسخ أخرى وأرسلت الى المدن الكبيرة وأمر الناس بتوحيد مصاحفهم على ضوء هذه النسخ الأربع وجعلها اساساً في القراءة.
وبلغ اهتمام المسلمين والقراء على وجه الخصوص بحفظ وصيانة كتاب الله المجيد من التحريف الى درجة أنه نشب خلاف بين أبي بن كعب وعثمان بن عفان (خليفة المسلمين آنذاك)، بشأن قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَكنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ)(التوبة: 34)، فقال الخليفة: إن الوحي الالهي النازل هو "الذين" بدون واو؛ فيجب حذف الواو من جميع نسخ القرآن. لكن أبي بن كعب أصرّ على أن القرآن الذين سمعناه من رسول الله (ص) هو ما موجود بين دفتي الكتاب. ثم اشتدت حدة النزاع بينهما؛ فنهض أبيّ حاملاً سيفه على عاتقه وهو يصيح: من أراد حذف هذا الحرف من كتاب الله فاني أخمد سيفي هذا في صدره وأريق دمه. فأدت شجاعة أبي بن كعب الى تراجع الخليفة عن كلامه.
ولما يفضي الاختلاف على حرف واحد إلى هكذا نزاع عنيف، أيمكن الادعاء بأن القرآن الكريم طاله التحريف وحذفت منه بضعة آيات؟
وبالإضافة الى ما قيل آنفاً حول عدم إمكان تحريف القرآن، فانه قد صرح القرآن نفسه في عدة موارد منه بعدم التحريف وأن كتاب الله سيصان من التغيير والتلاعب؛ إذ قال عزّ من قائل: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر:9)، كما أجمع علماء الاسلام في كتب التفسير على أنه لم يجر على القرآن الكريم أي لون من ألوان التحريف.
واذا ما وجد أحد علماء الاسلام قد ذهب الى تحريف كلام الله تعالى فذلك ناتج عن بعض الأحاديث الموضوعة التي دسها بعض المغرضين في كتب الحديث؛ وإلا فلا قرينة في القرآن نفسه على زعم هؤلاء. وبدهي أن هذا الصنف من الأخبار ساقط عن الاعتبار، أو إن هذه الشبهة نتجت عن أخبار لم يستطيعوا كشف مرادها الواقعي.
وعلى كل حال، فقد ألّف عدد من كبار علمائنا كتباً حول هذا الموضوع أثبتوا فيها بما لا يقبل الشك عدم إمكان طرو التغيير والتحريف على القرآن الكريم، فمن يرغب بمطالعة الأدلة التي تثبت استحالة التحريف بوسعه مراجعة الكتب الكثيرة المدونة في هذا المجال.
وأخيراً فإن الأخبار التي تدل على وجود قرآن لدى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) يختلف عن كافة النسخ القرآنية الأخرى، لا تتناقض مع أخبار ومبدأ عدم التحريف؛ لأن القرآن المذكور كما صرح العلماء الأعلام بذلك يشتمل على شرح لنزول الآيات وتفسيرها المنقول عن رسول الله (ص)؛ فالفارق بينه وبين سائر النسخ القرآنية الأخرى من هذه الناحية فقط لا في أصل النصّ القرآني الموجود في الجميع.
المقال رداً على سؤال: هل أن القرآن الكريم نزل على النبي (ص) بصورته الفعلية الموجودة حالياً؟ وما الدليل على صيانته من التحريف؟
الهوامش: [1] ) انظر كتاب: "القاموس المقدس" و "الهدى الى دين المصطفى". [2] ) انظر: المصدرين السابقين. [3] ) تاريخ القرآن لأبي عبد الله الزنجاني.