تقاطع الحريات في العراق: واقع مكتظ بالممارسات الخاطئة.. كيف نعالجه؟

الشيخ صلاح الخاقاني
زيارات:2280
مشاركة
A+ A A-

ما كان لمجتمع من المجتمعات الانسانية وهو يصنع منظومته التشريعية والقانونية أن يغفل مسألة الحرية، وذلك لما لهذه المفردة من مساس عميق بشكل العلاقة بين الفرد والمجتمع. وعلى ضوء ما يحدده الفلاسفة والمشرعون في خصوص فهم الحرية وسبل تطبيقها وما تجدّ فيه الحكومة من إلزام الناس بذلك التحديد يتسنى للمجتمع ان يحافظ على إطار عام من الاستقرار والازدهار.

  وبالنسبة للمجتمع العراقي فإننا لن نجانب الحق إذا ما قلنا ان هذه المفردة هي من أبرز ما حملته رياح التغيير التي هبت في العراق فيما بعد 2003، بعد ان كانت مغيبّة الى حد شبه تام أبان حكم النظام البائد والذي استمر لأكثر من ثلاثة عقود. ولكنها ـ وللأسف ـ قد ألقيت ـ فهما وتطبيقا ـ في مسرح الاضطراب السياسي والامني الذي عاشه العراق فيما بعد هذا التاريخ. فكان لها بذلك الدور الفعال في تفعيل الفوضى وترسيخها في مفاصل الحياة العراقية.

إن من أهم العوامل التي أدت الى اكتظاظ الساحة العراقية، فيما بعد 2003، بالممارسات الخاطئة، على صعيد الحرية، هي مخلفات الحقبة الزمنية السابقة متمثلا ذلك بـ :

  1. الدكتاتورية المرعبة التي مارسها النظام البائد وحظر الحريات ـ على اي صعيد كان ـ جعل من الحرية مادة شبه مجهولة بالنسبة للمواطن العراقي ولا يحسن استخدامها.
  2. الجدب الثقافي والحضاري الذي أصر النظام البائد على تكريسه في المجتمع العراقي طيلة سنوات حكمه الطويلة، دفع بأرباب السلوك المشين الى التحرك وفق معطياتهم السلوكية والاخلاقية من دون رادع.
  3. الفهم الخاطئ لدى الفرد العراقي ـ الخلط غير الصحيح ـ لما هو حكومي ينتمي الى الحاكم الدكتاتور وما لا ينتمي اليه، مثل الشرطي وشرطي المرور والموظف والمؤسسة الحكومية، كل هذه الاشياء صارت تعامل وغيرها صارت من وجهة نظر المواطن العراقي من توابع النظام، في حين انها من صميم ما يشكل المنظومة الخدمية للمجتمع.
  4. رد الفعل النفسي الهائل لعقود الكبت التي عاشها الشعب العراقي.  

كل هذه الاسباب شكلت ظاهرة التجاوزات القانونية والاجتماعية في المجتمع العراقي فيما بعد 2003، ولكننا ـ هنا ـ لن نغفل نقطة هامة وهي أن هذه الظاهرة قد دعمّت بشكل كبير من قبل الانفلات الامني وما انتجه من تفشي الجريمة واستباحة لحقوق الاخرين، بمعنى ان اشكالية الحرية في فهمها وتطبيقها لا تحتل إلا جزءا يسيرا من المشكلة في حين تمثل النوازع الشريرة وارباب الانحراف الجزء الاكبر وبالتالي فإن خطوات الردع والاصلاح الامني هي الكفيلة بحل الاشكالية أكثر مما يعوّل فيه على الطرح الفكري.

في حين أن ثمة إشكالية أخرى تخص الحرية، فهما وتطبيقا، ولها الاثر الواضح في الواقع العراقي طيلة ما بعد النظام البائد، هي المبنية على أساس فكري وتعتمد، في تشخيصها وعرض حلولها، على الجهود الفكرية الرصينة. وأعنى بتلك الاشكالية الحرية الدينية، أو بشكل أدق إفرازات التدين او اللا تدين على التباين العقائدي لدى العراقيين وعلى الممارسات العملية في الحياة العراقية الناجمة عن ذلك التباين.

المتدينون لهم فضاءهم الخاص والممتلئ بضرورة الخضوع لأساسيات الدين ومقدساته بالإضافة الى ممارساتهم الاجتماعية كالشعائر والمسيرات المليونية وغيرها، واللامتدينون لهم فضاءهم الممتلئ بضرورة الفكر الحر والممارسات المتنوعة كعيد الحب والكرسمس وغيرها، و لاشك ان تواجد الطرفين ضمن بلد واحد يؤدي الى تماس وتقاطع بين تلك الافرازات.

علينا، في محاولة الوصول الى رؤية واضحة ومن ثم الحل الناجع لهذه الاشكالية، ان نشخص بشكل دقيق عواملها واسبابها المباشرة وغير المباشرة والمتمثلة بـ :

  1. العامل الثقافي وتأثيره الكبير على الاشكالية حيث اننا لو رجعنا في الخلاف الديني الى عقود سابقة، كان فيها المجتمع العراقي يرتع في بحبوبة ثقافية عالية، نجده خلافا مبنيا على اساس فكري رصين، والدينيون واللادينون كانوا يديرون نقاشاتهم بوحي من قراءات فلسفية وعلمية عالية المستوى، في حين ان اغلب المنتمين الى هذا الطرف او ذاك، اليوم، يقفون على مسافة بعيدة من الدائرة الثقافية.
  2. في العقود السابقة حين كان التيار الفكري العالمي يتماشى ما يعكسه على متعلقات الانسان كالسلوك والهندام وغيرها مع ما يقره الدين، كان الديني واللاديني يشتركان بالتقيد بتلك المتعلقات والانتصار لها كقيمة عليا، في حين ان ما يعكسه ـ اليوم ـ التيار الفكري العالمي، ما بعد الحداثة وضرب الثابت، على متعلقات الانسان يتنافى مع تعاليم الدين مما أدى الى تضاد مع الدين، فربما كان الشخص غير مهتم بموضوع الدين سلبا او إيجابا، ولم يكن يهتم الا بأن يلبس او يتحرك ضمن اطار السائد ولما كان ذلك في قبالة الدين اصبح هو قبالته وضمن المعسكر اللاديني.
  3. الاسلام السياسي الذي اقتضى تخطيط القوى العالمية نشره في الدول العربية كبديل عن الاتجاه القومي الذي صنعته لهذه الدول طيلة القرن العشرين، حصر الدين بمواضيع سياسية مثل العنف وامكانية تطبيقه كنظام حكم، واسدال الستار على مواضيع انسانية واجتماعية لا حصر لها يتشكل منها الاسلام.
  4. التدين الذي ساد المجتمع العراقي في التسعينات لم ينتج عن وعي حقيقي او ايمان صحيح يرتقي بالفرد الى مراقي الاتجاه الى الله بقدر ما كان سلوكا بشريا فعلّه عاملان، الجدب الاقتصادي والتزام الدين لمناهضة السلطة المعادية له، ومع سقوط النظام البائد واستغراق العراقيين بأحلام عريضة عن التنمية والعمران وما يمكن ان يوفره بلد ثري كالعراق لا بناءه من رفاهية تعممت ـ فيما يخص الدين ـ فكرة الفصل بين الدين الذي هو علاقة بين الفرد والله وبين ما يصنع التنمية والتقدم. ولما تنكبت الاحزاب الاسلامية الحكم بنشاط اسطوري مدمر للعراق، دفع ذلك بالخلاف الديني الى حال لا ينفع فيه اي اساس فكري ومنطقي.
  5. رجل الدين العراقي، الداخل في دائرة المناصب ـ مهما كانت ضئيلة ـ متهم لا تثبت براءته، والخارج عنها ليس في الحسبان.
  6. قيام بعض السياسيين ولأغراض شخصية، باعتماد بعض التشريعات الاسلامية والقول بفرضه في المجتمع مع عدم وجود اي ارضية صالحة للقول بهذا التشريع، مما يؤدي الى اشعال فتيل التصادم الاعلامي بين الطرفين... كقرار منع الخمور مثلا.

كل هذه العوامل كوّنت علاقة مضطربة بين الديني واللاديني في المجتمع العراقي فيما بعد سقوط النظام البائد، جعلت من الجانب الفكري والعقائدي في ما يربط الطرفين مادة تفتقر الى المناخ الصحي الذي يمّكن من ابراز صورة واضحة المعالم للحرية تُعتمد في تسوية الخلاف الفكري بين ما يتبناه اللادينيون من الفكر الحر وما يتبناه الدينيون من بضرورة الخضوع لأساسيات الدين ومقدساته، وما يهمنا هنا هو الجانب العملي في تلك العلاقة وأعني الممارسات التي ينهض بها الطرفان، سيما اننا نرى اللا ديني يعتمد مفهوم الحرية في تأييد ما يدعو اليه كمسيرات عيد الحب وغيرها وايضا في الاعتراض على ممارسات الديني كالمسيرات المليونية بدعوى انها تكبل حرية الطرف الاخر وتعيقه في ممارسة حياته اليومية. 

ان القول الفصل في اشكالية الواقع العملي هي أن الافتقار الى ما يمكن من تسوية الخلاف الفكري الذي يضفي الشرعية والقانونية لسلوك هذا الطرف او ذاك، فليس في الوسع إلا ان نترك الحرية لكل طرف يراها كما يريد وبالتالي يمارس ما يريده... بمعنى ان من حق المتدين ان يقيم طقوسه وشعائره كما يشاء وللطرف الاخر نفس الحق بشرطين:

  1. ان لا يتجاوز اللاديني، بذريعة الحرية، حدود الثابت الاخلاقي العراقي.
  2. أن يراعى الموقع الجغرافي المحسوب لأي من الطرفين، بمعنى ان ليس من حق اللاديني فرض ممارساته الخارجة عما تسمح به الشريعة في الاماكن والمدن المقدسة، وله قبالة هذا ان يمارس حريته في غيرها من الاماكن مع ضرورة مراعاة النسبة العددية المؤيدة لطرف ما، أي على اللا ديني ان يرضخ لحقيقة تواجده في مدن عراقية ذات نسب عظمى ممن يتمسكون بشعائر كالمسيرات المليونية وغيرها، حيث ان ابسط تنظيرات الديمقراطية تقتضي الالتزام بحكم الأكثرية ولا تعد خضوع الاقلية استبدادا.  
مواضيع مختارة