النيرفانا كلمة ذات جذور هندية سنسكريتية بمعنى الوصول إلى حالة (الغبطة المستديمة) أو النشوة، وذلك بعد فترات طويلة يستغرقها الإنسان في التفكر والاستغراق في معرفة عمق الأشياء وكنهها وصولاً لمبتغاه من أجل الوصول إلى قيمته، وقد يتشظى المعنى إلى صفاء الروح بعد أن تتطهر بفعل مؤثرات تمنحها الانسجام والتصالح.
ولو أسقطنا مفهوم (النيرفانا) بهذه الأبعاد على مانشاهده من صور وتمثلات الزيارة المليونية الخاصة بأربعينية الإمام الحسين (ع)؛ لوجدنا أن المؤثرات الإيمانية التي تُسْقط على الملايين القاصدة لكربلاء تفعل فعلها النيرفاني في إيصال النشوة ببعدها الروحي إلى كل ما يتصل بمشاعر القاصدين، وكأنهم يعيشون طقس اغتسالٍ وتطهرٍ عبر هذه الخطى التي تمثل معراجاً روحياً. إن الشحن بطاقة النيرفانا يتخذ عند البوذيين مثلاً يلزم سلوكيات تتعلق بالعزلة والاختلاء بالنفس، وتقول الحكايات أنهم يتوارون في كهوف جبال التبت؛ من أجل الحصول على أوقات أكثر للتعبد والتأمل والتفكر.
بينما الأمر في (نيرفانا) الزيارة الأربعينية يتخذ شكلاً لا علاقة له بطقوس العزلة والاختلاء في الكهوف أو أماكن التأمل الأخرى، بل على العكس، تأخذ الفكرة بعداً جماعياً يصل إلى أكثر من عشرين مليون إنساناً من جنسيات وأعراق مختلفة. وقد تكون هذه الزيارة تأكيداً لأهمية السلوك الجماعي الذي يحقق الكثير من الأهداف سواء للفرد أو المجتمع، زارعاً في النفوس المعاني الجميلة، والقيم النبيلة، حتى مع الزمن الطويل نسبياً الذي تستغرقه هذه الزيارة من دون حدوث مشاكل، بينما تسطع صور السلوكيات الأخلاقية، والتكافل الاجتماعي، الأمر الذي يعطي قوة إضافية للمجتمع المتوحد ، وهذا ما يفسر ديمومة هذه الطاقة الإيجابية التي تترسخ سنة بعد سنة منذ قرون.
حالة من البناء الجماعي للإنسان تمتد عبر أكثر من أسبوعين سيراً على الأقدام تمنح تجديداً للمفاهيم، وشرحاً آخر لها يكاد يكون هو الشرح المؤكد، والذي لا تشوبه شائبة كأنه معراج روحي متحقق بأبعاده المتعلقة بفهم القضية ومؤثراتها التي تمنح هذه الطاقة الإيجابية، معززة بذهنية صافية مرتكزة على يقين لن يتزعزع، فضلاً عن سلوكيات اخلاقية تنسجم مع ذهنية الطاقة الروحية، الذهنية التي تؤكد أن هذه الملايين البشرية صارت عناصر مشحونة بكل احتياجات الروح السامية، فهي مجتمع مندمج روحياً وجسدياً بقيمة القضية وعمقها.
هذه الخطى المليونية تنتج علائق إنسانية هي في حقيقتها مزيج من العواطف والأفكار. والعلائق بين هاتين البنيتين تُنتج وتُكتشف طيلة الفترة الزمنية التي يتوقف الزمن إزاءها، مسترقاً السمعَ لنبض المسافة المنتعشة إيمانياً بتسابيح المؤمنين، واجتماعياً بتكافلهم ومساعدتهم لبعضهم البعض في كرنفال الأنسنة المتجدد. لقد أثبتت الزيارة الأربعينية ومازالت تثبت ان الانطلاق لتجديد خصوصية كربلاء يمر عبر قناة التصور العقلاني، والنظرة الواقعية للشعائر التي تمثل " تقوى القلوب " ؛ ذلك لأن الافرازات الاجتماعية لهذه الزيارة تقود إلى حالة وجدانية حضارية، فحين نعمد لتأصيل العلائق الإنسانية في هذه الزيارة لابد أن ننظر لهذه الإفرازات؛ لأن الصور التي نشاهدها خلال أيام المشي ليست خيالات تأملية، او مناهج تدريس تُدرّس لمرحلة عمرية محددة، إنما هي مشاهد تتجلى فيها الروح العاشقة المتذوقة لحلاوة اليقين. هي تجربة تنطلق من واقع مدرك، وفكرة متيقظة، وجذوة عشق لن تنطفئ بتأكيدات نبوية " إن لقتل ولدي الحسين حرارة في قلوب المؤمنين لن تنطفئ أبداً "، إذن، نحن إزاء حاضر فاعل في الوجدان الذي يُظَنُّ خطأ أنه وجدان سيفضي إلى الغياب.
ولكي تترسخ هذه الطاقة بأبعادها المتعددة، وأهمها البعد الإنساني الجماعي؛ لابد من تعزيز الاحتفاء بمسببها الأصلي، على أن يكون الابتعاد عابراً لمسميات العرق والدين، وهذا هو الذي تثبته الزيارة الأربعينية، متخذة من اشكال التعبير عنها مرتكزاً لتأصيل عالميتها، فهذه الحشود المليونية صار لها حضورٌ في اعمال الأدب المتنوعة، وكذلك في اللوحات الفنية، وربما نشاهد مستقبلاً معزوفات عالمية تتخذ من هذه الزيارة ومن الملايين الذين يحيونها عنواناً لافتاً وفريداً يعزز (النيرفانا) وطاقاتها المتوهجة عبر المبدعين وإنجازاتهم. وهذا ليس بالأمر الصعب، فمع كل موسم تتجدد فيه الزيارة الأربعينية؛ نجد أشياء مستحدثة؛ لذلك يمكن أن نرى في القادم من السنوات معارض للكتاب، أو ندوات تثقيفية وفكرية تُعرِّف بأبعاد هذه الزيارة مجتمعياً وثقافياً بل وحتى اقتصادياً.
*نقلاً عن النبأ