من الاحتجاجات التي يطلقها الكثيرون اليوم، الاعتراض على ما قام به النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) ـ بعد انتصاره وهيمنته على مكة وعموم الجزيرة ـ من فرض الإسلام على المشركين وإلزامهم به ديناً وعقيدة وإلا فهو القتل, واعتبار ذلك تعدياً واضحاً على الحرية الفكرية علاوةً على الشخصية, ولوناً بيّناً من ألوان الاستبداد.. فالمشركون طائفة ذات عقيدة ولابد أن تحترم لما يفرضه الواقع الإنساني من ضرورة الالتزام بالتعددية واحترام العقائد المغايرة. فلا يجوز للنبي (صلى الله عليه وآله) إكراههم على اعتناق دينه فضلا عن تهديدهم بالقتل.
ويتلخص الرد على هذا الاعتراض في النقاط التالية:
إن عقيدة عبادة الأصنام تعبّر في واقعها الفعلي عن انحطاط هائل في العقل والوجدان الانسانيّين. وهي دافع وانعكاس في الوقت نفسه للواقع الاجتماعي المفزع الذي كان يعيشه سكان الجزيرة العربية من تقاتل وتناحر وقبلية وجهل وتخلف[1]. ولعل في كلام الصحابي الجليل جعفر بن أبي طالب (رضوان الله عليه) مع نجاشي الحبشة بياناً واضحاً عن ذلك الواقع "أيها الملك! كنا قوما أهل جاهلية نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، يأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك.."[2] وعليه فإن عملية الإصلاح لا يمكن أن تتم في المجتمع الجاهلي إلا بالقضاء على هذه العبادة التي تأخذ بعقل الإنسان إلى مهاوٍ سحيقة حيث يصنع الصنم من الطين بيده ثم يضعه عند باب الخيمة في المساء ليجده في الصباح وقد بالت عليه الكلاب فينظفه ويعكف على عبادته، وإلى الاعتقاد بقدرته في التحكم بمقادير هذا الكون الشاسع. وهذا ما يؤكده علم الاجتماع الحديث في تعليله للأديان الوثنية القائمة على أساس الطوطم والخرافة بأنها انعكاس لمجتمع متخلف ولابد في عملية الإصلاح من حركة تنويرية تقضي على هكذا عقائد.
ثم ألا ينطلق الخط الإلحادي الداعي لاجتثاث الدين من أن العقيدة الدينية تمثل الحاضنة الخصبة لنمو كل ما هو متخلف يعيق عملية الإصلاح والتنوير؟
لم يمثل سادة قريش مجموعة دينية كانت تمارس عقيدتها الدينية بمعزل عن مكونات المجتمع الأخرى وقد حملت لهذه المكونات الاحترام والرغبة في التعايش السلمي لتحظى بعد ذلك بحق الاحترام والتعددية. لقد كانوا، كما تؤكد كل المصادر التاريخية، طغمة دكتاتورية طاغية تجاهد في سبيل ترسيخ ودعم شريعة الغاب التي سادت المجتمع الجاهلي, وتعيش حالة لا توصف في كونها طبقة برجوازية تنكر على الأسود والضعيف والفقير كل حق في الحياة, وثورة النبي محمد (صلى الله عليه وآله) لا يمكن أن نسلب عنها صفة الثورة الشعبية التي أشعلها الشعب المقهور ضد السلطة الجائرة. وهذا مايؤكده جعفر بن أبي طالب (رضوان الله عليه) في كلامه مع النجاشي أيضا:
"حتى بعث الله عز وجل إلينا نبياً ورسولاً منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته
وعفافه. فدعانا إلى الله عز وجل لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا
من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم، والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم وقذف المحصنة، وأمرنا أن نعبد الله لا نشرك به شيئا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام والحج من استطاع إليه سبيلاً. فصدقناه، وآمنا به واتبعناه على ما جاء به، فعبدنا الله وحده، ولم نشرك به شيئاً، وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا. فعدا علينا قومنا، فعذبونا وفتنونا عن ديننا، ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله عز وجل، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث. فلما قهرونا وظلمونا وشقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلدك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك"[3].
والتاريخ مملوء بآلاف من هكذا ثورات لم يتأخر الثائرون فيها ـ عند انتصارهم ـ لحظة واحدة عن الاقتصاص من رموز الحكومة الجائرة وإنزال العقوبة فيهم. ولم يسجل التاريخ غير التأييد والانتصار لهؤلاء الثائرين وإن تجاوزوا في قصاصهم وانتقامهم حدود الإنسانية والحق والعدل. فلم يقل قائل في التاريخ كلمة واحدة عن الثورة البلشيفية التي قام الشيوعيون فيها ـ بعد انتصارهم ـ بقتل القيصر وعائلته بما فيها من أطفال في مشهد هو أشبه بحمام الدم, وما شهدته الثورة الفرنسية ـ التي يعدها العلمانيون وحملة هذا الخط المعارض للإسلام عروس الثورات ـ من مجازر عند انتصارها.
رغم هذا فقد سجل النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) عند انتصاره الساحق صورة لم يماثله فيها قائد على الأرض. لقد دخل مكة منتصراً وله من القوة العسكرية ما يمكّنه من جعلها أثراً بعد عين. ولكنه لم يهرق قطرة دم واحدة, ووقف قبالة أعضاء الحكومة المكية المستبدة التي نكلت به وبأصحابه وأذاقتهم ألوان العذاب لا لشئ إلا لأنهم اعتنقوا عقيدة مغايرة تحمل في ايدلوجيتها معاني الثورة ضد الطبقية والجور, وقف قبالتهم ليعفو ويجعل من كل ذلك الصراع المرير صفحة مطوية, شريطة أن يخرجوا من ضنك عالمهم المعتم الى أرجاء عالمه الفسيح والمتقوم بدعاوى الخير والإنسانية والعدل التي يعيش فيها الناس سواسية كأسنان المشط.
وقف على باب الكعبة ثم قال: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصره عبده، وهزم الأحزاب وحده. ألا كل مأثرة أو دم أو مال يدعى، فهو تحت قدمي هاتين، إلا سدانة البيت، وساقية الحاج. ألا وقتل الخطأ مثل العمد بالسوط والعصا، فيهما الدية مغلظة، منها أربعون خلف في بطونها أولادها. يا معشر قريش، إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية، وتعظمها بالآباء. الناس من آدم، وآدم خلق من تراب، ثم تلا (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)... يا معشر قريش (أو يأهل مكة) ما ترون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيراً، أخ كريم، وابن أخ كريم. قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء[4]."
إن الإلزام الذي يقيم بسببه العلمانيون الدنيا ويقعدونها لم يكن في حقيقته غير هذا الشرط الذي لم نجده عند قائد في التاريخ.
لنفرض ـ رغم كل هذا ـ أن لمشركي قريش حقاً في احترام عقيدتهم الدينية, ولكنهم تخلوا عن هذا الحق حين أعلنوا للنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) عن استعدادهم لنبذ آلهتم وكل ما يحملون من معتقدات. "سأل أبو شاكر أبا جعفر الأحول عن قول الله: ((قل يا أيها الكافرون. لا أعبد ما تعبدون. ولا أنتم عابدون ما أعبد. ولا أنا عابد ما عبدتم. ولا أنتم عابدون ما أعبد.)) فهل يتكلم الحكيم بمثل هذا القول، ويكرر مرة بعد مرة؟ فلم يكن عند أبي جعفر الأحول في ذلك جواب. فدخل المدينة فسأل أبا عبد الله (عليه السلام) عن ذلك فقال: كان سبب نزولها وتكرارها أن قريشاً قالت لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): تعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة، وتعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة. فأجابهم الله بمثل ما قالوا. فقال فيما قالوا: تعبد آلهتنا سنة ((قل يا أيها الكافرون. لا أعبد ما تعبدون.)) وفيما قالوا: نعبد إلهك سنة ((ولا أنتم عابدون ما أعبد.)) وفيما قالوا: تعبد آلهتنا سنة ((ولا أنا عابد ما عبدتم.)) وفيما قالوا: نعبد إلهك سنة: ((ولا أنتم عابدون ما أعبد. لكم دينكم ولي دين.))[5].
إن عقيدة الأصنام لا تحمل في مضامينها من الأبعاد الفلسفية ـ هذا إن صح اعتباره بعداً فلسفياً ـ سوى أنهم كانوا يعبدون الأصنام تقرباً إلى الله زلفى. وهنا تبطل العقيدة منطقياً ولايبقى لهم مبرر في التزامهم بها حين يأمرهم الله نفسه أن لا يتخذوا هذه الأحجار وسيلة تقربهم إليه بل يعبدوه وفق ما يبيّنه لهم رسوله إليهم
لاسيما بعد تسليمهم ببطلان عقيدتهم وعدم القدرة على مجارات ماكان يقدمه النبي محمد (صلى الله عليه وآله) في مناظراته معهم من حجة دامغة.
لم يكن القتلُ الخيارَ الوحيد المقابل للدخول في الإسلام. بل عرض النبي (صلى الله عليه وآله) خياراً آخر وهو الخروج من مكة. وهذا في حقيقته لا يعدو كونه حكماً بالنفي الذي تقره الكثير من القوانين الدولية والأعراف. كما أننا نجد أنه في كل الثورات التي سجلها التاريخ، حين يتحقق انتصارها، فإن مؤيدي العهد السابق يسارعون الى مغادرة البلاد لأن الثورة ستفرض أيدلوجيتها الجديدة ولا مكان لهم داخل إطارها.
إذن فالنبي (صلى الله عليه وآله) لم يمارس إرهاباً أو تعسفاً بل حقاً قانونياً طالما استخدم في المجتمعات الإنسانية.
===========
الهوامش:
[1] انظر سيد المرسلين ج1 ص43 ـ 96 والسيرة النبوية عصرماقبل الهجرة \ عباس زرياب خوئي
[2] سيرة بن هشام ج2 ص 337
[3] نفس المصدر
[4] تاريخ الطبري ج3 ص12
[5] تفسير الميزان ج20 ص 375