نلاحظ في حياتنا وحياة الآخرين، أنّ الإنسان عند ما يقوم بعمل خاطئ و يعتقد أنّه صحيح، فإنّ جهله المركب هذا لا يدوم أكثر من لحظة أو موقف أو حتی سنة، أمّا أن يدوم علی امتداد عمره فذلك هو سوء الحظ و هو الخسران المبين.
لهذا وجدنا القرآن الكريم يسمي مثل هؤلاء الأشخاص بالأخسرين، لأنّ الذي يرتكب الذنب و هو يعلم بذلك، فإنّه سيضع حدا لما هو فيه و يعوّض عن الذنب بالتوبة و العمل الصالح، أمّا أولئك الذين يظنون أن ذنوبهم عبادة و أعمالهم السيئة أعمالا صالحة، و انحرافهم استقامة، فإنّ مثل هؤلاء لا يستطيعون التعويض عن ذنوبهم، بل يستمرون فيما هم فيه إلی نقطة النهاية، فيكونون كما عبّر عنهم القرآن: بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا.
و في الرّوايات و الأحاديث الإسلامية تفاسير متعدّدة للأخسرين أعمالا، و إنّ كل واحد منها إشارة إلی أحد المصاديق الواضحة لهذا المفهوم الواسع من دون أن تحدّده،
ففي حديث «أصبغ بن نباتة» أنّه سأل الإمام علي عليه السّلام عن تفسير الآية، فقال الإمام: «كفرة أهل الكتاب، اليهود و النصاری، و قد كانوا علی الحق فابتدعوا في أديانهم و هم يحسبون أنّهم يحسبون صنعا» [يراجع نور الثقلين، ج ٣، ص ٣١١- ٣١٢.]٢.
وفي حديث آخر عن الإمام علي عليه السّلام أيضا، قوله بعد ذكر الجواب الآنف:
«و ما أهل النهر منهم ببعيد»
يعني عليه السّلام الخوارج [المصدر السّابق.]٣.
و في حديث ثالث هنا إشارة خاصّة إلی الرهبان (الرجال و النساء الذين يتركون الدنيا) و المجاميع التي ابتدعت البدع من المسلمين [المصدر السّابق.]٤.
و هناك قسم من الرّوايات تفسّر الآية ب (الذين ينكرون ولاية أمير المؤمنين الإمام علي عليه السّلام) [المصدر السّابق.]٥.
أليس الرهبان الذي يعيشون كل عمرهم في زاوية من الزوايا (في الدير مثلا) و يعانون أنواع الحرمان، و يمتنعون عن الزواج و الأكل و الملابس الجيدة، و يفضلون سكنی الدير علی كل شيء و هم يظنون أنّ هذه الحياة تقرّبهم إلی اللّه، أليس هؤلاء مصداقا واضحا للأخسرين أعمالا؟! هل هناك مذهب أو دين إلهي يمكن أن يدعو إلی خلاف قانون العقل و الفطرة، أي يدعو الإنسان الاجتماعي إلی الابتعاد عن الحياة، و يعتبر هذا العمل مصدرا للتقرب إلی اللّه تعالی؟! إنّ الذين أوجدوا البدع في دين اللّه من قبيل التثليث في مقابل توحيد اللّه الواحد الأحد، و اعتبروا المسيح بن مريم ابن اللّه، و أدخلوا خرافات أخری في دين اللّه، ظنا منهم بأنّهم يحسنون صنعا، أليس هؤلاء و أمثالهم هم أخسر الناس؟! ألا يعتبر خوارج «النهروان» من أخسر الناس، و هم المجموعة الجاهلة التي ارتكبت أعظم الذنوب (مثل قتل الإمام علي عليه السّلام) ظنا منهم أنّ هذا الأمر سيقربهم من اللّه، بل و اعتبروا أنّ الجنّة مخصوصة لهم؟! الخلاصة: إنّ الآية لها مفهوم واسع، إذ تشمل أقواما كثيرين في السابق و الحاضر و المستقبل. و الآن نصل إلی هذا السؤال: ما هو مصدر هذا الانحراف الخطير؟
إنّ التعصب القوي و الغرور و التكبير و حب الذات، هي من أهم العوامل التي تقود إلی مثل هذه التصورات الخاطئة. و في بعض الأحيان يكون التملق، أو الانطواء علی النفس لفترة معينة سببا لظهور هذه الحالة، حيث يتصوّر الإنسان أنّ كل أعماله الخاطئة المنحرفة هي أعمال جميلة، بحيث يشعر بالفخر و الغرور و المباهاة بدلا من إحساس الخجل و الشعور بالعار بسبب أعماله القبيحة. يقول القرآن في مكان آخر واصفا هذه الحالة: أَ فَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً [فاطر، ٨.]٦ و في آيات أخری، نقرأ أنّ الشيطان هو الذي يزيّن للإنسان سيئاته حسنات، و يمنيهم بالغلبة و النصر، كما في قوله تعالی: وَ إِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَ قالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَ إِنِّي جارٌ لَكُمْ [الأنفال، ٤٨.]٧.
و يقول القرآن بعد قصّة برج فرعون المعروف: وَ كَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ. و الآية تعليق علی عمل فرعون عند ما طلب من هامان أن يبني له برجا ليطّلع بزعمه إلی إله موسی كما في الآيتين (٣٦- ٣٧) من سورة غافر.