(إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى)
قال تعالى : (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى). (1)
كانت الدلائل على أنّ القرآن كلّه ـ بلفظه ونظمه ومحتواه جميعا ـ كلام ربّ العالمين ، وافرة وظافرة ، وقد تكفّل عرضها مباحث الإعجاز القرآني باستيفاء وإحكام. (2) كما وأصبحت سفاسف المعاكسين لذلك الاتّجاه الناصع هباء منثورا تذروه عواصف الرياح.
والآن ، فلنشهد تجوالهم الحديث في هذا الميدان الرهيب :
وليعلم أنّ عمدة مستند القول باستيحاء القرآن تعاليمه الدينية من زبر الأوّلين هو تواجد التوافق ـ نسبيّا ـ بين شريعة الإسلام وشرائع سالفة.
لكن هذا لا يجدي نفعا بعد اعترافنا بوحدة أصول الشرائع وأنّها جميعا مستقاة من عين واحدة : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ). (3)
هذا فضلا عن وجود التخالف الفاحش بين أكدار أحاطت بتلك الكتب على أثر التحريف ، وقداسة زاكية حظي بها القرآن الكريم ، ولا يزال مصونا في حراسته تعالى (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ). (٤)
هذا إجمال الكلام في ذلك ولنخض في تفصيل الحديث :كتب الكثير من الكتّاب المستشرقين عن نبيّ الإسلام والقرآن حسب أساليبهم في التحقيق عن سائر الأديان ، حيث لا يرون لها صلة بوحي السماء. فكان من الطبيعي في عرفهم أن يلتمسوا من هنا وهناك مصادر غذّت تلكم الشرائع في طول التأريخ.
وحتّى من تظاهر منهم بالمسيحيّة يعتنقونها شكليّا وليس عن صدق عقيدة.
غير أنّ المسيحية ـ ولو شكليّا ـ كانت من الدوافع الحافزة للبغي على الإسلام وللنظر إليه نظرة سوء. وهذا ما يسمّى بالاستشراق الديني الّذي قام به أبناء الفاتيكان ، كان أوّل روّاده من رجال الكنيسة وعلماء اللّاهوت حيث ظلّوا المشرفين على هذه الحركة والمسيّرين لها طوال القرنين الأخيرين. وكان الهدف من ذلك :
1 ـ الطعن في الإسلام وتشويه حقائقه.
2 ـ حماية النصارى من خطر الإسلام بالحيلولة بينهم وبين رؤية حقائقه الناصعة وآياته البيّنة اللّائحة.
3 ـ محاولة تنصير المسلمين ، ولا أقلّ من تضعيف العقيدة في نفوسهم أضف إلى ذلك دوافع استعماريّة : ثقافيّة وسياسيّة وتجاريّة تحول دون خلوص مهنة الاستشراق (استطلاع تاريخ الثقافة الشرقية بسلام) ومن ثمّ فقد أسيء بهم الظنّ في كثير ما يبدونه من نظر.
جاء في قصّة الحضارة : وكان في بلاد العرب كثيرون من المسيحيّين وكان منهم عدد قليل في مكّة ، وكان محمّد على صلة وثيقة بواحد منهم على الأقل هو ورقة بن نوفل ابن عمّ خديجة ، الذي كان مطّلعا على كتب اليهود والمسيحيّين المقدّسة. وكثيرا ما كان محمد يزور المدينة التى مات فيها والده عبد الله. ولعلّه قد التقى هناك ببعض اليهود وكانوا كثيرين فيها. وتدلّ كثير من آيات القرآن على اعجابه بأخلاق المسيحيّين ، وبما في دين اليهود من نزعة إلى التوحيد ، وبما عاد على المسيحية واليهودية من قوّة كبيرة لأنّ لكلتيهما كتابا مقدّسا تعتقد أنّه موحى من عند الله.
قال : ولعلّه قد بدا له أنّ ما يسود جزيرة العرب من شرك ، ومن عبادة للأوثان ، ومن فساد خلقي ، ومن حروب بين القبائل وتفكّك سياسي ، نقول : لعلّه قد بدا له أنّ حال بلاد العرب إذا قورنت بما تأمر به المسيحية واليهودية حال بدائية لا تشرف ساكنيها. ولهذا أحسّ بالحاجة إلى دين جديد. ولعلّه أحسّ بالحاجة إلى دين يؤلّف بين هذه الجماعات المتباغضة المتعادية ويخلق منها أمّة قوية سليمة ، دين يسموا بأخلاقهم عمّا ألفه البدو من شريعة العنف والانتقام ، ولكنّه قائم على أوامر منزلة لا ينازع فيها إنسان. ولعلّ هذه الأفكار نفسها قد طافت بعقل غيره من الناس. فنحن نسمع عن قيام عدد من المتنبّئين في بلاد العرب في بداية القرن السابع ، وقد تأثّر كثير من العرب بعقيدة المسيح المنتظر التى يؤمن بها اليهود. وكان هؤلاء أيضا ينتظرون بفارغ الصبر مجيء رسول من عند الله. وكانت في البلاد شيعة من العرب تدعى بالحنفيّة أبت أن تقرّ بالالوهية لأصنام الكعبة ، وقامت تنادي بإله واحد يجب أن يكون البشر جميعا عبيدا له وأن يعبدوه راضين (هم : ورقة بن نوفل ، وعبيد الله بن جحش ، وعثمان بن الحويرث ، وزيد بن عمرو بن نفيل). كانوا قد أيقنوا أنّ ما هم عليه من الوثنية ليس بشيء ، فتفرّقوا في البلاد يلتمسون الحنيفيّة دين إبراهيم عليهالسلام ...
وكان محمّد ـ كما كان كلّ داع ناجح في دعوته ـ الناطق بلسان أهل زمانه والمعبّر عن حاجاتهم وآمالهم ... (5)
ويقول الأسقف يوسف درّة الحدّاد : (6) استفاد القرآن من مصادر شتّى أهمّها الكتاب المقدّس ولا سيّما كتاب موسى ، وذلك بشهادة القرآن ذاته : (إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى. صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى). (7)
(أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى. أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى). (8)
(وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ. أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ). (9)
قال : فآية محمّد الأولى هي مطابقة قرآنه للكتب السابقة عليه. وآيته الثانية استشهاده بعلماء بني إسرائيل وشهادتهم له بصحّة هذه المطابقة. ولكن ما الصلة بين القرآن وكونه في زبر الأوّلين؟! هذا هو سرّ محمّد! فيكون من ثمّ أنّه نزل في زبر الأوّلين بلغة أعجميّة يجهلونها ، ثمّ وصل إلى محمّد بواسطة علماء بني إسرائيل ، فأنذر به محمّد بلسان عربيّ مبين.
فأصل القرآن منزل في زبر الأوّلين ، وهذا يوحي بصلة القرآن بمصدره الكتابي زبر الأوّلين ، أي صحفهم وكتبهم.
وأيضا فإنّ شهادة علماء أهل الكتاب بصحّة ما في القرآن لم تكن إلّا لأنّهم كانوا شركاء هذا الوحي المولود. ذلك لأنّ الوحي التنزيلي أمر شخصي لا يعرفه غير صاحبه فحسب.
والآية (وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا)(10) فيها صراحة بأنّه تتلمذ لدى كتاب موسى وجعله في قالب لسان العرب ، الأمر الذي يجعل من القرآن نسخة عربيّة مترجمة عن الكتاب الإمام.
(كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا). (11) التفصيل هنا يعنى النقل من الأصل الأعجمي إلى العربي. فالقرآن موحى ، والتفصيل العربي للكتاب منزّل ، لأنّ الأصل وحي منزّل ... (12)
وعلى هذا الغرار جرى كلّ من «تسدال» و «ماسيه» و «أندريه» و «لامنز» و «جولد تسيهر» و «نولديكه» (13) إلى أنّ القرآن استفاد كثيرا من زبر الأوّلين ، وحجّتهم في ذلك
محضر التشابه بين تعاليم القرآن وسائر الصحف. فالقصص والحكم في القرآن هي التي جاءت في كتب اليهود ، وكذا قضايا جاءت في الأناجيل وحتّى في تعاليم زرادشت والبرهمية في مثل حديث المعراج ونعيم الآخرة والجحيم والصراط والافتتاح بالبسملة والصلوات الخمس وأمثالها من طقوس عبادية ، وكذا مسألة شهادة كلّ نبيّ بالآتي بعده ، كلّها مأخوذة من كتب سالفة كانت معهودة لدى العرب.
زعموا أنّ القرآن صورة تلمودية وصلت إلى نبيّ الإسلام عن طريق علماء اليهود وسائر أهل الكتاب ممّن كانت لهم صلة قريبة بجزيرة العرب ، فكان محمّد صلىاللهعليهوآله يلتقي بهم قبل أن يعلن نبوّته ، ويأخذ منهم الكثير من اصول الشريعة.
يقول «ول ديورانت» : وجدير بالذكر أنّ الشريعة الإسلاميّة لها شبه بشريعة اليهود ... ثمّ جعل يسرد قضايا مشتركة بين القرآن والعهدين ويعدّ منها مسألة التوحيد والنبوّة والإيمان والإنابة ويوم الحساب والجنّة والنار ، زاعما أنّها من تأثير اليهوديّة على دين الإسلام. وكذا كلمة التوحيد (لا إله إلّا الله» مأخوذة من كلمة إسرائيلية : ألا فاسمع يا إسرائيل وحدك. والبسملة مأخوذة أيضا من تلمود. ولفظة «الرحمن» معرّبة من «رحمانا» العبريّة ... إلى غيرها من تعابير جاءت في الإسلام منحدرة عن أصل يهودي. الأمر الذي جعل البعض يتصوّر أنّ محمدا كان عارفا بمصادر يهودية وكانت هي مستقاه في تأليف القرآن ... (14)
شرائع إبراهيمية منحدرة عن أصل واحدنحن المسلمين نعتقد في الشرائع الإلهيّة أجمع أنّها منحدرة عن أصل واحد ومنبعثة من منهل عذب فارد ، تهدف جميعا إلى كلمة التوحيد وتوحيد الكلمة. والإخلاص في العمل الصالح والتحلّي بمكارم الأخلاق ، من غير اختلاف في الجذور ولا في الفروع المتصاعدة. (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ...). (15)
إذن ، فالدين واحد والشريعة واحدة والأحكام والتكاليف تهدف إلى غرض واحد وهو كمال الإنسان (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ). (16) يعني أنّ الدين كلّه ـ من آدم فإلى الخاتم ـ هو الإسلام أي التسليم لله والإخلاص في عبادته محضا.
(وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ). (17) الإسلام هو الدين الشامل ، فمن حاد عنه فقد حاد عن الجادّة الوسطى وضلّ الطريق في نهاية المسير. وهكذا تأدّب المسلمون بالإيمان بجميع الأنبياء من غير ما فارق. (قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ). (18)
وهذا منطق القرآن يدعو إلى كلمة التوحيد وتوحيد الكلمة ، وأن لا تفرقة بين الأديان ما دام التسليم لله ربّ العالمين ، وبذلك يكون الاهتداء والاتحاد ، وفي غيره الضلال والشقاق ، (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ). (19)
وفي ذلك ردّ وتشنيع بشأن اليهود والنصارى ، أولئك الذين يدعون إلى الحياد والانحياز (وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا). (20) أي قالت اليهود كونوا منحازين على اليهوديّة لا غيرها حتى تهتدوا!
وقالت النصارى كونوا حيادا على النصرانية لا غيرها حتى تهتدوا! والقرآن يردّ عليهم جميعا ويدعو إلى الالتفاف حول الحنيفية الإبراهيمية : (قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ). (21) (صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ). (22)
نعم ، صبغة الله شاملة وكافلة للإسعاد بالبشرية جمعاء ، الأمر الذي يعتنقه المسلمون أجمع ، والحمد لله.
وحدة المنشأ هو السبب للتوافق على المنهجوبعد ، فإنّ ائتلاف الأديان السماوية واتّحاد كلمتها لا بدّ أن يكون عن سبب معقول ، وهذا يحتمل أحد وجوه ثلاثة :
1 ـ إمّا لوحدة المنشأ ، حيث الجميع منبعث من أصل واحد ، فكان التشابه في الفروع المتصاعدة طبيعيّا.
2 ـ أو لأنّ البعض متّخذ من البعض فكان التشاكل نتيجة ذاك التبادل يدا بيد.
3 ـ أو جاء التماثل عن مصادفة اتفاقيّة وليس عن علّة حكيمة.
ولا شكّ أنّ الأخير مرفوض بعد مضادّة الصدفة مع الحكمة الساطية في عالم التدبير.
بقي الوجهان الأوّلان ، فلنتساءل القوم : ما بالهم تغافلوا عن الوجه الأوّل الرصين وتواكبوا جميعا على الوجه الهجين؟! إنّ هذا لشيء مريب!
هذا ، والشواهد متظافرة تدعم الشقّة الاولى لتهدم الاخرى من أساس :
أوّلا : صراحة القرآن نفسه بأنّه موحى إلى نبيّ الإسلام وحيا مباشريّا نزل عليه ليكون للعالمين نذيرا ، فكيف الاستشهاد بالقرآن لإثبات خلافه!؟ إن هذا إلّا تناقض في الفهم واجتهاد في مقابلة النصّ الصريح!
ثانيا : معارف فخيمة قدّمها القرآن إلى البشرية ، بحثا وراء فلسفة الوجود ومعرفة الإنسان ذاته ، لم يكد يدانيها أيّة فكرة عن الحياة كانت البشرية قد وصل إليها لحدّ ذاك العهد ، فكيف بالهزائل الممسوخة التي شحنت بها كتب العهدين؟!
ثالثا : تعاليم راقية عرضها القرآن لا تتجانس مع ضألة الأساطير المسطّرة في كتب العهدين ، وهل يكون ذاك الرفيع مستقى من هذا الوضيع؟!
إلى غيرها من دلائل سوف يوافيك تفصيلها.
القرآن يشهد بأنّه موحىوأمّا إن كنّا نستنطق القرآن فإنّه يشهد بكونه موحى إلى نبيّ الإسلام محمّد صلىاللهعليهوآله كما أوحى إلى النبيّين من قبله : (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً. رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً. لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً). (23)
(قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ). (24)
والآيات بهذا الشأن كثيرة ، ناطقة صريحا بكون القرآن موحى إلى نبيّ الإسلام وحيا مباشريّا لينذر قومه ومن بلغ كافّة.
أمّا أنّه صلىاللهعليهوآله تلقّاه (التقطه) من كتب السالفين وتعلّمه من علماء بني إسرائيل فهذا شيء غريب يأباه نسج القرآن الحكيم.
القرآن في زبر الأوّلينوأمّا ما تذرّع به صاحبنا الاسقف درّة فملامح الوهن عليه بادية بوضوح :
قوله تعالى : (إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى. صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى). (25)
هذا إشارة إلى نصائح تقدّمت الآية (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى. وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى. بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا. وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى). وذلك تأكيد على أنّ ما جاء به محمّد صلىاللهعليهوآله لم يكن بدعا ممّا جاء به سائر الرسل (قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ). (26) فليس الذي جاء به نبيّ الإسلام جديدا لا سابقة له في رسالات الله ، الأمر الذي يستدعيه طبيعة وحي السماء العامّ وفي كلّ الأدوار من آدم فإلى الخاتم. فإنّ شريعة الله واحدة لا يختلف بعضها عن بعض. فالإشارة راجعة إلى محتويات الكتاب توالى نزولها حسب توالي بعثة الأنبياء. فالنصائح والإرشادات تكرّرت مع تكرّر الأجيال. هذا ما تعنيه الآية لا ما زعمه صاحبنا الأسقف!
وهكذا قوله تعالى : (أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى). (27)
يعود الضمير إلى من وقف في وجه الدعوة مستهزئا بأن سوف يتحمّل آثام الآخرين إن لم يؤمنوا بهذا الحديث. فيردّ عليهم القرآن : ألم يبلغهم أنّ كلّ إنسان سوف يكافأ حسب عمله ولا تزر وازرة وزر اخرى؟ فإن لم يعيروا القرآن اهتماما فليعيروا اهتمامهم لما جاء في الصحف الأولى ، وهلّا بلغهم ذلك وقد شاع وذاع خبره منذ حين؟! وهكذا سائر الآيات تروم هذا المعنى لا غير!
(أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ)(28)
وآية اخرى على صدق الدعوة المحمّدية : أنّ الراسخين في العلم من أهل الكتاب يشهدون بصدقها ممّا عرفوا من الحقّ :
(لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ) (أي من أهل الكتاب) (وَالْمُؤْمِنُونَ) (أي من أهل الإسلام) (يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ). (29)
(وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ). (30) وهؤلاء هم القساوسة والرهبان الذين لا يستكبرون ، ومن ثمّ فهم خاضعون للحقّ أين وجدوه ، وبالفعل فقد وجدوه في حظيرة الإسلام.
(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ) (أيها الكافرون بالقرآن) (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ) (ممن آمن برسالة الإسلام) (عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ). (31)
الضمير في قوله «على مثله» يعود إلى القرآن. يعني أنّ من علماء بنى إسرائيل من يشهد بأنّ تعاليم القرآن تماما مثل تعاليم التوراة التي أنزلها الله على موسى ، ولذا آمن به لما قد لمس فيه من الحقّ المتطابق مع شريعة الله في الغابرين.
وكثير من علماء أهل الكتاب آمنوا بصدق رسالة الإسلام فور بلوغ الدعوة إليهم ، حيث وجدوا ضالّتهم المنشودة في القرآن فآمنوا به. فكانت شهادة عمليّة إلى جنب تصريحهم بذلك علنا على الملأ من بني إسرائيل.
وهذا هو معنى شهادة علماء بني إسرائيل بصدق الدعوة ، حيث وجدوها متطابقة مع معايير الحقّ الذي عندهم. لا ما حسبه صاحبنا الأسقف بعد أربعة عشر قرنا أنّه مقتبس من كتبهم ومتلقّى من أفواههم هم!! الأمر الذي لم يقله أولئك الأنجاب وقد أنصفوا الحقّ الصريح! (وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِ). (32) (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ). (33)
وهذه المعرفة ناشئة عن لمس الحقيقة في الدعوة ذاتها وفقا لمعايير وافتهم على أيدي الرسل من قبل. وقد لمسها أمثال صاحبنا الاسقف اليوم أيضا ولكن (جَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا)(3) كالذين من قبلهم (فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ)(34) ممّن حاول إخفاء الحقيقة ـ قديما وحديثا ـ فضلّوا وأضلّوا وما كانوا مهتدين.
مقتطف من كتاب: شبهات وردود حول القرآن الكريمالهوامش: __________________ (1) الأعلى 87 : 18 و 19. (2) النجم 53 : 36 ـ 38. (3) الشعراء 26 : 196 و 197. (4) الأحقاف 46 : 12. (5) فصّلت 41 : 3. (6) دروس قرآنيّة ليوسف درّة الحدّاد ، ج 2 ، ص 173 ـ 188 (القرآن والكتاب) بيئة القرآن الكتابيّة ، فصل 11 (هل للقرآن من مصادر؟) منشورات المكتبة البولسية ـ لبنان 1982 م. (7) آراء المستشرقين حول القرآن الكريم وتفسيره لعمر رضوان ، ج 1 ، صفحات 272 ـ 290 و 335. (8) النجم 53 : 4 ـ 12. (9) قد استوفينا البحث عنها في التمهيد ، ج 4 و 5 و 6. (10) آل عمران 3 : 64. (11)الحجر 15 : 9. (12) ول ديورانت : قصّة الحضارة ج 13 ، ص 23 و 24 ، ترجمتها العربية. (13) مارس رتبة الكهنوتية في الكنيسة اللبنانية عام 1939 م. ثمّ انقطع زهاء عشرين عاما يبحث عن شئون الإسلام والقرآن على اسلوبه الكهنوتي ، حاول التقارن والتقارب بين القرآن وكتب العهدين ليجعل الأخيرة منابع للقرآن ومصادره في كلّ ما ينسبه إلى وحي السماء. توفي سنة 1979 م. (14) تاريخ التمدّن (قصّة الحضارة) الفارسية ، لمؤلّفه ول ديورانت ، مجلّد 4 ، ص 236 ـ 238 ، عصر الإيمان ، الفصل التاسع وراجع قصّة الحضارة ، ج 13 ، ص 22 ، فيه إلمامة إلى ذلك. (15) الشورى 42 : 13. (16) آل عمران 3 : 19. (17) آل عمران 3 : 85. (18) البقرة 2 : 136. (19) البقرة 2 : 137. (20) البقرة 2 : 135. (21) البقرة 2 : 135. (22) البقرة 2 : 138. (23) النساء 4 : 163 ـ 166. (24) الأنعام 6 : 19. (25) الأعلى 87 : 18 و 19. (26) الأحقاف 46 : 9. (27) الأعلى 87 : 18 و 19. (28) النجم 53 : 36 ـ 38. (29) الشعراء 26 : 196 و 197. (30) الأحقاف 46 : 12. (31) فصّلت 41 : 3. (32) الأنعام 6 : 114. (33) الأنعام 6 : 20. (34) النمل 27 : 14.