فقد وقعنا نحن الشعراء الحسينيون في هذا المطب الشرعي مما أثار حفيظتنا، وأثر على انتاجنا الشعري في خدمة أهل البيت المطهرين.
الجواب من المرجع الكبير الراحل السيد محمد سعيد الحكيم (رض):إن إنشاء تلك القصائد وكتابتها وإنشادها من أفضل الأعمال وأجلها، فقد حثَّ الائمة (صلوات الله عليهم) على إنشاء الشعر وإنشاده فيهم (صلوات الله عليهم)، وأكدوا على ذلك، وذكروا له أجراً عظيماً وثواباً جزيلاً، يضيق المقام عن استقصائه.
وكأن الشبهة قد نشأت من توهم أن الشعر المذكور كذب محرم، لأنهم (عليهم السلام) لم ينطقوا بالكلام المذكور، فيكون كذباً عليهم. ولكن لا أساس لهذه الشبهة، لأن الكذب هو مخالفة الخبر المقصود بالكلام للواقع، بأن يقصد المتكلم الإخبار عن شيء لا واقع له، وهو غير حاصل في المقام، ضرورة أنه ليس من قصد الشاعر الإخبار عن الكلام الحقيقي، ليلزم الكذب بعدم تحققه.بل الإخبار عن لسان الحال تبعاً للصورة التخييلية التي يخترعها من أجل تركيز الحدث في نفس المستمع، وللإنسان أن يخترع ويتخيل ما شاء، وإذا قصد الحكاية عنه كان صادقاً، وعلى ذلك جرى الشعراء والبلغاء في جميع الفنون وبمختلف العصور، نظير قول شاعر أهل البيت السيد حيدر الحلي عن الحسين (عليه السلام) مخاطباً نفسه:
فقال لها اعتصمي بالإبا * فنفسُ الأبيّ وما زانها
وقوله عن أصحاب الحسين (عليه السلام) وثباتهم في الواقعة:
دكّوا رُباها ثم قالوا لها * وقد جَثوا نحن مكان الرُبى
وقول السيد جعفر الحلي عنهم:
ورجوا مذلتهم فقلن رماحهم * من دون ذلك أن تنال الأنجم
وغير ذلك من ما هو كثير جداً.
وقبل ذلك ما ورد في الشعر الذي روي أن الإمام الهادي (عليه السلام) أنشده في مجلس المتوكل العباسي:
باتوا على قلل الأجبال تحرسهم * غلب الرجال فلم تنفعهـم القلل إلى أن قال:
ناداهم صارخ من بعد ما رحلوا * أين الأسـرة والتيجان والحلل
أين الوجوه التي كانت منعمة * من دونها تضرب الأستار والكلل
فأفصح القبر عنهم حين ساءلهم * تلك الوجوه عليها الدود يقتتل(١)
وما ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في رثاء الصديقة سيدة النساء الزهراء (عليه السلام) من قوله:
ما لي وقفت على القبور مسلماً * قبر الحبيب فلم يردّ جوابي
أحبيـب مالك لا ترد جوابنـا * أنسـيت بعدي خلة الأحباب
قال الحبيب وكيف لي بجوابكم * وأنا رهـين جنادل وتراب(٢)
وقوله (عليه السلام) في خطبة عن الجنة: «لم تبرح عارضة نفسها على الأمم الماضين منكم والغابرين»(3)، مع وضوح أن الجنة لا تنطق ولا تعرض نفسها، وإنما حكى (عليه السلام) عن لسان الحال، تبعاً لما اخترعه من الصورة التخيلية.
ومثل ذلك قوله تعالى: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ)(4)، وقوله عز من قائل: (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ)(5). إذ من القريب جداً عدم كون المراد بذلك الحكاية عن الكلام الحقيقي بين الله تعالى والأرض والسماء وجهنم ، بل عن لسان الحال تبعاً للصورة المخترعة من أجل خدمة القضية المعروضة، وتركيزها في نفس المستمع. إلى غير ذلك من ما يضيق المقام عن استقصائه كثرة وشيوعاً.
وعلى ذلك لا أساس لهذه الشبهة، ولا مجال لاحتمال الحرمة، بل يتعين استحباب إنشاء الشعر وإنشاده فيهم (صلوات الله عليهم). وللشاعر أن يختار من أسلوب البيان ما يتسنى له، وأن يخترع من الصور التخييلية ما شاء من أجل تركيز القضية الشريفة المعروضة في نفس المستمع وخدمتها عاطفياً وولائياً.
ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقكم لخدمة مبادئ أهل البيت (صلوات الله عليهم)، وتركيزها في نفوس المؤمنين، وحملهم على الانشداد بهم ولائياً وعاطفياً، والتخلق بأخلاقهم، والدعوة للحق والخير بالحكمة والموعظة الحسنة.
•••••••••••••••••••••
الهوامش:
(1) البداية والنهاية: ١١/ ٢٠.
(2) بحار الأنوار: ٤٣/ ٢١٧.
(3) نهج البلاغة: ٢/ ١٣٤.
(4) سورة فصلت الآية:١١.
(5) سورة ق الآية: ٣٠.