لماذا خلق الله الأرض مهاداً؟!

الشيخ حبيب الكاظمي
زيارات:128
مشاركة
A+ A A-

أَلَمۡ نَجۡعَلِ ٱلۡأَرۡضَ مِهَٰدٗا ٦ وَٱلۡجِبَالَ أَوۡتَادٗا ٧ وَخَلَقۡنَٰكُمۡ أَزۡوَٰجٗا ٨ وَجَعَلۡنَا نَوۡمَكُمۡ سُبَاتٗا ٩ وَجَعَلۡنَا ٱلَّيۡلَ لِبَاسٗا ١٠ وَجَعَلۡنَا ٱلنَّهَارَ مَعَاشٗا ١١ وَبَنَيۡنَا فَوۡقَكُمۡ سَبۡعٗا شِدَادٗا ١٢ وَجَعَلۡنَا سِرَاجٗا وَهَّاجٗا ١٣ وَأَنزَلۡنَا مِنَ ٱلۡمُعۡصِرَٰتِ مَآءٗ ثَجَّاجٗا ١٤ لِّنُخۡرِجَ بِهِۦ حَبّٗا وَنَبَاتٗا ١٥ وَجَنَّٰتٍ أَلۡفَافًا ١٦

اشترك في قناتنا ليصلك كل جديد

الرؤية الطولية

إن الإنسان المؤمن يرى الأشياء من خلال انتسابها إلى مسبب الأسباب ، ولهذا يلتفت إلى الجاعل مباشرة عند النظر إلى ما جعله ، متذكرا قول ربه ﴿أَلَمْ نَجْعَلِ﴾ عند نظره إلى الأرض ﴿مِهاداً﴾ والجبال ﴿أَوْتاداً﴾ فعين البصير ليست على الفعل ، ولا على ما يتم به الفعل فحسب ، وإنما على الفاعل الذي يُعدّ مبدأ للفيض ، لا على ما يراه من الآثار ، إذ إن «التردد في الآثار يوجب بعد المزار» كما في دعاء عرفة للإمام الحسين (عليه السلام) .

الآيات الكونية

إن ذكر الآيات الكونية بعد ذكر المعاد ، قد يكون إشعارا بأن من أدلة القيامة هو ما نراه من قدرة الخالق المتجلية في النشأة الأولى ، فمن له هذه القدرة في البدء ، كيف لا تكون له القدرة في الختم؟!

ولذلك ، فإن الآيات تستعمل ضمير الفاعل المتكلم متعددا ﴿بَنَيْنا﴾ و﴿جَعَلْنا﴾ و﴿أَنْزَلْنا﴾ و﴿لِنُخْرِجَ﴾ للتذكير المستمر بالقوة الفاعلة وراء كل مظاهر الحركة في هذا الوجود ، والتي يسندها المتكلم إلى نفسه في هذه الآيات ، الجامعة لشقّي النفي والإثبات .

التخلية ثم التجلية

بعد أن نفت الآيات الأولى تلك الأفكار الباطلة ، فانها ذکرت العقائد الحقة وذلك بالاستدلال والبرهان ؛ لتجتمع قوة النفي والإثبات معا ، فكما أن قانون التخلية ثم التجلية سارٍ في عالم التزكية الروحية ، فهو سارٍ أيضا في عالم التزكية الفكرية ، فمن دون تفريغ ذهن المخاطب من الأفكار الباطلة ، فإنه لا يتيسر إقناعه بالأفكار الحقة ، وهذا المعنى متحقق في شهادة التوحيد أيضا .

ظلمة اللجاجة

إذا انتفت اللجاجة والعناد عند المرء ، فإن النظر إلى ما حوله من العوالم المادية الثابتة كالأرض والجبال ، والطوارئ الحاليّة المتغيرة كسباتية النوم ومعاشية النهار ، ستكون من موجبات الارتباط بالمبدأ والمعاد ، إذ إن الحكمة المتجلية في جزئيات هذا الوجود لا تنقدح من داخلها كمادة صماء ، فلزم وجود قدرة حكيمة قاهرة خارجها ، هي المتصرفة في كل هذا الخلق البديع .

تشبيه الأرض بالمهاد

إن التعبير بمهادية الأرض ﴿أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً﴾ يذكّرنا بمهد الوليد بعد ساعة ولادته ، فهذا المهد موطن مؤقت له لأنه سينتقل بعدها في هذه الحياة ، إلى ما هو أرحب وأرقى كالقصور الفارهة!

وعندئذ نقول : بأن هذه الأرض بكل ما عليها ـ قياسا إلى الآخرة ـ تُعد كالمهد الصغير بالنسبة إلى تلك القصور ، بل إن النسبة أبعد بوناً من هذا المثال ، فالذي يأنس بهذه الأرض ، يكون بمثابة الوليد الذي يأنس بمهده الصغير ، تاركا القصر الكبير .

زوال مظاهر القوة

إن الله تعالى الذي خلق الجبال وجعلها أوتادا ، هو الذي سوف يُحيل هذه الجبال يوما ما إلى : كثيب مهيل، وإلى عهن منفوش ، وإلى هباء متناثر، وإلى قاع صفصف، كما ورد ذكرها في القرآن الكريم ، وهذا بدوره يدل على أن كل مظاهر الجمال والقوة في هذا الوجود ، ستؤول يوما ما إلى الضعف والفناء ، وأن الذي يبقى إنما هو وجه ربك ذو الجلال والإكرام .

السكون بعد المعاش

إن سلامة الجسد مرتبطة بالترتّبيّة والتوالي بين الحركة والسكون بنحو من أنحاء الترابط ، فالله تعالى هو الذي جعل النهار معاشاً بعد سباتية النوم ولباسية الليل .

وعليه ، فإن الذي لا يجعل بعد حركته المعاشية في النهار سكونا متمثّلا بسبات الليل ؛ فإنه بذلك يعاند قانون الخلقة ، وسيصاب بالتالي بآفات هذا العناد .

تذكر البعث باليقظة

إن عملية النوم ثم اليقظة بعدها ، شبيهة إلى حد كبير بحركة الإماتة والنشور ، فيتذكر العبد المراقب لنفسه حقيقة القيامة بعد كل يقظة ، وهذا بدوره يوجب له التذكر لكي يتزود لذلك اليوم العصيب .

ومن هنا يربط الدعاء الوارد بعد الاستيقاظ من النوم بين اليقظة والنشر ، إذ نقول فيه : «الحمد لله الذي أحياني بعد ما أماتني وإليه النشور، والحمد لله الذي رد علي روحي لأحمده وأعبده» .

هدفية الخلق

إن القدير الحكيم جعل كل شيء في هذا الوجود مسخرا لهدف بعينه وهو ما ذكرته الآيات من هذه السورة :

فالنوم مقدمة للسبات والراحة ﴿وجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً﴾ .

والنشاط في النهار مقدمة لكسب المعاش فيه ﴿وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً﴾ .

والزوجية مقدمة للتناسل والتكاثر ﴿وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً﴾ .

والتجاذب الكوني بما فيه من أفلاك ومجرات مقدمة لاستقرار الأرض بما يصلح لسكنى النوع البشري ﴿وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدادا﴾ .

وإنزال المطر مقدمة لعمارة الأرض بالزراعة ، والابتهاج بمظاهر زينتها ﴿لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا ونَباتاً﴾ .

ومن المعلوم أنه تعالى يريد من وراء أصل الوجود هدفا آخرا ، كي لا ينتهي هذا الوجود بالموت ، وهو المتمثل بإيصال العباد إلى الكمال الذي خُلقوا من أجله ، وهذا من أدلة المعاد أيضا ؛ لأن ما يجري فيه من الأحداث يُمثّل غاية الخلقة والإيجاد .

القدرة الواحدة

إن هذه السورة بعد ذكر المعاد ، تُكثر من ذكر الآيات الآفاقية ، ومنها إحياء الأرض وإنبات النبات ، وفي جميعها إشعار بقدرة واحدة في النشأتين ، وهي القادرة على الإحياء بكل صوره ، ومن هنا عبّر عن الإحياء بالإخراج ، وهو تعبير مشترك في إخراج النبات والأموات من الأرض .

نسبة الأمر إلى الرب والعبد

إن القرآن الكريم ينسب عملية العصر إلى السُحب الماطرة ﴿مِنَ الْمُعْصِراتِ﴾ فهي تعصر نفسها لتخرج ماء ثجّاجا ، ومن جهة اُخرى ينسب تعالى الأمر إلى نفسه ﴿وَأَنْزَلْنا﴾ فالله تعالى هو المنزل لهذا الماء كعلّة للعلل ، وهكذا الأمر في كل موارد الوساطة في هذا الوجود ، ومنها الإماتة :

حيث ينسبها الله تعالى إلى نفسه تارة ﴿اللهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا﴾.

وينسبها إلى ملك الموت تارة اُخرى ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ﴾ .

التخلق بحكمة الخالق

لا بُد أن نتخلّق بأخلاق الله تعالى ، إذ إن كل فعل من أفعاله ملحوق بحكمة بالغة ، فإنزال الماء يليه إخراج الحب والنبات ، فجاء لام التعليل لإفهام هذا المعنى ؛ كما في قوله تعالى ﴿لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا﴾ .

وكذلك العبد الحكيم  ـ تأسيّا بهذا الخلق الإلهي ـ يجب أن لا يصدر منه فعل جزافي ؛ لأنه يجعل أصل سعيه في الدنيا مقدمة للسعادة الأبدية ، وشعاره في ذلك ﴿قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِين﴾[٨] .

مواضيع مختارة