یتبادر إلى الذهن سّؤال مهم وهو: لماذا نسب الخیر والشر فی الآیة الاُولى كلّه لله؟ ولماذا حصرت الآیة التالیة الخیر ـوحدهـ لله، ونسبت الشرّ إلى الإنسان؟
والجواب: حین نمعن النظر في الآیتین تواجهنا عدّة اُمور، یمكن لكل منها أن یكون هو الجواب على هذا السؤال.
1ـ لو أجرینا تحلیلا على عناصر تكوین الشر لرأینا أنّ لها اتجاهین: أحدهما إیجابی والآخر سلبی، والإتجاه الأخیر هو الذی یجسد شكل الشر أو السیئة ویبرزه على صورة «خسارة نسبیة» فالإنسان الذی یقدم على قتل نظیره بسلاح ناري أو سلاح بارد یكون قد ارتكب بالطبع عملا شریراً وسیئاً، فما هي إذن عوامل حدوث هذا العمل الشریر؟
إنّها تتكون من: قدرة الإنسان وعقله، وقدرة السلاح، والقدرة على الرمی اصابة الهدف، واختیار المكان والزمان المناسبین، وهذه تشكل عناصر الإتجاه الإیجابی للقضیة، لأنّ كل عنصر منها یستطیع فی حدّ ذاته أن یستخدم كعامل لفعل حسن إذا استغل الاستغلال الحكیم، أمّا الإتجاه السلبی فهو فی استغلال كل من هذه العناصر فی غیر محله، فبدلا من أن یستخدم السلاح لدرء خطر حیوان مفترس أو للتصدی لقاتل ومجرم خطیر، یُستخدم فی قتل إنسان بريء، فیجسد بذلك فعل الشر، وإلاّ فإنّ قدرة الإنسان وعقله وقدرته على الرمی والتهدیف، وأصل السلاح وكل هذه العناصر، یمكن أن یستفاد منها فی مجال الخیر.
وحین تنسب الآیة الاُولى الخیر والشرّ كلّه لله، فإن ذلك معناه أنّ مصادر القوّة جمیعها بید الله العلیم القدیر حتى تلك القوّة التی یساء استخدامها، ومن هذا المنطلق تنسب الخیر والشرّ لله، لأنّه هو واهب القوى.
والآیة الثّانیة: تنسب «السیئات» إلى الناس إنطلاقاً من مفهوم «الجوانب السلبیة» للقضیة ومن الإساءة فی استخدام المواهب الإلهیة.
تماماً مثل والد وهب ابنه مالا لیبنی به داراً جدیدة، لكن هذا الولد بدلا من أن یستخدم هذا المال فی بناء البیت المطلوب، اشترى مخدرات ضارة أو صرفه فی مجالات الفساد والفحشاء، لا شك أنّ الوالد هو مصدر هذا المال، لكن أحداً لا ینسب تصرف الابن لوالده، لأنه أعطاه للولد لغرض خیری حسن، لكن الولد أساء استغلال المال، فهو فاعل الشرّ، ولیس لوالده دخل فی فعلته هذه.
2ـ ویمكن القول ـ أیضاً ـ بأنّ الآیة الكریمة إنّما تشیر إلى موضوع «الأمر بین الأمرین».
وهذه قضیة بحثت فی مسألة الجبر والتفویض، وخلاصة القول فیها أنّ جمیع وقائع العالم خیراً كانت أم شرّاً هي من جانب واحد تتصل بالله سبحانه القدیر لأنّه هو الذی وهب الإنسان القدرة والقوّة وحریة الإنتخاب والاختیار، وعلى هذا الأساس فإنّ كل ما یختاره الإنسان ویفعله بإرادته وحریته لا یخرج عن إرادة الله، لكن هذا الفعل ینسب للإنسان لأنّه صادر عن وجوده، وإرادته هی التی تحدد اتجاه الفعل.
ومن هنا فإنّنا مسؤولون عن أعمالنا، واستناد أعمالنا إلى الله ـ بالشكل الذی أوضحناه ـ لا یسلب عنّا المسؤولیة ولا یؤدّی إلى الاعتقاد بالجبر.
وعلى هذا الأساس حین تنسب «الحسنات» و«السیئات» إلى الله سبحانه وتعالى، فلفاعلیة الله فی كل شیء، وحین تنسب السیئة إلى الإنسان فلإرادته وحریته فی الاختیار.
وحصیلة هذا البحث إنّ الآیتین معاً تثبتان قضیة الأمر «الأمر بین الأمرین» (تأمل بدقّة)!
3ـ هناك تفسیر ثالث للآیتین ورد فیما أثر عن أهل البیت (علیهم السلام)، وهو أنّ المقصود من عبارة السّیئات جزاء الأعمال السیئة وعقوبة المعاصی التی ینزلها الله بالعاصین، ولما كانت العقوبة هی نتیجة لأفعال العاصین من العباد (1) لذلك تنسب أحیاناً إلى العباد أنفسهم وأحیاناً اُخرى إلى الله، وكلا النسبتین صحیحتان، إذ یمكن القول فی قضیة قطع ید السارق إنّ القاضی هو الذی قطع ید السارق، كما یجوز أن یقال إنّ السارق هو السبب فی قطع یده لارتكابه السرقة (2).
الهوامش: 1. تفسیر نورالثقلین، ج 1، ص 519; وبحارالانوار، ج 5، ص 202. 2.الأمثل، ج 3، ص 217.