من يطالع توصيات المرجعية الدينية العليا يلاحظ مدى اهتمام سماحة السيد السيستاني "دام ظله" بالجوانب التربوية والأخلاقية للزيارة المليونية ويعتبرها محطة سنوية لتربية النفس وتهذيبها، كما يركز على روحية العمل والإخلاص فيه إلى الله خلال زيارة أربعين الإمام الحسين (عليه السلام)، فقيمة العمل لا تأتي بكثرته ولا مدى اتساعه أو تسليط الأضواء عليه و انما يقترن بنيِّة من يقدم هذا العمل، فمن كان عمله خالصاً إلى الله سيضاعفه على قدر إخلاصه فيه ومن كان عمله للناس فسيكون أجره على الناس ولن يتقبله الله منه
القيمة الحقيقية للعمل
وقد صرّحت المرجعية الدينية في توجيهاتها بخصوص زيارة الأربعين قائلة: " الله الله في الإخلاص فإنّ قيمة عمل الإنسان وبركته بمقدار إخلاصه لله تعالى ، فإنّ الله لا يتقبّل إلاّ ما خَلُص له وسلم عن طلب غيره، وقد ورد عن النبي (ص) في هجرة المسلمين إلى المدينة أنّ من هاجر إلى الله ورسوله فهجرته إليه ومن هاجر إلى دنيا يصيبها كانت هجرته إليها"
وقد وردت آيات قرآنية مباركة تبين هذا المعنى ومنها قوله تعالى : {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ }المائدة27
ووفق هذا المنطق القرآني فإن الله سبحانه وتعالى لا يتقبل من غير المتقي فالتقوى مقدمة وشرط يضعه القرآن الكريم للتعامل مع الإنسان، فلا يمكن لمن لا يتقي الله في سلوكه أن يقدم بعض الاموال ليرضى الله عنه {إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ }العنكبوت6.
كما بيّنت التوجيهات المباركة : أن العمل الخالص لوجه الله " سيبقى مخلّداً مُباركاً في هذه الحياة وما بعدها"
كما تعتمد " مضاعفة أجر العاملين بحسب درجة الإخلاص فيه حتّى يبلغ سبعمائة ضعف والله يضاعف لمن يشاء" .
"فعلى الزوار الإكثار من ذكر الله في مسيرتهم وتحرّي الإخلاص في كل خطوة وعمل"
تنزيه الشعائر عن الشوائب غير اللائقة
أما الجانب الآخر الذي تضمنته التوصيات فيتعلق بشخص الزائر وقيافته فقد حثّت المرجعية الدينية على العفاف والتستر في نص يتأصل من عمق القرآن الكريم والسيرة العطرة لأهل البيت الكرام (صلوات الله وسلامه عليهم) بما نصه
" الله الله في الستر والحجاب فإنّه من أهمّ ما اعتنى به أهل البيت (عليهم السلام) حتّى في أشدّ الظروف قساوة في يوم كربلاء فكانوا المثل الأعلى في ذلك، ولم يتأذّوا (عليهم السلام) بشيء من فعال أعدائهم بمثل ما تأذّوا به من هتك حُرَمهم بين الناس،
" فعلى الزوار جميعاً ولا سيّما المؤمنات مراعاة مقتضيات العفاف في تصرفاتهم وملابسهم ومظاهرهم والتجنب عن أي شيء يخدش ذلك من قبيل الألبسة الضيّقة والإختلاطات المذمومة والزينة المنهيّ عنها،
بل ينبغي مراعاة أقصى المراتب الميسورة في كل ذلك تنزيهاً لهذه الشعيرة المقدّسة عن الشوائب غير اللائقة"
الحكمة من الزيارة
وقد أشارات التوجيهات الدينية المباركة إلى الحكمة من زيارة هذه المشاهد المباركة للأئمة الأطهار للتعرف على سيرة المعصومين والاقتداء بنهجهم القويم ويذكرهم بالله تعالى كما جاء في نص التوجيهات
" ليكون ذلك تذكرة للناس بالله تعالى وتعاليمه وأحكامه"
والاقتداء بصالح العباد حيث " انّ الله سبحانه وتعالى جعل من عباده أنبياء و أوصياء ليكونوا أسوة وقدوة للناس وحجّة عليهم فيهتدوا بتعاليمهم ويقتدوا بأفعالهم ، حيث انهم كانوا المثل الأعلى في طاعته سبحانه والجهاد في سبيله والتضحية لأجل دينه القويم "
كمن عاشوا معهم
وقد بينت التوجيهات أننا يمكن أن نكون كمن عاشوا مع الأئمة لأن مواقفهم وأخلاقياتهم محفوظة ونستطيع ان نقتدي بها ونتواصل مع مراقدهم كما نتواصل معهم بشكل مباشر فهم شهداء والله سبحانه وتعالى يقول : {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ }البقرة154
فهم أحياء بمبادئهم وأخلاقياتهم وسيرتهم التي نستطيع أن نتخذها منهجاً في حياتنا ونسير على خطاهم
وقد أوضحت هذه التوجيهات " إننا وإن لم ندرك محضر الأئمة من أهل البيت ( عليهم السلام ) لنتعلم منهم ونتربى على أيديهم إلاّ أنّ الله تعالى حفظ لنا تعاليمهم ومواقفهم"
" ليكونوا أمثالاً شاخصة لنا واختبر بذلك مدى صدقنا فيما نرجوه من الحضور معهم والإستجابة لتعاليمهم ومواعظهم ، كما اختبر الذين عاشوا معهم وحضروا عندهم ،
فلنحذر عن أن يكون رجاؤنا أمنية غير صادقة في حقيقتها ، ولنعلم أننا إذا كنّا كما أرادوه ( صلوات الله عليهم ) يرجى أن نحشر مع الذين شهدوا معهم،
فقد ورد عن أمير المؤمنين (ع) أنّه قال في حرب الجمل : أنه ( قد حضرنا قوم لم يزالوا في أصلاب الرجال وأرحام النساء )
فمن صدق في رجائه منّا لم يصعب عليه العمل بتعاليمهم والإقتداء بهم، فتزكّى بتزكيتهم وتأدب بآدابهم .
استذكار التضحية
ووفق هذه التوجيهات فإن من أولويات الزيارة الاربعينية هو استذكار تضحيات الإمام الحسين (عليه السلام) لنتعلم منها كيف يقف المجاهد وسط الميدان وإن تركه الناس وحيداً، مستمسكاً بكلمة الحق ومسافراً إلى الله تعالى، ومضحياً بكل ما يملك في سبيل عقيدته وإعلاء كلمة الحق ورفض الباطل وإن تجبّر وتفرعن الطغاة والفراعنة، وهذا من أهم الدروس التي تزودنا بها مدرسة كربلاء ولابد من استحضارها والتدبر فيها لتكون جزء من حياة كل فرد مسلم.
آداب الطريق
لا يخفى على كل متابع أن الطريق فيه الكثير من المتاعب التي لا يتعرض لها الانسان في كل يوم كونه يمشي لأيام وليالٍ طويلة مع الملايين من الناس من حوله، ولابد من التعرض لموقف هنا أو هناك فتشير المرجعية الدينية في توجيهاتها إلى "الاهتمام بمراعاة تعاليم الدين الحنيف " مثل " الإصلاح والعفو والحلم والأدب وحرمات الطريق وسائر المعاني الفاضلة"
خطوة في سبيل تربية النفس
وقد اعتبرت التوجيهات ان المشاركة في هذه الزيارات المليونية سواء بالزيارة او خدمة الزائرين هي محطة في سبيل تربية النفس على تحمل المصاعب وتهذيبها لخدمة الناس كون الخدمة قيمة مهمة في المنظومة الاسلامية كما بينت الأحاديث النبوية المباركة ومنها (أمرني ربّي بمداراة الناس، كما أمرني بأداء الفرائض)، حتّى يكون الزائرين في سيرهم وسيرتهم في زيارتهم هذه وما بقي من حياتهم مثلاً لغيرهم
استمرار الأثر التربوي
وقد حثّت هذه التوجيهات على أهمية أن تشيع هذه الروح التعاونية والمُحِبة للآخرين والخادمة لهم طوال العام، ولا تقتصر بأيام الزيارة المحدودة ، فتكون هذه الزيارة نشاط عملي يستمر أثره حتى موعد الزيارة المقبلة فتمثل هذه الزيارات محطّات امداد اخلاقي وتربوي للمجتمع والحضور فيها بمثابة الحضور في مجالس التعليم والتربية لدى الإمام المعصوم.
قرينة قبول الاعمال
كما أفردت هذه التوجيهات قسماً خاصاً بالحث على الإلتزام بالصلاة معبرة إياها شرطاً في قبول الاعمال و مذكرة بالأحاديث النبوية المشرفة ومواقف الامام الحسين عليه السلام في كربلاء جاء فيها:
" فالله الله في الصلاة فإنها (كما جاء في الحديث الشريف) عمود الدين ومعراج المؤمنين إن قُبِلت قُبِلَ ما سواها وإن رُدّت رُدَّ ما سواها، وينبغي الإلتزام بها في أول وقتها فإنّ أحبّ عباد الله تعالى إليه أسرعُهم استجابة للنداء إليها ، ولا ينبغي أن يتشاغل المؤمن عنها في اول وقتها بطاعةٍ أخرى فإنها أفضل الطاعات ، وقد ورد عنهم (ع) : ( لا تنال شفاعتنا مستخفّاً بالصلاة ).
" وقد جاء عن الإمام الحسين (ع) شدّة عنايته بالصلاة في يوم عاشوراء حتى إنّه قال لمن ذكرها في أول وقتها : (ذكرت الصلاة جعلك الله من المصلّين الذاكرين) فصلّى في ساحة القتال مع شدّة الرمي ."
دعوة خاتمة
وقد اختتمت التوجيهات للزائرين بالدعوة لهم بتقبل الأعمال بعد الدعاء للنبي وأهل بيته الكرام حيث ورد فيها :
" نسأل الله تعالى أن يزيد من رفعة مقام النبي المصطفى (ص) وأهل بيته الأطهار(ع) في الدنيا والآخرة بما ضحّوا في سبيله وجاهدوا بغية هداية خلقه ويضاعف صلاته عليهم كما صلّى على المصطفين من قبلهم لا سيما ابراهيم وآل ابراهيم ،
كما نسأله تعالى أن يبارك لزوار أبي عبد الله الحسين (ع) زيارتهم ويتقبلها بأفضل ما يتقبل به عمل عباده الصالحين حتّى يكونوا في سيرهم وسيرتهم في زيارتهم هذه وما بقي من حياتهم مثلاً لغيرهم
وأن يجزيهم عن أهل بيت نبيّهم (ع) خيراً لولائهم لهم واقتدائهم بسيرتهم وتبليغ رسالتهم عسى أن يُدعَوا بهم ( عليهم السلام ) في يوم القيامة حيث يدعى كل أناس بإمامهم
وأن يحشر الشهداء منهم في هذا السبيل مع الحسين (ع) وأصحابه بما بذلوه من نفوسهم وتحمّلوه من الظلم والاضطهاد لأجل ولائهم إنّه سميع مجيب .