البعد الاجتماعي في زيارة الأربعين

الشيخ ليث الكربلائي
زيارات:2820
مشاركة
A+ A A-

كل ظاهرة دينية يمكن دراستها بلحاظ البعد الإيماني العَقدي مرة وبلحاظ البعد العملي التقنيني أخرى وبلحاظ تاريخي تحليلي ثالثة فهذه الأبعاد الثلاثة هي الرائجة في دراسة الأديان والظواهر الدينية؛ ولكن لكل من الدين وظواهره أبعاد ولحاظات أخرى لابد من إشباعها بحثا وتنقيبا بشكل ينسجم مع واقعها وعمقها ومن هذه الأبعاد بل في مقدمتها الأبعاد الثقافية والاجتماعية والسياسية والنفسية … وغيرها

و زيارة أربعين الإمام الحسين عليه السلام باعتبارها ظاهرة دينية تكرارية – تتجدد في كل عام – لابد من دراستها بجميع أبعادها لأجل اقتطاف الثمرة المرجوة منها؛ لان السلوك دينيا كان أم غير ديني إذا لم يخضع للفكر سيكون عشوائيا ويذهب سدى دون فائدة تذكر لذا قيل: أصل السلوك فكرة

أضف إلى ذلك أن السلوك المستند إلى فكر رصين يكون المحرك والباعث عليه قناعة راسخة في ذهن الإنسان منشئها الفكر تولد التزاما وحرصا ودقة في مقام التطبيق

انطلاقا من ذلك سنسلط الضوء وبشكل مختصر على الأبعاد الاجتماعية لهذه الزيارة التي صارت بحق أكبر التجمعات الدينية في جميع أصقاع العالم وأكثرها تنوعا من حيث الانتماءات والقوميات إذ يمكن تلخيص تلك الأبعاد بعدة نقاط أهمها:

1- التلاقح الفكري:

إن التلاقح الفكري والتواصل المعرفي يعتبر احد أهم الركائز التي بنيت عليها الحضارات في شرق الأرض وغربها وسبب أساس في التعايش السلمي.

وزيارة الأربعين توفر فرصة لالتقاء شتى الحضارات الشرقية منها والغربية بما يكفل لكل زائر أو صاحب موكب أن يخرج بحصيلة معرفية ومبادئية متنوعة المصادر ففيها تجد الشرقي والغربي ومن شتى الأديان والمذاهب والاتجاهات الفكرية في حالة من التوائم والتعايش تكفل تحقيق هذه الثمرة إن تم رعايتها بالشكل المطلوب.

أضف إلى ذلك أنها تمثل نقطة تلاق بين الشيعة أنفسهم ومن شتى بقاع العالم وبين مبادئهم الإنسانية التي تم اختصارها بنقطة تدعى ” طف كربلاء ”

2- تكريس ثقافة العمل التطوعي:

إن فكرة العمل التطوعي قد أسهمت في بناء الكثير من الدول الحديثة وتقدمها فما أحوج بلداننا إلى تفعيل هذه الثقافة.

وزيارة الأربعين بما لها من خلفية دينية عاطفية فكرية تملك من المحركية والباعثية على العمل التطوعي قدرا يفوق كل الإمكانات المؤسساتية العالمية في هذا المجال فعلى مدى آلاف الكيلو مترات ومن جميع الاتجاهات المؤدية إلى كربلاء ولعدة أيام تجد الشيبة والشباب؛ الرجال والنساء في حركة متواصلة يبذلون جهودا جبارة وأموالا طائلة عن قناعة وإخلاص دون أدنى تذمر أو إحباط ودون أي أجر مادي دنيوي في قبال ما يبذلونه

3- تكريس ثقافة التكافل الاجتماعي:

إن التكافل الاجتماعي قيمة إنسانية قبل أن تكون مبدءا دينيا فالشارع المقدس قننها وارشد إليها ولكن لم يكن مؤسسا في تشريعها؛ كما ويعد هذا المبدأ من أهم المبادئ التي تضمن للإنسان حد الكفاف على اقل التقادير بما يمنحه حياة كريمة بعيدة عن الذل والامتهان لذا أتصور أنها أهم مبدأ تفتقر له مجتمعاتنا اليوم.

وزيارة الأربعين عندما تجمع بين العمل التطوعي من جهة والعطاء المادي والروحي اللامحدود ودون مقابل من جهة أخرى بذلك تبلغ ذروة التكافل التي لم تبلغها المؤسسات الدولية فضلا عن غيرها؛ إذ من أهم السمات التي يكتسبها الانسان في زيارة الاربعين هي سمة العطاء الذي يورث بدوره خصالا اخلاقية وانسانية كثيرة من قبيل الكرم والجود والايثار وتغييب البخل والانانية والحب المفرط للذات

4- القضاء على التمييز العنصري وتكريس ثقافة المساواة والتواضع والتذكير بالاخوة الانسانية عامة والاسلامية خاصة:

التمييز العنصري على اساس اللون والعرق والجنسية والانتماء الفكري والديني يعد من ابرز اللعنات التي اصابت المجتمع البشري بصورة عامة شرقا وغربا حتى ان الدول الحديثة رغم تسارع عجلة التقدم والتطور فيها ورغم ما شرعته من قوانين للحيلولة دون هذا التمييز لا زالت نشرات الاخبار تطل علينا بين الفينة والاخرى باحداث مروعة من عنف مادي ومعنوي فيها بسبب العنصرية رغم التكتم الاعلامي الشديد.

ولكن زيارة الاربعين بما تستمده من الامام الحسين عليه السلام من قيم دينية ومبادئ انسانية ورصيد فكري رصين تمكنت من اذابة جميع الفوارق العنصرية بين الحشود المليونية الزاحفة الى كربلاء اذ تجد فيهم شتى الجنسيات والقوميات والاديان والاتجاهات الفكرية كما تجد الاسود والابيض وقد تساوى الجميع في ( الملبس، المطعم، المجلس، المنام، الخدمة ….الخ) بل يسير بعضهم الى جنب بعض في اجواء مشحونة بالاخوة والمحبة ونسيان الذات وكأنهم تخلوا عن جميع الفوارق وانتزع الغل من قلوبهم بمجرد ان وضعوا اقدامهم على طريق كربلاء حتى يبلغ ذلك ذروته عندما تجد ان هذه القوميات والاعراق والالوان كل منها يفتخر بان يكون خادما للآخر بروح ملئها المحبة والعطاء.

5- تمنح الفرد الكثير من القيم الانسانية التي تساعد في بناء مجتمع متماسك وتمنحه القدرة على الصمود بوجه كثير من المزالق ومن هذه القيم ( ترسيخ الإيمان، الحرية، العالة، الصبر ….)

6- تذكير المجتمع بالمبادئ الحسينية الإنسانية.

7- تعد فسحة للتعبير عن عاطفة ممزوجة بالفكر والتعقل مما يثمر نضوجا في المنهج الإيماني والإنساني على حد سواء.

وأخيرا لا يخفى أن زيارة الأربعين تكتنز قيما ومبادئ اجتماعية أخرى وسواء التي ذكرتها أو التي لم اذكرها كل واحدة منها تتطلب بحثا مفصلا على حدة لا يسعه المقام.

مواضيع مختارة