مما ذكرته المصادر التأريخية في وقائع ليلة عاشوراء ما جاء في المعجم الكبير للطبراني عن موسى ابن عمير عن ابيه قال: "امرني الحسين بن علي عليهما السلام فقال: نادِ في الناس ألا يقاتلنّ معي رجل عليه دين فانه ليس من رجل يموت عليه دين لا يدع له وفاء إلا دخل النار".
ومثله في مصادر أخرى نفس الرواية وردت في مصادر اخرى بنفس السياق لكن مع اختلاف في بعض الالفاظ، في نص آخر قام اليه رجل فقال ان امرأتي تكفلت عني فقال وما كفالة امرأة؟ وهل تقي امرأة يعني ليست لها امكانية ان تقضي عنك الدين.
وفي سير أعلام النبلاء أيضا ورد مثل هذه الرواية وفي احقاق الحق ايضا، هناك أيضا روايات اخرى في هذا السياق في سياق وقائع ليلة عاشوراء جاء في الطبقات الكبرى لابن سعد وتاريخ دمشق عن الاسود ابن قيس العبدي قيل لمحمد ابن بشير الحضرمي وهذا من انصار الحسين (عليه السلام) "قد أسر ابنك في ثغر الري قال: عند الله احتسبه واحتسب نفسي ما كنت احب ان يُأسر ولا ان أبقى بعده فسمع قوله الحسين عليه السلام فقال رحمك الله انت في حل من بيعتي فاعمل في فكاك ابنك، قال: اكلتني السباع حيا ان فارقتك قال فأعط ابنك هذه الأثواب والبرود يستعين بها في فكاك أخيه فأعطاه خمسة أثواب قيمتها ألف دينار".
من هذه الروايات سننطلق للحديث عن المشهد الانساني في عاشوراء من اجل ان نستجلي هذا المشهد. الحسين ع في سيرته بكربلاء وفي مجمل الاحداث التي حصلت منذ ان خرج من المدينة الى مكة الى ان وصل إليها، والى ما بعد الشهادة، نجد ان هناك اهتماما بالبعد الإنساني، وهذا هو الدرس المهم في هذه الروايات التي ذكرناها.
إنسانية الحسين (ع)
في الروايات آنفة الذكر، يقدم الامام الحسين عليه السلام مسألة اداء الدين على نصرته ، نصرة الإمام المعصوم جهاد مقدس ، لكن الإمام الحسين ع يجعل اداء الدين مقدما على ذلك. وفي ذلك الموقف أب يُأسر ابنه مع ان المعركة مقدسة ومع ان الحسين ع في حاجة الى أنصار لكنه عليه السلام يبدي اهتماما بهذا البعد الانساني وتعاطفا مع هذا الاب الذي أسر ابنه، ويأذن له في الانصراف حتى يعمل لفكاك ابنه وحينما يصر الرجل على البقاء مع الحسين عليه السلام قدّم له المال الكافي واللازم حتى يعطيه لولده الاخر من اجل فكاك اسر اخيه.
وهذا مؤشر للبعد الانساني في ثورة الامام الحسين عليه السلام والذي يجب التركيز عليه، لأنه أصبح مغيّباً من فهم كثير من المتدينين ومن سلوك الكثير منهم، وأصبح سلوك كثير من المتدينين سلوكا جافا فيه، واهمال الانسان لهذا البعد فيه اهمالٌ لحقوق الانسان وللتعامل مع الاخرين تعاملا مناسبا.
احترام الحقوق
إن الامام الحسين عليه السلام ينطلق من الفهم الاصيل للدين الذي يتكون من بعدين: البعد الاول هو الايمان بالله وعبادته، أما البعد الثاني فهو الاهتمام بالناس ومراعاة حقوقهم ولا قيمة للبعد الاول اذا تجاهلنا البعد الثاني. لو ان انسانا كان مؤمنا بالله على المستوى العقدي وكان يقوم بالوظائف العبادية الشعائرية لكنه كان يسيء الى الناس ويتعدى على حقوق الاخرين كان جافا في تعامله مع عباد الله هل يمكن ان نعتبره متدينا حقيقيا؟ هل يمكن ان نعتبره قد التزم كما اراد الله؟ بالتأكيد كلا.
القرآن الكريم يذكرنا بالبعد الإنساني
والقران الكريم يتكلم بصراحة عن الشعائر الدينية واستقبال القبلة للصلاة وعلى أنه ليس هو الجانب الوحيد في الدين وانما هناك جوانب اخرى يقول الله تعالى: (لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ على حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا ۖ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ ۗ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ).البقرة 177.
فالآية تشير إلى البعد الإنساني بعد أن ذكرت اتجاه القبلة، وأكدت على البعد العقائدي الذي ينبثق عنه السلوك الإنساني.
وهذا البعد السلوكي يتمثل في الاهتمام بالضعفاء في صلة الاقرباء والارحام في حسن التعامل مع الناس هذا يعني ان الآية الكريمة تريد أن تقول لنا أن البر الحقيقي وأن الدين الحقيقي لا يتكامل الا بهذين البعدين: بعد الايمان بالله وبعد الاهتمام بعباد الله.
بل ان القران الكريم حينما يتحدث عن هدف رسالات الانبياء يؤكد على جانب التعامل بين الناس (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ۖ)الحديد 25. أي ليقوم الناس بالعدل فيما بينهم لا يعتدي أحد على أحد ولا يجور أحد على حقوق احد، هذا هو هدف الرسالات السماوية والكتب الإلهية، فمن لم يهتم بهذا الامر يكون قد ضيع الهدف من الرسالات والاديان الإلهية.
وورد في الحديث عن رسول الله نبينا محمد صلى الله عليه وآله ما يؤكد هذه المعادلة وأنها من طرفين متوازيين مرتبطين ببعضيهما، فعنه صلى الله عليه وآله "خصلتان ليس فوقهما من البر شيء الايمان بالله والنفع لعباد الله ،وخصلتان ليس فوقهما من الشر شيء الشرك بالله والضر بعباد الله". ميزان الحكمة - ج ٢ - الصفحة ١٤٢٣
الفهم الخاطئ للدين
لماذا بعض المتدينين يتجاهل حقوق الناس؟! ولماذا يفسر هذا التجاهل وهذا العدوان ويبرره تبريرا دينيا وهذه أفظع اساءة للدين، أفظع اساءة للدين ان يصبح الدين تبريرا للظلم ان يصبح تبريرا للاعتداء على حقوق الاخرين. بعض المتدينين حتى حقوق الأقربين لا يراعيها حقوق زوجته حقوق ابنائه حقوق جيرانه حقوق أرحامه ويسوغ ذلك بمسوغات دينية، يسيئ لزوجته ويضربها يعتدي عليها يقول ان الدين قد شرع من حق الزوج لإلزام الزوجة بأداء الحقوق الزوجية، ومن حقه ان يضربها، ويفهم هذه الأمور وغيرها فهما خطأً سيئا يضعها في غير مواضعها، فيمارس هذا السلوك وباسم الدين، وهذا يسبب ردة فعل تجاه الدين وهو افتراء على الدين وتنفير الناس منه.
وقد رأينا قمة هذا الجفاف والتشدد عند الحركات المتطرفة المتحجرة وكلنا رأى ما فعلته عصابات داعش والقاعدة وطالبان حينما سيطروا على بعض المناطق وعلى بعض القطاعات البشرية، ماذا فعلوا من تشدد كيف أبرزوا امام الناس وامام العالم وكأن الدين دين قسوة دين غلظة وجفاف، وأنه دين قمع وتعدٍ على حقوق الانسان حتى مع الاقرباء.
مع اننا حينما نقرأ النص الديني نجد التأكيد على مكانة الانسان وكرامته. الله تعالى يقول: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ) الاسراء 70.
لاحظوا بني آدم ولم يقل المؤمنين ولم يقل المسلمين، والعلماء حينما يفسرون هذه الآية الكريمة يشيرون الى هذه الملاحظة، وأن مقتضى آدمية الانسان تقتضي له التكريم، والايمان يعطيه مرتبة أكثر ومرتبة أكبر، والنصوص الدينية تؤكد على هذا الجانب الانساني وعلى اهمية الانسان.
النبي صلى الله عليه وآله يقول: "ما شيء أكرم على الله من ابن آدم" ما شيء أكرم على الله من ابن آدم، وحينما نتحدث عن تكريم الانسان ومكانته عند الله كانسان من هو الانسان؟ الانسان بدءاً من زوجتك وابنائك من عمالك الذين يشتغلون عندك في البيت.. الخدم.. السائق، من موظفيك من جيرانك، اي واحد من الناس في محيطك الاجتماعي البشري، وهذا مصداق للإنسان حينما تريد ان تتعامل معه تذكر قوله تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ...).
إن الدين مع اهتمامه بالعبادات ومنها الصلاة، والتي توصف بأنها عمود الدين، لكنها تقطع اذا كان لإنقاذ حياة انسان تعرض للخطر، بل أن واجبه الشرعي ان يقطع صلاته ويذهب لإنقاذه، وكذا بالنسبة للصوم، الام اذا كانت حاملا والصوم يضر بها او بجنينها او كانت مرضعة وكان الصوم يؤثر على قوة حليبها فإن الشرع يأمرها ان تترك الصيام، فلا يجب عليها الصوم في مثل هذه الحالة، وهكذا الحج وهكذا مختلف العبادات.
ورد في الرواية عن الامام محمد الباقر عليه السلام "لئن أعول اهل بيت من المسلمين اسد جوعتهم واكسو عورتهم واكف وجوههم عن الناس احب اليّ من ان احج حجة وحجة وحجة ومثلها حتى بلغ عشرا ومثلها يعني عشرين وثلاثين حتى بلغ السبعين". الكافي ج4.
وهذا يعني ان كفالة بيت محتاج كفالة عائلة محتاجة الامام يراها افضل من سبعين حجة، والنصوص في هذا الاطار كثيرة ومتنوعة، ومن هنا فإن التدين الحقيقي يلزم الانسان اولا ان يراعي حقوق الناس، الزوجة تراعي حقوق زوجها الزوجة التي تهتم بالصلاة بالدعاء بالاستماع في المآتم عليها ان لا تقصر في حقوق زوجها الزوج عليه ان لا يقصر في حقوق زوجته، والاب ان لا يقصر في حقوق أبنائه، والجار مع جاره – أي: ايذاء –.
وقد ورد في الحديث (اذل الناس من أذل الناس) لا تهن احدا لا تذل احدا، احترام حقوق الناس واحترام الناس هذا من صميم الدين.
*تقرير: السيد هيثم الحيدري، مراجعة وتدقيق: الشيخ قيصر الربيعي