وُصِف بأنّه زعيم يضبطُ نبضَ العراق، وآخرون اعتبروه صمّام الأمان في البلاد والمنطقة، فيما اعتبره الحبر الأعظم للمسيحيين بأنّه "رجل الله الحكيم على الأرض".
أوصافٌ ومسمّيات كثيرة اتّسقت جميعها حول شخصية المرجع الديني الأعلى للطائفة الشيعية السيّد علي السيستاني المولود عام (1931) في مدينة مشهد الإيرانية، وتتحقّق في وصف واحد جامع وشامل "أمّةٌ في رجل"؛ وذلك نسبة إلى مواقفه التاريخية من العراق والشعوب الإنسانية المقهورة، والتي نتتبّعها عبرَ موقع (كلمة) الإخباري، منذ تغيير النظام في العراق والإطاحة بالديكتاتورية البعثية عام (2003) وحتى يومنا هذا.
ويمكن أن تنقسم هذه المواقف على ثلاث مراحل تاريخية، الأولى من (2003 – 2005)، وقد شهدت هذه الفترة تغييرات وتحدّيات كبيرة عاصرها السيد السيستاني وضبط نبضها وإيقاعها، من هناك حيث بيته الصغير في مدينة النجف التي يسكنها مجاوراً لمرقد الإمام علي (ع) منذ العام (1951).
أما الفترة الثانية فتمتد من (2006 – 2014)، وتعدّ الفترة الأصعب على العراق، حيث يمكن وصفها بالفترة المظلمة؛ جراء انتشار الجماعات الإرهابية، بدءاً من تنظيم القاعدة الإرهابي وصولاً إلى عصابات داعش الإرهابية، وما تخللت هذه الفترة من أعمال همجية كان يُراد منها إذكاء نار الطائفية في البلد، وخلق حرب أهلية لا تُبقي ولا تذر، ولولا حكمة السيد السيستاني لكان البلد في خبر كان.. كما يقول المراقبون للشأن العراقي.
أما المرحلة الثالثة فتمتد من (2017) وهو عام الانتصار على عصابات داعش والقضاء على فلولها الإرهابية وصولاً إلى عامنا الحالي، وهذه الفترة هي الأخرى مليئة بالتحديات وكذلك المواقف التاريخية المهمة التي لم يغب عنها ذكرُ هذا الرجل الاستثنائيّ.
2003.. ما قبلها وما بعدها
يمثل عام (2003) بالنسبة للعراقيين، العام الأبرز في حياتهم، حيث شهدوا بأنفسهم تكسّر أصنام الديكتاتور البعثي صدام حسين الذي حكم البلدَ لأكثر من ثلاثة عقود، وأدخله وشعبه في أتون حروب تُوصف عادةً بالعبثية و"الجنونية" أيضاً.
ولكنّ السيد السيستاني هذا المرجع الديني الذي تولّى زعامة الحوزة الدينية بعد رحيل أستاذه السيد أبو القاسم الخوئي، كانت له مواقف تسبق هذا العام، وعاصرَ كل هذه الأحداث التي مرّت على الشعب العراقيّ، كما وتعرّض للاعتقال من قبل أجهزة القمع الأمنية التابعة للنظام البعثي المباد.
وكان ظهور السيد السيستاني بقوّةٍ على الساحة العراقية إبان فترة حكم صدام حسين وحزب البعث العربي الاشتراكي، وكان له ثقله الديني والثقافي المؤثّر على الناس، وظهر ذلك أكثر للعالم كله وليس فقط للعراق والمنطقة ما بعد عام سقوط الصنم.
ووفقاً لمدير قسم دراسات الشرق الأوسط في ألمانيا (إيكارد فورتس) فإنّ "السيد السيستاني لم يتدخل في الشأن السياسي ولم يكن يبحث عنه إطلاقاً، خصوصاً وأنه مولود في أسرة شيعية تقليدية ومحافظة تبتعد عن النشاط السياسي".
ولا يعني ذلك أنّه كان بعيداً عن هموم العراقيين، ولكن الظروف لم تكن مؤاتية كما يقول فورتس "في ظل حكم ديكتاتوري وقمعي أقدم على قتل الآلاف من العراقيين ومن بينهم طلبة وأساتذة الحوزة العلمية في النجف"، كما وملأ بهم المقابر الجماعية المنتشرة على طول أرض العراق.
ويُظهر مثل هذا الدور المقتصر فقط على متابعة شؤون طلبة الحوزة العلمية وتثقيف الناس بعقائدهم الدينية، حكمةً وهدوءاً عُرف بهما السيّد السيستاني طوال حياته.
إلا أنّ احتلال العراق من قبل الولايات المتحدة الأمريكية وسقوط الحكم البعثي الديكتاتوري، جعل من السيد السيستاني أن يكون أكثر حزماً ويشرع إلى تشخيص المصلحة السياسية للعراقيين، ومنذ تلك اللحظة ظهرت للعالم شخصية شيعية بارزة تذكّرهم بعلماء شيعة كبار سابقين كانت لهم مواقفهم المشرّفة من الاستعمار الغربي.
وبعد محاولة سلطة التحالف المؤقتة التي شكّلتها الولايات المتحدة الأمريكية في العراق بقيادة الحاكم الأمريكي بول بريمي، إلى فرض هيمنتها على البلد، وتنفيذ خططها التي جاءت بها بعد احتلالها للعراق، جاء موقف المرجع السيستاني بالضد من هذه المحاولات، وذلك منعاً لصياغة حكومة ودستور غريب عن العراق ولا يلبي طموحاتهم، بل وقد يتحوّل إلى قيد في أيديهم لا يُكسر إلى الأبد.
وفي (يونيو/ حزيران 2003) أصدر المرجع السيستاني فتوىً تنصُّ على أن واضعي دستور العراق لابد وأن يتم انتخابهم، وليس تعيينهم، من قِبَل المسؤولين الأميركيين وأعضاء مجلس الحكم العراقي.
كما أصدر في (نوفمبر/ تشرين الثاني 2003) قالَ فيه إنّ "الانتخابات ـ وليس نظام الكتل الإقليمية الذي تصوره سلطات التحالف بقيادة الولايات المتحدة ـ هي الطريقة الصحيحة لاختيار الحكومة العراقية". حيث أكّد على ضرورة الاحتكام لصناديق الاقتراع للانتخابات النيابية التي تقام لأول مرّة بعد سقوط نظام صدام حسين.
وقد أدى هذا التشجيع والإرشاد من قبل المرجع السيستاني إلى إقامة مثل هكذا حدث ديمقراطي شامل على مستوى العراق، ووصلت نسبة المشاركة في المناطق الشيعية وحدهاً أكثر من (70 في المائة). وحينذاك صرّح الحاكم المدني ورئيس سلطة الائتلاف الحاكم المؤقت بول بريمر: إنّ " السيد السيستاني شجع أتباعه على الانخراط في العملية السياسية عقب عام 2003".
كما دعا السيد السيستاني إلى تشكيل جمعية انتقالية للتصديق على دستور مؤقت صاغه مجلس الحكم العراقي وتحديد الشروط التي بموجبها ستبقى القوات الأميركية وقوات الحلفاء في العراق بعد تسليم السيادة في الثامن والعشرين من يونيو/حزيران. وقد تم استيعاب كل آراء السيستاني.
ويعتبر مراقبون للشأن العراقي بأنّ "موقف السيد السيستاني في تلك اللحظات الحرجة ما بعد (2003) صاغها سماحته من خلال نظرية خاصة، جعلت منه قطب بناء الدولة الأكثر ثقةً لدى العامة من الناس، والتوصيات التي خرجت منه كانت مسار عمل".
وفي وصف أدق أُطلق البعضُ على هذه النظرية باسم (نظرية أبناء الأمّة) التي دعت العراقيين إلى تشكيل نظامهم السياسي وفق إرادتهم، عبر دستور ونظام تعدد برلماني، ومشاركة في الانتخابات. وبذلك اتخذت هذه النظرية مساراً مختلفاً عن باقي النظريات السابقة لمراجع الدين الشيعة.
وفي تقرير موسّع كتبه معهد (كلوبال)، أشار إلى أنّ "العراقيين ما بعد (2003) واجهوا موقفاً صعباً للغاية في ظل الغزو الأمريكي، ثم تخلّت بعدها سلطة التحالف المؤقتة عن خططها لعقد انتخابات وفشلت فشلاً ذريعاً في حماية المدنيين، كما عمدت إلى إفراغ البلد من طاقاته وخبرائه وموظّفيه وتحويلهم إلى أشخاص عاطلين عن العمل".
وتابع بأن "الزعيم الديني الشيعي المعتدل آية الله السيستاني حشّد الآلاف من العراقيين للخروج في احتجاجات منظمة ومؤيّدة للديمقراطية، وحثهم على إجراء انتخابات حرة قبل صياغة دستور جديد للبلاد".
وتماشياً للمادة (21) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، أكد العراقيون المحتجّون بأن لهم الحق في المشاركة في تشكيل حكومة بلدهم، وأنهم لن يسمحوا بتشكيلها من قبل جهات خارجية تحت أي مسميات كانت".
وأشار إلى أن "الزعيم الديني السيد علي السيستاني فضّل إقامة دولة إسلامية ديمقراطية، تحترم حرية الدين والحريات المدنية والحقوق المشروعة للمواطنين، كما شجّعت النساء على التصويت والمشاركة".
وفي استفتاء وُجّه له، جاء فيه أن سلطات الاحتلال في العراق قررت تشكيل مجلس لكتابة الدستور العراقي الجديد، وأنها ستعين أعضاء هذا المجلس بالمشاورة مع الجهات السياسية والاجتماعية في البلد ، ثم تطرح الدستور الذي يقرّه المجلس للتصويت عليه في استفتاء شعبي عام.
فما كان من السيد السيستاني إلا أستنكر مثل هذا التدخّل وقال في بيان له: إنّ "تلك السلطات لا تتمتع بأية صلاحية في تعيين أعضاء مجلس كتابة الدستور ، كما لا ضمان ان يضع هذا المجلس دستوراً يطابق المصالح العليا للشعب العراقي ويعبّر عن هويته الوطنية التي من ركائزها الأساس الدين الإسلامي الحنيف والقيم الاجتماعية النبيلة"، فالمشروع المذكور كما رأى السيد السيستاني "غير مقبول من أساسه، ولابدّ أولاً من إجراء انتخابات عامة لكي يختار كل عراقي مؤهل للانتخاب من يمثّله في مجلس تأسيسي لكتابة الدستور، ثم يجرى التصويت العام على الدستور الذي يقرّه هذا المجلس".
وحينذاك وجه آية الله السيستاني "المؤمنين كافة إلى المطالبة بتحقيق هذا الأمر المهم والمساهمة في إنجازه على أحسن وجه".
وكتب السيد السيستاني بأنه "يجب أن تكون هناك انتخابات عامة؛ حيث يمكن لكل عراقي مؤهّل اختيار ممثله في الجمعية التأسيسية لكتابة الدستور".
ويعتبر استخدام السيد السيستاني لعبارة "سلطة الاحتلال" أو "سلطات الاحتلال" البارزةَ والأولى على مستوى العراق، وكانت هذه التسميات بحسب الباحثة (كارولين مرجي صايغ) في كتابها (المرجعية الدينية ـ الموقف الوطني في العراق بعد 2003): "لم تكن حكماً من السيد السيستاني؛ بل مصطلحات استعملها مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة، والحاكم الأمريكي بريمير نفسه".
وأعلن حينها أن الأمم المتحدة يجب أن تشرف على الانتخابات السياسية في العراق؛ لضمان الشرعية الديمقراطية لأي هيئة حاكمة منتخبة، ورفض بذلك خطط الأمريكيين وكذلك استخدام العنف لتحقيق الأجندات الغربية.
وبذلك احتلّت المنظمة الأممية مكانة بارزة في خطاباته، إذ كان يوضّح أن أهمية الأمم المتحدة كانت "محورية في إرساء الأمن والاستقرار في العراق إبان المرحلة الانتقالية.
وعندما سُئل السيّد السيستاني عن الجدول الزمني لانسحاب الولايات المتحدة، كان يجيب بأنه "لا يوجد سبب معقول بادئ ذي بدء يدعو للوجود الأمريكي" وبذلك لم يمنح أي شرعية للبقاء مدّة أطول، كما أشارت إلى ذلك الباحثة كارولين صايغ.
ويظهر اهتمام السيد السيستاني بأدوار منظمة الأمم المتحدة ودعوته المستمرة لإرساء ثقافة التعايش السلمي في العراق والمنطقة، من خلال التصريحات والبيانات الصادرة عن المنظمة ذاتها، واعتبرته بأنه رجل سلام.
وفي كانون الأول (2004)، دعا السيد السيستاني إلى احتجاجات حاشدة بعد رفض الحاكم الأمريكي بول بريمر إجراء الانتخابات العامة بحجّة عدم وجود وقت كافٍ لها، وشهدت أغلب المحافظات العراقية مشاركة مئات الآلاف من المواطنين المحتجّين، الذينَ استجابوا إلى نداء المرجعية، وقد جرى تغطية هذه التظاهرات من قبل وسائل إعلام عديدة بينها قناة الجزيرة الفضائية.
تقول الباحثة في المعهد العلمي للشرق الأوسط في كلية (كونتيتك) البريطانية (كارولين مرجي صايغ) في مقال لها ترجمه (كلمة): إنّ "الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 غيّر بُنية الدولة العراقية. فبعد أن كانت جمهورية رئاسية في الاسم، ودكتاتورية في الممارسة العملية، أُعيد تشكيل الدولة كديمقراطية برلمانية".
وتابعت بأنّ "المرجع السيستاني قد برز خلال هذه الفترة المهمة في من تاريخ العراق، فقد تصدى للخطاب الطائفي بشكل مباشر، ورفض اعتباره تفسيراً للتاريخ العراقي، كما استنكر مخاطره على حاضر العراق ومستقبله".
وترى صايغ بأنّ "الظروف الصعبة ما بعد (2003) حوّلت آية الله السيستاني ـ غير السياسي ـ إلى أبرز الفاعلين على الساحة، وكان له تفكيره الاستراتيجي الواضح من كل ما يجري في البلد والمنطقة".
وأشارت إلى أن "السيد السيستاني كان يتدخل في اللحظات الصعبة والحرجة التي تمر على العراقيين؛ من أجل وضع البلد على المسار الصحيح".
ولم يتكلّم المرجع السيستاني باسم الطائفة الشيعية في العراق فحسب، وإنما أكّد على ضرورة مشاركة جميع العراقيين من الشمال إلى الجنوب ومن مختلف المكوّنات والطوائف والقوميات في رسم مستقبل البلد، إلى الحدّ الذي دافع فيه طويلاً عن أتباع المذهب السنّي ووصفهم بـ "أنفسنا"، كما دعا مراراً وتكراراً إلى حماية المسيحيين والإيزيديين وبقية الطوائف العراقية الأخرى، ويظهر مثل هذا الموقف التاريخي في السنوات التالية، وخصوصاً بعد احتلال عصابات داعش لثلثي العراق.
كما يشخّص الباحث (شارون أوتيرمان) أدوارَ المرجع السيستاني ما بعد (2003)، في التدخل العاجل لإنهاء المواجهة الدموية التي استمرت ثلاثة أسابيع بين جيش المهدي التابع لزعيم التيار الصدري مقتدى الصدر والقوات العسكرية الأمريكية، ونجح بذلك بعد فشل جهود رئيس الوزراء آنذاك أياد علاوي والحكومة العراقية المؤقتة وغيرهم.
ويقول أوتيرمان عن شخصية المرجع السيستاني: إنه "رجل محترم في العراق ولدى ملايين الشيعة من حول العالم، الذين يلجؤون إليه للإرشاد والتوجيه فيما يتصل بكيفية عيش حياتهم وفقاً للشريعة الإسلامية".
وتابع بأن "السيّد السيستاني أثبت من خلال مواقفه أنه شخصية بالغة الأهمية على الساحة السياسية الوطنية".
ومن المواقف التي لخّصها أوتيرمان خلال فترة الاقتتال بين جيش المهدي والقوات الأمريكية، والتي صاغَ السيد السيستاني خلالها خطّته للسلام تمثلت بــ:
أولاً/ إعلان النجف والكوفة مدينتين خاليتين من الأسلحة.
ثانياً/ انسحاب جميع القوات الأجنبية من النجف.
ثالثاً/ تكليف الشرطة العراقية بمسؤولية الأمن.
رابعاً/ تعويض الحكومة العراقية المؤقتة عن المتضررين من القتال.
رابعاً: الدعوة إلى إجراء إحصاء سكاني استعداداً للانتخابات الوطنية المقرر إجراؤها في يناير/كانون الثاني.
وبعد انتهاء هذه المرحلة، ومن ثم نجاح صياغة دستور عراقي جديد لأوّل مرّة من قبل عراقيين وبعيداً عن التدخلات الخارجية، التي أرادت مسبقاً أن تملي عليهم ما تريده وفقاً لأجنداتها.
(2006 – 2014) الفترة المظلمة
كانت المرحلة الجديدة والصعبة التي مرّ بها العراق، تتمثّل بظهور الجماعات المسلّحة والحرب الطائفية التي أضرت كثيراً بالشعب العراقي، وأصبح المدنيون الأبرياء أهدافاً يومية للهجمات الإرهابية.
وجرى في هذه الفترة الترويج للحركة السلفية الإرهابية، بدءاً من معركة الفلوجة عام (2004) وظهور تنظيم القاعدة في العراق، الذي كان يتبنّى فكرة محاربة القوات الأمريكية المحتلّة للبلد؛ في حين كانت هجماتهُ تستهدف بالدرجة الأولى الأبرياء من الشيعة في مختلف المناطق العراقية وخصوصاً في العاصمة بغداد والذين يختلفون في العقيدة مع متبنيات حركة القاعدة السلفية المتطرّفة، واستمر هذا الأمر حتى العام (2008).
وقد شهد العراق حدثاً إرهابياً وطائفياً كارثياً، تمثّل بالاعتداء على مرقد الإمامين العسكريين (ع) في مدينة سامراء بمحافظة صلاح الدين، وذلك في العام (2006)، وكان لمثل هذا الحدث أن يتحوّل إلى حرب طائفية على مستوى البلاد بين أتباع الطائفتين المسلمتين الشيعية والسنية، وهذا ما أشّره المرجع السيستاني وحذّر منه.
وفي بيان صدر عن مكتبه في مدينة النجف بتاريخ (21 شباط 2006)، أدان المرجع السيستاني الفعلة التي أقدمت عليها الأيادي الآثمة، وارتكاب جريمة وصفها بأنها "مخزية وما أبشعها وأفظعها".
وقال بيان المرجعية: إن "الكلمات قاصرة عن إدانة هذه الجريمة النكراء التي قصد التكفيريون من ورائها إيقاع الفتنة بين أبناء الشعب العراقي؛ ليتيح لهم ذلك الوصول إلى أهدافهم الخبيثة".
وشدّد البيان بأن "الحكومة العراقية مدعوة اليوم أكثر من أيّ وقت مضى إلى تحمّل مسؤولياتها الكاملة في وقف مسلسل الأعمال الإجرامية التي تستهدف الأماكن المقدسة، وإذا كانت أجهزتها الأمنية عاجزة عن تأمين الحماية اللازمة فإن المؤمنين قادرون على ذلك بعون الله تبارك وتعالى".
وفي الوقت الذي دعا فيه المؤمنين إلى التعبير عن آلامهم لهذه الجريمة وإدانة انتهاك الحرمات واستباحة المقدّسات بالأساليب السلمية، أكد بأن "لا يبلغ بالمؤمنين مبلغاً يجرّهم إلى اتخاذ ما يؤدي إلى ما يريده الأعداء من فتنة طائفية" حسب قوله.
ولم يرق مثل هذا الموقف من المرجعية الدينية أصحاب الأجندات السياسية الخارجية، فعمدوا إلى تقديم أكثر للجماعات المسلّحة والعصابات الإرهابية، التي حصدت أرواح مئات الآلاف من العراقيين، وإرباك العملية السياسية؛ بهدف إدخال البلد إلى أتون حرب داخلية، ولكنّ السلطة الروحية والحكمة الإلهية للمرجع السيستاني وسياسته الحاذقة، وقفت بوجه مثل هذه المخططات، وتكسرت أمامها أمواج المؤامرات.
السيستاني: أنا خادم لجميع العراقيين
وفي ظل هذه الأجواء المشحونة وتصاعد الطائفية التي تذكيها الأجندات الخارجية، خرجت من المرجع السيستاني كلمات وُصفت بـ "الدرس الكبير لكل العراقيي".
ففي لقاء لسماحته في (تشرين الثاني من عام 2007) مع وفد من علماء السنّة في العراق بينهم رئيس جامعة علماء المسلمين الشيخ خالد الملا، دعا المرجع السيستاني المسلمين السنة والشيعة في العراق إلى الوحدة الكاملة، طالباً من الشيعة الدفاع عن السنة قبل أن يدافعوا هُم عنها، ومن السنة الدفاع عن الشيعة قبل أن يُدافعوا هُم عنها.
وقال السيستاني كلمة مشهورة يتداولها حتى من غير أبناء الطائفة الشيعية، حيث قال في خطابه للشعب العراقي: "أنا خادم للعراقيين وأحبهم جميعاً ولا أفرق بين سني او شيعي او كردي أو مسيحي"، مشدداً على أن "الأحداث الحاصلة في العراق لا تجوز وهي من تدبير أيادٍ تخريبية وإجرامية"، مشيداً بدور مجالس الصحوات في المحافظات للوحدة بين المسلمين. وذلك وفقاً لتقرير نشرته مؤسسة الإمام علي (ع) التابعة للمرجعية في لندن على موقعها الإلكتروني.
وعن هذا اللقاء الذي وُصف بالمهم والخالد، قال ممثل رئيس ديوان الوقف السني في العراق آنذاك، الشيخ محمود الفلاحي في تصريح صحفي: إن "كلمات المرجع السيستاني هذه ستضيء لنا الطريق، وكشفت لنا الكثير من الحقائق، فقد كانوا يُحذرّوننا من الذهاب إلى النجف واللقاء به، ولكننا بعد سماع كلامه الطيّب هذا ازددنا فرحاً".
فيما قال رئيس جماعة علماء المسلمين الشيخ خالد الملا في تصريحاته للصحفيين: إنّ "الكلمات التي قالها السيد السيستاني والتي خرجت من صميم قلبه، تؤكد على حرمة الدم العراقي عامة، وحرمة الدم السني خاصة".
وطالب الملا علماء الدين المسلمين "بإدانة جميع أعمال العنف التي ترتكب ضد العراقيين، وأن يطَّلعوا جيداً على ما يجري في الواقع العراقي"، مُعيداً مطالبتهم "بإدانة واضحة وصريحة لما ترتكبه عصابة القاعدة في العراق، وهي رسالة النجف الأشرف والسيد السيستاني".
وصار أن طال اعتداء ثانٍ مرقد الإمامين العسكريين في سامراء، وكان موقف المرجع السيستاني ذاته لم يتغيّر، خصوصاً تحذيراته من عدم الوقوع في فخ الطائفية.
ودعا السيستاني في هذه المناسبة، إلى الانطلاق من إعادة تعمير المرقد العسكري "لترسيخ الوحدة الوطنية بين أبناء هذا البلد الكريم".
كما شدّد على مراعاة "أقصى درجات الانضباط، ولا يبدر من المؤمنين قول او فعل يسيء الى المواطنين من اخواننا أهل السنة الذين هم براء من تلك الجريمة النكراء ولا يرضون بها أبداً".
وظلّت بعدها جهود المرجعية الدينية وممثليها مستمرّة لدفع أخطار الطائفية والجماعات المسلّحة، وشهدت مدينة كربلاء موجة هائلة لزيارات ممثلي الطائفة السنية من شيوخ العشائر ورجال الدين والأكاديميين، الذين أكّدوا على ضرورة الوحدة الوطنية.
وعمل ممثلا المرجعية السيد أحمد الصافي في العتبة العباسية والشيخ عبد المهدي الكربلائي في العتبة الحسينية، على استقبال وفود أهل السنّة، ضمن برنامج خاص أعدته العتبتان المقدستان حينها.
وانعكست مثل هذه الزيارات على تغيير الصورة النمطية ما بين الشيعة والسنّة، وانطلقت من جوار مرقد الإمام الحسين وأخيه العباس (ع) الدعوات لإعلان الوحدة بين جميع العراقيين.
وبعد زيارته للعتبة الحسينية، صرّح ممثل ديوان الوقف السني في العراق الدكتور محمد الصميدعي قائلاً: إنّ "همنا واحد في بناء النفوس وبالتالي بناء البلاد وتفعيل دور الأخوة، وقد جئنا اليوم (...) من أجل أن نجلس مع إخواننا في كربلاء ونقول لهم إنّ قلوبنا معكم كما إن قلوبكم معنا".
وحول عمليات الإرهاب المستمرة التي تطيح بالعراقيين، أجاب الصميدعي: "لا أعتقد أن الرجل المسلم يرضى بهذه الأعمال التي تطال البلاد وتزهق الأرواح وتيتم الأطفال، وإن هذه الأعمال هي ثقافة دخيلة على العراق وكان لزاماً علينا أن نصبر وان نرد هذا الكيد الكبير بقوتنا ووحدتنا".
ومن هنا دعا الصميدعي إلى "بناء النفوس على الإخوة والمحبة جميعاً، والوقوف سدّاً منيعاً أمام كل إرهابي يريد أن يفرق وحدتنا ويزهق دمائنا".
وفي ظل هذه الأجواء التي نجحت في توحيد الصف العراقي، ذكر وكيل المرجعية الدينية السيّد أحمد الصافي في خطبته الثانية من صلاة الجمعة التي أقيمت في الصحن الحسيني بتاريخ (20 آذار 2009) أن "ما تشهده كربلاء المقدسة من زيارة لبعض الأحبة من محافظاتنا الغربية والشمالية والوسطى هو خير دليل على التلاحم والوحدة الوطنية".
ولفت السيد الصافي إلى أنّ "كثرة الزيارات من الطرفين تزيل اللبس ويتحدث الإخوة في أروقتهم فيما بينهم بشكل مفتوح وواضح ونصل إلى نتيجة مفادها إن هناك سراباً كثيراً كنا نتصوره ماء، فكثير من المشاكل لا أساس لها قد تكون سياسية أكثر مما هي اجتماعية".
وأضاف، أن "السني عندما يزور كربلاء بالنتيجة يزور مدينته والشيعي عندما يزور الموصل أو الانبار بالنتيجة يزور مدينته"، مشدّداً بأنّ "هذا المعنى لابد أن يعزّز ويخرج من الإطار الجماهيري ويرتقي إلى الأداء الحكومي".
اندحار القاعدة وولادة داعش
بعد أن نجحت جهود المرجعية الدينية في النجف ومن خلال لقاءاتها وبياناتها وخطبها، اندحرت فلول تنظيم القاعدة الإرهابي وانتهت إلى الأبد، إلا أنّ الإرهاب عاد مرّة أخرى بلباس جديد.
فقد شهد عام (2014) وبسبب الأجواء الأمنية المضطربة في سوريا وتصاعد جرائم العصابات المسلّحة، ظهور عصابات داعش في العراق.
وخلال فترة قصيرة جداً، استطاعت العصابات الإرهابية احتلال محافظات نينوى وصلاح الدين والأنبار، وبدأت صفحة جديدة من صفحات الإرهاب.
وفي ظل تصاعد الأحداث الأمنية، وتخوّفات العراقيين من تنامي خطر عصابات داعش الإرهابية التي أراد قضم المزيد من الأراضي، أطلقت المرجعية الدينية حينها فتواها التاريخية والشهيرة التي عُرفت بـ "فتوى الدفاع الكفائي"، ودعت فيها العراقيين المقتدرين على الانخراط في القوات الأمنية وحمل السلاح دفاعاً عن بلادهم وأبناء شعبهم ومقدساتهم.
وكان ذلك من خلال خطبة الجمعة التي ألقاها الشيخ عبد المهدي الكربلائي من الصحن الحسيني في كربلاء بتاريخ (13 حزيران 2014)، وجاء فيها: إن "العراق وشعبه يواجه تحدياً كبيراً وخطراً عظيماً وإن الارهابيين لا يهدفون إلى السيطرة على بعض المحافظات كنينوى وصلاح الدين فقط بل صرحوا بأنهم يستهدفون جميع المحافظات ولا سيما بغداد وكربلاء المقدسة والنجف الأشرف، فهم يستهدفون كل العراقيين وفي جميع مناطقهم، ومن هنا فإن مسؤولية التصدي لهم ومقاتلتهم هي مسؤولية الجميع ولا يختص بطائفةٍ دون أخرى أو بطرفٍ دون آخر".
وبعد توصيات خاصة للقوات الأمنية، قال الكربلائي خلال الخطبة ذاته: "من هنا فان المواطنين الذين يتمكنون من حمل السلاح ومقاتلة الارهابيين دفاعاً عن بلدهم وشعبهم ومقدساتهم عليهم التطوع للانخراط في القوات الأمنية".
وكان هذا الحدث الجديد في العراق، موقفاً تاريخياً يُسجّل للمرجعية الدينية العليا في النجف، وفيما كانت أصابع الاتهام تشير إلى جهات خارجية تدعم الجماعات المسلحة المتمثلة بعصابات داعش الإرهابية، استطاعت هذه الفتوى بحسب ما يقول المراقبون والخبراء من حول العالم: إنها "أفشلت جميع المخططات وكانت أشبه بالصدمة المروعة لهم، كما رسمت معادلة جديدة على مستوى العراق والعالم".
وعن مكانة المرجع السيستاني وفتواه التاريخية، قال وكيله في كربلاء السيد أحمد الصافي خلال استقباله لوفد من مؤسسة آل البيت (ع) في إسبانيا: إنّ "السيد السيستاني مرجعٌ ديني كبير وله ثقله ووزنه في المجتمعَين المحلّي والدولي، فهو فضلاً عن كونه المرجع الدينيّ الأعلى، هو رجلٌ حكيم تعامَلَ مع العراقيين على اختلاف أطيافهم كافة بروح الأبوّة، فكان لهم خيمة دون تمييزٍ بينهم"، مبيناً، أنه "رفض وأدان العمليات الإرهابية كافة والعنف الذي تعرّض له العراقيون منذ عام 2003، وهو أبٌ لكل العراقيّين".
وأشار السيد الصافي إلى أنه "عندما جاء تنظيم القاعدة إلى العراق بعد عام 2003، وبعده تنظيم داعش الذي احتلّ جزءاً كبيراً من أراضي البلاد، وبدأ الخطر يهدّد العاصمة بغداد وكان على أسوارها إضافة إلى المدن المقدّسة، وفي حالةٍ من اليأس والإحباط والخوف من المجهول عاشها العراق في تلك الفترة، جاءت فتوى الدفاع الكفائي لتكون نداء لتوقّف المدّ والزحف الداعشي، ولبثّ المعنويات ورفعها في القوّات الأمنية العراقية، ليلبّيها ملايين العراقيين الذين بدمائهم وبفضل الفتوى أنقذوا العراق".
وبين، أن "أكثر من ثلاثة ملايين عراقي لبّى الفتوى المباركة ودافع عن العراق ومقدّساته، وبالمعركة التي استمرّت ثلاث سنواتٍ استطاع العراقيّون أن يحرّروا كلّ الأراضي من العصابات الإرهابية، وهذا وقت قياسيّ لتحرير الأرض، إذ كان يُقدّر الوقت لتحرير الأراضي العراقية من (10 إلى 30 عاماً) بحسب تقديرات الدول العظمى، لكن فتوى السيد السيستاني واستجابة العراقيّين لها حقّقت النصر و أرجعت الأمور إلى نصابها".
كما وشهد العراق في ظل هذه الظروف لظهور عصابات داعش واحتلالهما لعدد من المناطق، تأسيس (هيئة الحشد الشعبي) التي ضمّت الألوية الأمنية المتشكلة من المتطوعين الملبّين لفتوى المرجع السيستاني بمقاتلة العصابات الإرهابية.
وانطلاقاً من مسؤوليتها الشرعية، فقد أصدرت المرجعية الدينية العديد من التوصيات الخاصة للمقاتلين في مختلف صنوف القوات الأمنية، وأكّدت على ضرورة الوقوف أمام زحف العصابات الإرهابية، كما دعت إلى حماية جميع العراقيين من مختلف الطوائف والأديان، وخصوصاً من المسيحيين والأيزيديين وأبناء الطائفة السنية المسلمة.
أما عن أصداء هذه الفتوى عالمياً، فقد تفاعل العديد من الخبراء والمؤسسات البحثية معها وكذلك الجنرالات والقادة الأمنيين من حول العالم.
وعن هذه الأصداء، يقول الكاتب (لؤي الخطيب) في مقال له باللغة الإنكليزية نشره موقع (هافينغتون): إن "دعوة آية الله السيد السيستاني في عام 2014 للمساعدة في إعادة بناء القوات المسلحة العراقية بعد انهيار الموصل ليس أول تدخل إيجابي حاسم له. على الرغم من أنه لا يميل لإشراك نفسه في سياسة العراق اليومية، ولكنه عندما يتحرك، فانه يتحرك بحسم بما يعود بالنفع على جميع العراقيين".
ويتابع، "كانت دعوته لتشكيل الجمعية الوطنية بعد تغيير النظام عام 2003 مفتاح البدء للعملية السياسية في كتابة الدستور العراقي، كما ساعد في نزع فتيل الفتنة الطائفية بعد تفجير مرقد الإمامين العسكريين في سامراء من قبل تنظيم القاعدة في عام 2006. ولعب دوراً هاماً في تأمين انتقال سلس للسلطة في الانتخابات العامة، وكسر الجمود السياسي في عام 2006 وعام 2014".
وزاد بالقول: إنه "على الرغم من أن السيستاني أبقى بابه مفتوحة لاستقبال كل الناس، الا انه توقف عن لقاء السياسيين العراقيين منذ عام 2011 حيث بدأ العديد من المسؤولين إساءة استخدام استقبال السيد السيستاني لهم لتسويق انفسهم سياسياً".
كما أنّه على العكس مما حاول البعض تصديره عن طريق الإعلام الغربي، بأن "فتوى المرجعية تستهدف السنة"، يقول الصحفي العراقي (سجاد أحمد): إن "الحشد الشعبي بشكل رئيسي يمثل قوة لجميع العراقيين وليس للشيعة فقط، خصوصاً وقد لبى الفتوى رجال القبائل السنية بالإضافة إلى المتطوّعين المسيحيين والأيزيديين".
فيما يقول الكاتب اللبناني رضا زيدان أن "للسيد السيستاني دوره القيادي، وتأثيرٌ كبير لا يخفى على أحد، خصوصاً لناحية المواقف التي صدرت عنه خلال الأزمات والقضايا المصيرية التي واجهها العراق، خلال مرحلة الاحتلال الأميركي أو ما بعد نشوء تنظيم "داعش" في العام 2014".
وتابع بأن فتوى الدفاع الكفائي "شكّلت منعطفاً مهمّاً في تاريخ العراق، إذ كانت سبباً رئيساً للتعبئة الاجتماعيّة والجماهيريّة الواسعة التي تمثلت ليس فقط بالمتطوّعين الّذين تطوّعوا للدّفاع عن المناطق الّتي احتلها "داعش" وساهموا على مدى سنوات في تحريرها، وإنّما أيضاً بمساهمات الشّعب العراقي والمؤسّسات والمنظّمات المتعدّدة".
ويؤكّد العراقيون، أنّه لولا تلك الفتوى العظيمة التي أطلقها السيد السيستاني، لما تغيّرت معايير المعركة وما كان لمعطيات الحرب أن تتحوّل بدرجةٍ أذهلت العالم، بعد أن رسم أبناء الوطن ملحمةً بطولية قلّ نظيرها.
وأشار زيدان إلى أن الفتوى "وضعت أسساً جديدة لقواعد القتال بعد أن اتّحدت جميع الفصائل التي حاربت "داعش" تحت لواء جامع وهو الحشد الشعبي، الذي ساهم بشكلٍ مباشر في تعزيز الأمن وخلق بيئة اجتماعية داعمة للقوات الأمنية العراقية ولتحقيق الاستقرار وتعزيز القوات الوطنية وتوفير الدعم والإسناد والمعدات الضرورية لها".
كما يقول الصحفي (سجاد جايد): إن "السيد السيستاني يمثل صوت العقل ولم تكن فتواه التاريخية بالجهاد ضد داعش سوى واحدة من العديد من إنجازاته التي حققها على حياته".
ويضيف بأنّ "رجل الدين الكبير هذا الذي يبلغ من العمر الآن ثلاثة وتسعين عامًا، يبرز بشكل عام لكونه شخصية تتمتع بالنزاهة والأخلاق الفريدة من نوعها عبر عقود من الاضطرابات وتغيير النظام والتحديات شبه المروعة"، موضحاً بأن السيد السيستاني "كان الفاعل الأكثر ثباتًا في العراق في الدفع نحو الاستقرار والتقدم وتقرير المصير. وسوف نتذكره باعتباره صوت العقل في عصر العنف والخوف وعدم اليقين".
أما الكاتب الصحفي (كريستن كنيب) فقد قال في مقال له نشرته وكالة (دويتشه فيلا): إن "مواقف السيد السيستاني خلال فترة داعش وما قبلها وخصوصاً في التصدي للطائفية رشحّته مرتين لنيل جائزة نوبل للسلام، وذلك في عامي (2014 و2015)".
ونجحت جهود المرجع السيستاني في التصدي لعصابات داعش الإرهابية، في إعادة الأمل للعديد من العراقيين وخاصة من أبناء المكونين المسيحي والإيزيدي، حيث أوصى بضرورة رعايتهم والمحافظة على حياتهم، وكذلك شدد على تخليصهم من خطر داعش وتحرير المختطفين.
وبناء هذا الموقف التاريخي والأبوبي من قبل المرجعية الدينية، أثنى المرجع الأعلى للأمّة الأيزيدية في العراق والعالم، على المواقف المشرّفة للمرجع السيستاني في الدفاع عن العراق بكل مكوناته ومنها المكون الأيزيدي، معرباً عن أمله بأن يتقبّل المرجع السيستاني الأيزيديين أبناءً له ويشملهم بعطفه ورعايته.
وجاء في رسالة لمرجع الأيزيديين (الأمير نايف بن داود بن سليمان)، بعثها إلى المرجع السيستاني: "لم نلمس من وقف في الدفاع عنا على مرّ التاريخ مثل ما وقفت المرجعية الدينية العليا معنا خلال احتلال داعش"، مضيفاً، "كيف لنا أن ننسى الفتوى التاريخية التي أطلقها سماحتكم (الأيزيديين أمانة في أعناقنا) و(المختطفات الأيزيديات أخواتنا وبناتنا وعزنا وشرفنا وكرامتنا وهن شرف لكل عراقي شريف وغيور)".
وشدّد بن سليمان في رسالته بأنّ "هذا الموقف النبيل سيبقى خالداً في ذاكرة الزمن، وإن المرجعية الدينية معروفة بمواقفها الإنسانية والوطنية العراقية المخلصة وهي من دافعت عن العراق بكلّ مكوناته".
ولفتَ إلى أنهم "يشعرون بالأمن والأمان تحت ظلّ المرجعية المبارك".
واختتم بن سليمان رسالته بالقول: "نلتمس من المرجع الأعلى أن يقبلنا كأحد أبنائه بعدما شملنا بعطفه ورعايته في أصعب المواقف التي مرّت على المكون الأيزيدي في التاريخ".
عام الانتصار على داعش وما بعده
وبعد ثلاث سنوات من إصدار الفتوى وتلبيتها من قبل المتطوعين العراقيين، استطاع العراق دحر العصابات الإرهابية، وقدّم الكثير من الشهداء والتضحيات من أبناء القوات الأمنية والحشد الشعبي، حتى جاء يوم (14 كانون الأول 2017)، الذي تلا فيه ممثل المرجعية الدينية في كربلاء الشيخ عبد المهدي الكربلائي خطبة النصر على عصابات داعش الإرهابية.
وحملت الخطبة مضامين عالية وأشّرت إلى نقاط مهمة إلى جانب ستة توصيات تخص العراقيين على المستوى الرسمي والشعبي، إلا أنّها ركّزت بالدرجة الأولى على المرحلة ما بعد تحقيق الانتصار.
وذكر المرجعية في هذه الخطبة بأن "النصر على داعش لا يمثل نهاية المعركة مع الارهاب والارهابيين بل ان هذه المعركة ستستمر وتتواصل ما دام أن هناك أناساً قد ضُلّلوا فاعتنقوا الفكر المتطرف الذي لا يقبل صاحبه بالتعايش السلمي مع الآخرين ممن يختلفون معه في الرأي والعقيدة ولا يتورع عن الفتك بالمدنيين الابرياء وسبي الاطفال والنساء وتدمير البلاد للوصول الى اهدافه الخبيثة بل ويتقرب إلى الله تعالى بذلك"، محذرة من "التراخي في التعامل مع هذا الخطر المستمر والتغاضي عن العناصر الارهابية المستترة والخلايا النائمة التي تتربص الفرص للنيل من أمن واستقرار البلد".
وأكدت أيضاً أن "المنظومة الأمنية العراقية لا تزال بحاجة ماسة الى الكثير من الرجال الابطال الذين ساندوا قوات الجيش والشرطة الاتحادية خلال السنوات الماضية وقاتلوا معها في مختلف الجبهات وأبلوا بلاءً حسناً في اكثر المناطق وعورةً واشد الظروف قساوةً وأثبتوا أنهم أهلٌ للمنازلة في الدفاع عن الارض والعرض والمقدسات وحققوا نتائج مذهلة فاجأت الجميع داخلياً ودولياً".
وفي الوقت الذي أكدت فيه على تضحيات الشهداء، شددت المرجعية على رعاية عوائلهم وأبنائهم وتكريم تضحياتهم، فضلاً عن رعاية المقاتلين الجرحى.
وشدّدت المرجعية كذلك بأن "معظم الذين شاركوا في الدفاع الكفائي خلال السنوات الماضية لم يشاركوا فيه لدنياً ينالونها أو مواقع يحظون بها، فقد هبّوا الى جبهات القتال استجابة لنداء المرجعية واداءً للواجب الديني والوطني، دفعهم اليه حبهم للعراق والعراقيين وغيرتهم على اعراض العراقيات من أن تنتهك بأيدي الدواعش وحرصهم على صيانة المقدسات من أن ينالها الارهابيون بسوء، فكانت نواياهم خالصة من أي مكاسب دنيوية، ومن هنا حظوا باحترام بالغ في نفوس الجميع واصبح لهم مكانة سامية في مختلف الاوساط الشعبية لا تدانيها مكانةُ أي حزب او تيار سياسي".
وأكدت المرجعية أيضاً بأن "من الضروري المحافظة على هذه المكانة الرفيعة والسمعة الحسنة وعدم محاولة استغلالها لتحقيق مآرب سياسية يؤدي في النهاية الى أن يحلّ بهذا العنوان المقدس ما حلّ بغيره من العناوين المحترمة نتيجة للأخطاء والخطايا التي ارتكبها من ادّعوها".
في حين رأت المرجعية الدينية بأن هناك معركة أكبر من معركة الدفاع ضد أخطار العصابات الإرهابية، والتي تمثل بالمعركة على الفساد.
وذكرت المرجعية الدينية في التوصية السادسة من خطبة النصر: إن "التحرك بشكل جدي وفعال لمواجهة الفساد والمفسدين يعدّ من اولويات المرحلة المقبلة، فلا بد من مكافحة الفساد المالي والاداري بكل حزم وقوة من خلال تفعيل الاطر القانونية وبخطط عملية وواقعية بعيداً عن الاجراءات الشكلية والاستعراضية".
وأضافت بأن "المعركة ضد الفساد ـ التي تأخرت طويلاً ـ لا تقلّ ضراوة عن معركة الارهاب إن لم تكن أشد وأقسى، والعراقيون الشرفاء الذين استبسلوا في معركة الارهاب قادرون ـ بعون الله ـ على خوض غمار معركة الفساد والانتصار فيها أيضاً إن أحسنوا ادارتها بشكل مهني وحازم".
وظلّت أصداء وتوصيات المرجعية الدينية تتردّد بين الأوساط العراقية، إلا أنّ موجة جديدة ظهرت في العراق من الاحتجاجات والتظاهرات الشعبية التي ندّدت بالعملية السياسية وفشلها في إدارة مصالح الشعب العراقي.
ونتيجة لذلك، شهد العام (2019) أكبر هذه الموجات من التظاهرات المطالبة بالحقوق المشروعة، وتحسين الوضع الخدمي والاقتصادي والأمني.
وفي شهر تشرين الأول من هذا العام، جُوبهت الاحتجاجات الشعبية في العاصمة بغداد وعدد من المحافظات العراقية، بحملة قمع كبيرة، وهو ما أدانته المرجعية الدينية في النجف.
فقد أكّدت المرجعية ومن خلال خطبة الجمعة في الصحن الحسيني بمدينة كربلاء رفضها "وإدانتها للإعتداءات التي تعرض لها المتظاهرون السلميّون والعديد من عناصر القوات الأمنية، خلال الإحتجاجات التي شهدتها البلاد".
كما وأدانت المرجعية في الوقت ذاته "ما وقع من إحراق وإتلاف بعض المؤسسات الحكومية والممتلكات الخاصة في تلك المظاهرات. وعبّرت عن أملها بأن يعي الجميع التداعيات الخطيرة لاستخدام العنف والعنف المضاد في الحركة الاحتجاجية الجارية في البلد، فيتم التجنب عنه في كل الأحوال".
وفي الأسبوع التالي من هذه الإدانات ضد قمع المتظاهرين والمحتجين الشعبيين، أكّدت المرجعية الدينية أن "الاحتجاجات التي تشهدها البلاد ستشكل انعطافة كبيرة، وأن العراق بعد الاحتجاجات لن يكون كما كان قبلها".
ووفقاً لإحصائيات صادرة عن مصادر طبية، سقط في أرجاء البلاد أكثر من (325 شهيداً) ونحو (15 ألف جريح).
وحينها أكدت المرجعية الدينية وعلى لسان وكيلها السيد أحمد الصافي في خطبة صلاة الجمعة: "إذا كان من بيدهم السلطة يظنون أن بإمكانهم التهرب من استحقاقات الإصلاح الحقيقي بالتسويف والمماطلة، فإنهم واهمون".
وأردف: "لن يكون ما بعد هذه الاحتجاجات كما كان قبلها في كل الأحوال، فليتنبهوا إلى ذلك".
واعتبرت المرجعية الدينية العليا أن "المواطنين لم يخرجوا إلى التظاهرات المطالبة بالإصلاح بهذه الصورة غير المسبوقة، ولم يستمروا عليها طوال هذه المدة بكل ما تطلّب ذلك من تضحيات جسيمة، إلا لأنهم لم يجدوا غيرها طريقاً للخلاص من الفساد".
ودعا إلى الإسراع في إقرار "قانون منصف للانتخابات يعيد ثقة المواطنين بالعملية الانتخابية، ولا يتحيز للأحزاب والتيارات السياسية".
ولفتت المرجعية العليا أيضاً إلى أنه "رغم مرور مدة زمنية على انطلاق الاحتجاجات، إلا أن شيئاً من مطالب المحتجين لم يتحقّق".
واعتبر أن ذلك "يثير الشكوك في مدى قدرة أو جدية القوى السياسية الحاكمة في تنفيذ مطالب المتظاهرين حتى في حدودها الدنيا".
كما رفضت المرجعية الدينية العليا التدخّل الخارجي بالعراق، مؤكداً أن "معركة الإصلاح التي يخوضها الشعب إنما هي معركة وطنية تخصّه وحده، والعراقيون هم من يتحملون أعباءها الثقيلة".
وإزاء هذا الموقف الصريح من المرجعية الدينية، فقد وصفت قتلى المتظاهرين والمحتجين بأنهم "شهداء".
وقال ممثل المرجعية السيد أحمد الصافي في خطبة لاحقة من عام (2019): إنّ "المرجعية الدينية إذ تترحم على الشهداء الكرام وتواسي ذويهم وتدعو لهم بالصبر والسلوان وللجرحى بالشفاء العاجل، تؤكد مرة أخرى على حرمة الاعتداء على المتظاهرين السلميين ومنعهم من ممارسة حقهم في المطالبة بالإصلاح".
كما دعا بالوقت نفسه المتظاهرين السلميين إلى "طرد المخرّبين من صفوفهم وعدم الإضرار بممتلكات المواطنين".
وبعد عام واحد فقط، وقبل شهر من إحياء الذكرى الأولى لاندلاع التظاهرات في العراق، استقبل المرجع السيستاني في بيته بمدينة النجف، الممثلة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة جينين هينيس ـ بلاسخارات وذلك بتاريخ (13 أيلول 2020).
وأكد المرجع الأعلى السيد علي السيستاني وفقاً لبيان صدر عن مكتبه، أن "الحكومة الراهنة مدعوة الى الاستمرار والمضي بحزم وقوة في الخطوات التي اتخذتها في سبيل تطبيق العدالة الاجتماعية، والسيطرة على المنافذ الحدودية، وتحسين أداء القوات الأمنية بحيث تتسم بدرجة عالية من الانضباط والمهنية، وفرض هيبة الدولة وسحب السلاح غير المرخص فيه، وعدم السماح بتقسيم مناطق من البلد الى مقاطعات تتحكم بها مجاميع معينة بقوة السلاح تحت عناوين مختلفة بعيداً عن تطبيق القوانين النافذة".
وتابع بأن "الحكومة مدعوة أيضاً الى اتخاذ خطوات جادة واستثنائية لمكافحة الفساد وفتح الملفات الكبرى بهذا الشأن حسب الإجراءات القانونية، بعيداً عن أي انتقائية، لينال كل فاسد جزاءه العادل وتسترجع منه حقوق الشعب مهما كان موقعه وأياً كان داعموه ".
كما شدد بأن "الحكومة مطالبة بالعمل بكل جدية للكشف عن كل من مارسوا اعمالاً إجرامية من قتل أو جرح أو غير ذلك بحق المتظاهرين أو القوات الأمنية أو المواطنين الأبرياء، أو قاموا بالاعتداء على الممتلكات العامة أو الخاصة، منذ بدء الحراك الشعبي المطالب بالإصلاح في العام الماضي، ولا سيما الجهات التي قامت بأعمال الخطف أو تقف وراء عمليات الاغتيال الأخيرة".
وأشار المرجع الأعلى خلال اللقاء إلى أن "اجراء العدالة بحق كل الذين اقترفوا الجرائم المذكورة سيبقى مطلباً ملحاً لا بد من أن يتحقق في يوم من الأيام، وهو الأسلوب الناجع في المنع من تكرارها والردع عن العود الى أمثالها".
ولفت أيضاً إلى أن "الحفاظ على السيادة الوطنية ومنع خرقها وانتهاكها والوقوف بوجه التدخلات الخارجية في شؤون البلد وإبعاد مخاطر التجزئة والتقسيم عنه مسؤولية الجميع، وهو يتطلب موقفاً وطنياً موحداً تجاه عدة قضايا شائكة تمسّ المصالح العليا للعراقيين حاضراً ومستقبلاً، ولا يمكن التوصل اليه في ظل تضارب الأهواء والانسياق وراء المصالح الشخصية أو الحزبية أو المناطقية، فالمطلوب من مختلف الأطراف الارتقاء الى مستوى المسؤولية الوطنية وعدم التفريط لأي ذريعة بسيادة البلد واستقراره واستقلال قراره السياسي".
وقد تمخضّت مثل هذه التوصيات الصادرة عن المرجعية الدينية العليا في النجف، عن إجراء تعديل في قانون الانتخابات العراقية، فضلاً عن إقامتها وتشكيل حكومة جديدة.
كما وفي إزاء ذلك، كان للمرجعية الدينية موقف تاريخي بإصدار ما وصفه العراقيون بـ "فتوى التكافل الكفائي"، وذلك بعد موجة انتشار وباء (كوفيد ـ 19)، إذ حثّ على ضرورة تقديم الدعم اللازم للجهات الصحية من أجل رعاية المرضى والمصابين.
كما واعتبر المرجع الأعلى أن من يموت بهذا الوباء يعدّ "شهيداً"، ولاقت كلماته وتوصياته صدى شعبياً كبيراً إضافة إلى الخدمات الكبيرة التي قدمتها العتبات المقدسة في افتتاح مراكز الشفاء وتقديم الدعم اللازم للمرضى.
وفي تلك الفترة أيضاً، وبدعم من المرجع السيستاني جرى افتتاح مقبرة خاصة للمتوفين بالوباء في مدينة النجف، وذلك من قبل فرقة الإمام علي القتالية، والتي جمعت إلى جانب جثامين الشيعة والسنة جثامين عدد كبير من المسيحيين والإيزيديين وغيرهم.
وبالعودة إلى المشهد السياسي العراقي، وما حصل في البلد بعد التظاهرات الشعبية، رأى العديد من المتتبعين والمراقبين للشأن العراقي أن "توصيات المرجعية الدينية لم تلقَ اهتماماً من قبل الطبقة السياسية الحاكمة، حيث بقي الحال كما هو عليه، أو ازداد سوءاً".
وقرأ المراقبون مثل هذا الموقف في لقاءات وبيانات لاحقة للمرجعية الدينية، ومنها خلال استقبال المرجع الأعلى لرئيس بعثة (يونامي) في العراق محمد الحسّان، والتي أشارَ فيها وفقاً لبيان صدر عن مكتبه بتاريخ (4 تشرين الثاني 2024)، إلى "التحديات الكبيرة التي يواجهها العراق في الوقت الحاضر وما يعانيه شعبه على أكثر من صعيد".
وقال المرجع الأعلى: إنه "ينبغي للعراقيين - ولا سيما النخب الواعية - أن يأخذوا العِبر من التجارب التي مرّوا بها ويبذلوا قصارى جهدهم في تجاوز اخفاقاتها ويعملوا بجدّ في سبيل تحقيق مستقبل أفضل لبلدهم ينعم فيه الجميع بالأمن والاستقرار والرقي والازدهار، مؤكداً على أن ذلك لا يتسنى من دون إعداد خطط علمية وعملية لإدارة البلد اعتماداً على مبدأ الكفاءة والنزاهة في تسنّم مواقع المسؤولية، ومنع التدخلات الخارجية بمختلف وجوهها، وتحكيم سلطة القانون، وحصر السلاح بيد الدولة، ومكافحة الفساد على جميع المستويات".
ونبّه المرجع الأعلى بالقول: "يبدو أن أمام العراقيين مساراً طويلاً الى أن يصلوا الى تحقيق ذلك، أعانهم الله عليه".
المصدر: موقع كلمة الإخباري