وبمقابل الفكر الديني يوجد الفكر العلمي التحليلي الذي يمارس النقد المستمر للايدلوجية الغيبية السائدة على كافة المستويات. أنظر نقد الفكر الديني، صادق جلال العظم، ص 8.
وعليه فيكون الفكر الديني هو سبب تخلف الأمة لإضفائه القداسة على أفكار السلف وعدم سعيه للخروج منها، بخلاف الفكر العلمي الحر الذي لا يعترف بالمقدس، وهو جاد في سعيه نحو الحقيقة!!!
هل تقديس الأفكار مختص بالمتدين؟
ومن الواضح أن أصحاب هذه الدعوى جعلوا القداسة ـ خلافاً لمفهومها اللغوي والاصطلاحي ـ مرادفة للجمود الفكري، إلا أننا نستغرب أنهم عقلوها برأس المتدين دون غيره، مع ان ذلك شائعٌ بين جميع البشر يشمل المتديّن منهم والملحد، فالقداسة ليست وحدها المسؤولة عن السلوك البشريّ الذي يسارع نحو اليقينيّة، والقطعيّة، والجزميّة، والدوغماتيّة، فقد يكون الملحد واللا دينيّ دغمائيّ ومتحجّر لا يقبل مجرّد عرض أفكاره للنقاش، وقد يكون المتديّن أكثر انفتاحاً وقبولاً للآخر، فانظر لقوله تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (11) كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13) وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ)، الحجر: 10 ـ 15. وهل هناك تحجر وعناد أكثر من هذا؟!
بل إننا نجد محاولة بعض الملاحدة تحويل أفكارهم العلمانية الى دين بكل ما للمعنى من كلمة، فيتم تقديس الأفكار والشخوص بالنحو الموجود في سائر الأديان، أحد أبرز مفكري العصر الحديث في الفكر الجمهوري والعلماني، الفيلسوف والسياسي فينسنت بيون، وزير التربية الوطنية الأسبق، في كتابه "الثورة الفرنسية لم تنته" يكشف لنا بيون في الصفحة 149، عن حاجة الاشتراكية الماسة إلى دين جديد، كشرط أساسي لتحقيق ذاتها كفكر للمستقبل. دين جديد بعقيدة جديدة، ونظام جديد، وعبادة جديدة، يبشر بمجتمع جديد يحل محل القديم. ويتابع في الصفحة 162، ليرى في العلمانية نفسها الدين المنشود للجمهورية، الذي سعى إليه المفكرون منذ الثورة الفرنسية.
وفي كتاب آخر، "دين للجمهورية: الإيمان العلماني لفرديناند بويسون"، يكشف لنا كاتبه عن جوهر العلمانية، فيقول: «إنها ليست مجرد فصل الدين عن الدولة، بل هي ثورة على الدين نفسه، على مفهوم الله والمسيح، وعلى سلطة الكنيسة بكل أشكالها. إنها دعوة إلى دين إنساني».
في ذات السياق، وفي 18 يناير 2015، صرح كلود بارتولون، رئيس الجمعية الوطنية آنذاك، أمام لجان مثل: "Grand Jury RTL/LCI/Le Figaro" قائلاً: «انظروا إلى الوقت الذي استغرقته الديانة الكاثوليكية حتى تقتنع بفكرة أن هناك دينًا أسمى منها، هو: دين الجمهورية العلماني». هذا التصريح يسلط الضوء على فكرة أن الجمهورية الفرنسية تقدم نفسها كدينٍ بديل، دين يفرض قيمه ومبادئه على جميع المواطنين بغض النظر عن معتقداتهم الدينية الأصيلة.
وفي نفس السياق، أضاف بارتولون: «الجمهورية بحاجة إلى طقوس. الديمقراطية، باعتبارها دينًا حقيقيًا، تحتاج إلى طقوس لتعزيز مكانتها وقبولها». هذا يعكس رغبة الدولة في ترسيخ قيم الجمهورية من خلال طقوس ورموز تشبه الطقوس الدينية، بهدف تعزيز الولاء للدولة ومؤسساتها.
هذه التصريحات تذكرنا بتحليل مارسيل دي كورت الثاقب في كتابه "Itinéraires" عام 1963، حيث كتب: «إذا كانت الطبيعة الاجتماعية للإنسان لا يمكن أن تزدهر وتؤتي ثمارها إلا في نظام يدعم فيه كل من السلطتين الروحية والزمنية بعضهما البعض، مع الحفاظ على استقلالهما، فإنه يترتب على ذلك أن مجتمعًا علمانيًا بحتًا، يتوج بدولة لا تعترف علنًا أو ضمنيًا بتبعيتها لله، لا يمكن أن يوجد إلا من خلال الاستيلاء على كامل السلطة الروحية لنفسه وتحويل الأيديولوجية السياسية التي تحكمه إلى دين». راجع في الاقتباسات السابقة كتاب "الكتاب الأسود للإلحاد" لويس ميشيل بلان.
فالأمر إذن لا يختص بالمتدين، ومن باب أولى لا يختص بالدين، بل منشأه ـ كما سيتضح ـ حالة نفسية حاربها الدين بكل ما أوتي من قوة.
ما الذي يمنع الإنسان من تقبل النقد؟
فالقداسة بمعنى جعل بعض الأفكار خارج نطاق النقاش والخلاف وبالتالي يتبعها الجمود والانغلاق الفكريّ حالةٌ لها أسبابها النفسية الخاصة والتي سنحاول الوقوف عليها في هذه المقالة، وهذه الأسباب النفسيّة هي التي توظّف كلّ شيء بما فيه الدين؛ لتجعل الذات أكثر انغلاقاً على ذاتها، ومن هنا فإنّ البحث الجدّيّ هو الذي يحفر عميقاً في كوامن النفس الإنسانية ولا يكتفي بما يظهر على السطح.
فما هي تلك الأسباب التي تمنع الإنسان من تقبل النقد؟ وللإجابة عن ذلك لابد من التعرف على المحرّك الذي يحدّد توجّهات النفس الإنسانيّة، والذي هو حب الإنسان لنفسه، والذي عبر عنه القرآن الكريم بـ"هوى النفس" قال تعالى: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ)، الجاثية: 23. وللتوضيح أكثر نقول: إن النفس الإنسانية تتنازعها قوتان: العقل والعلم من جهة، والهوى والجهل من الأخرى، والعقل والعلم مرتبطان بالله تعالى، يهبهما من يشاء من عباده المؤمنين، بينما الجهل والهوى نابعان من ارتباط الإنسان بذاته وحبّه لنفسه، والحبّ من أكثر العوامل الضاغطة على الإنسان، فإذا كانت هناك قناعة تنسجم مع هوى النفس وميولها، سعت النفس حينئذ لتسخير كل طاقاتها من أجل إرضاء الذات، من ذلك تسخير الدين، فتضفي على الفكرة نحواً من القداسة أي بجعلها فوق طور النقاش والخلاف، كأنه أمر مفروغ منه.
إذن التقديس بهذا المعنى ناشئ من هوى النفس وحبها لذاتها، وليس من الدين، ولو صدر من المتدين، كما لو انتخب فكرة تنسجم مع ذاته وتحقق مصلحته.
وبعبارة أخرى، أن ميول الإنسان تتحدد وفق درجة إيمانه، فكلما كانت نفسه نقية من الرذائل، متحلية بالفضائل، مالت النفس للخيرات، ومثل هذا الإنسان تجده يحكم العقل والعلم في أفعاله، وأما من خَبُث سره، وتدنس باطنه بالرذائل تجده يميل للشر والموبقات، وهذا ما أكده القرآن الكريم بقوله تعالى: (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ)، الأعراف: 58.
ففعل الإنسان ينسجم مع حقيقة ذاته ونفسه، وبهذا الانتماء تصبح الفكرة جزءاً من الذات، فتراه يدافع عنها مستميتاً كونه يدافع عن نفسه، فالفكرة التي تنسجم مع ذاته أو تحقّق مصلحته تتحوّل بشكل طبيعيّ إلى أحد مكوّنات الذات والهويّة، وفي المقابل تجده يتعامل بشكل طبيعيّ أيضاً مع الأفكار المخالفة على أنّها مهدّدات حقيقيّة لهذه الذات؛ وذلك لأنّ الذات هي المحور وهي المعيار في قبول الأشياء ورفضها، فالإنسان بطبعه يحبّ المدح والإطراء وينفر من القدح والذمّ، وهو الأمر الذي يفسّر لنا حبّ الناس لسماع كلّ متحدّث يؤكّد قناعاتهم ونفورهم ممن ينقدها، فعندما تصبح الأفكار جزءاً من الذات فإنّ مدحها يكون مدحاً للذات وذمّها يكون ذمّاً للذات، وعندها لا يحتمل الإنسان أيّ نقد أو هجوم على تلك الأفكار ظنّاً منه أنّ ذلك نقدٌ وهجومٌ على ذاته، والإنسان بطبعه وغريزته مجبول على الدفاع عن ذاته، ولذلك يتعصّب لها ويستأسد في الدفاع عنها، ولا يمكن للإنسان قبول الفكرة المخالفة إلّا إذا تعامل مع الفكرة بوصفها شيء آخر منفصل عن ذاته، وهذه درجة من الوعي يفتقدها الكثير.
ومن صور حب الإنسان لذاته تقديسه لبعض الشخصيات، فتراه يدافع عنها حقاً وباطلاً، وليس ذلك إلا لما تقدم من أن هذه الشخصيات أصبحت جزءاً من هويته، فدفاعها عنها دفاعاً عن نفسه، وهذا ما نبّه عليه القرآن في كثير من الآيات مثل قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا﴾، الأحزاب: 67. وقال تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ﴾. البقرة: 170.
وهكذا لو تتبّعنا أسباب التعصّب والانحراف الفكريّ نجدها مرتبطة بهوى النفس، ومن هنا نفهم تركيز القرآن الكريم على الهوى بوصفه أهمّ عوامل الانحراف، قال تعالى: ﴿إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس﴾ النجم: 23. وقال: ﴿فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا﴾ النساء: 135. وقال: ﴿فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله﴾ ص/ 26. وقال: ﴿ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله﴾ القصص/ 50.
وبذلك نخلص إلى أنّ سبب الجمود الفكريّ وعدم قبول الآخر حالة نفسيّة وليست عقليّة، والنفس لها قدرة على توظيف كلّ شيء بما فيه الدين من أجل هواها، ومن هنا لا يمكن أن نُحَمِّلَ الدين المسؤوليّة إذا عملت النفس على توظيفه وتسخيره من أجل مصالحها وأغراضها الشخصيّة، وهذا ما صنعته الكنيسة في عصور الظلام في أوربا، إذْ سخّرت الدين من أجل مصالح الرهبان والقساوسة، وهو فعل مدان ولا علاقة له بالدين حتّى وإن وجد في وسط المسلمين، فالمقدّس عند المسلم هو الله تعالى بوصفه الكمال المطلق، وكلّ مخلوق يكتسب مقداراً من هذه القداسة بمقدار تقرّبه من الله وتقدّسه عن كلّ نقص وشين، فالقداسة عندنا طهارة وكمال، والذي يُسَخِّرُ الدين لمصلحته غارق في الدناسة.
وإذا نظرنا إلى القرآن الكريم وجدنا آياته تدور على نقطة مركزيّة تشكّل محوراً لجميع آياته، وهي الأمر الدائم بالعقل، والتعقّل، والتدبّر، والتفكّر، في مئات من الآيات؛ وهو ممّا يكشف عن دور العقل وأهمّيّته كونه محوراً لا تكتمل المعرفة الدينيّة إلّا به، ومن هنا أفتى الفقهاء بحرمة التقليد في العقائد والمعارف الدينيّة، فكلّ مكلّف يجب أن يحقّق الفهم والوعيّ بعقائده، وذلك لا يمكن أن يتحقّق إلّا بالحجّة والبرهان المؤيّد بالعقل.