إنها الألفية الثالثة التي تبدو فيها المعلومة متاحة أكثر من غيرها في العصور التي قد خلت، إذ يعيش المجتمع فوضى تلقي الأفكار والمعلومات من مصادر مختلفة وسط ضياع فكري بات يهدد الجميع بالانحرافات بلا استثناء. وعلى عاتق المبلغ الديني تقع مسؤولية فرز هذه الأفكار والتحذير من شوائبها، لكن وبلا شك أنه بحاجة إلى خارطة طريق توضّح له السبيل الأسلم في التعامل مع هذه المجتمعات وأي الأساليب هي الأقرب لفهمهم وإدراكهم، ولتسليط الضوء بشكل تفصيلي على كيفية توظيف قدرات المبلغ الديني في مجال الخطابة والتبليغ واستثمار الوسائل الحديثة في هذا المضمار، يستضيف «موقع الأئمة الإثني عشر» أستاذ البحث الخارج في الحوزة العلمية في النجف الأشرف، السيد حسين علاء الدين الحكيم، حفيد المرجع الأعلى الراحل السيد محسن الحكيم، والذي عُرف في الأوساط العلمية والشبابية بتصديه للرد على الإشكالات العقائدية والفكرية والثقافية، وفيما يلي نص الحوار:
موقع الأئمة الإثني عشر: هل صحيح أن فترة الألفية الثالثة أصبح فيها التبليغ الديني يعيش حالة من الركود والانكماش على حساب تمدد الخطاب الأفكار المدنية والليبرالية والعلمانية في الحواضر الإسلامية؟
الحكيم: الألفية الثالثة محكومة بقواعد العولمة وثورة الاتصالات وهي في الوقت الذي تمثل فرصة لإيصال الخطاب الاسلامي الى أبعد النقاط في العالم ترفع كل الحواجز أمام الآخر فلم يعد الأن شيء اسمه (حواضر اسلامية) بالمعنى الحقيقي للكلمة وكما تصل اليَّ أصل اليك...انها (العولمة).
علينا أن نحدد زاوية الرؤية بموضوعية وحيادية دقيقة إنه عالم واحد مشرع النوافذ أمام الجميع.. فالغلبة الاعلامية لمن يمتلك التفوق التقني والمهارات الخاصة.. فيسيطر بما يُعرف في علم النفس (بالعقل الجمعي) على تفكير الناس في كل بقاع الأرض وعلى تحركاتهم في كافة الاتجاهات. فيُكبر الصغير ويُصغر الكبير ويُقبح الجميل ويُجمل القبيح وهكذا. فعلينا كمؤمنين ان نعرف قواعد اللعبة ويتحمل كل منا مسؤوليته.. فدور المبلغ لا يكتمل إلا مع اكتمال الأدوار الاخرى.
موقع الأئمة الإثني عشر: بين الآونة والأخرى نرى أن وتيرة العزف على موضوع الطائفية والخلافات المذهبية تتصاعد، بينما نلاحظ أن هناك أطرافاً أخرى وعلى رأسهم المرجعية الدينية العليا تدعو الى الهدوء ونبذ التفرقة والتعايش السلمي بين أبناء البلد الواحد والدين الواحد، ما هو دور المبلغ الديني في تعزيز هذه الصورة؟
الحكيم: المبلغ الديني كي يكون دينيا حقيقيا عليه أن يلتزم بالأولويات الدينية للخطاب التي يحددها فقهاء الاسلام العارفون بظروف عصرهم وتحدياته، ومشكلة الطائفية مشكلة مزمنة في تاريخ الاسلام ولا يمكن لأي مبلغ أن يتجاهل النصوص الكثيرة الواردة عن أهل البيت عليهم السلام التي تؤكد على تحصين الهوية وترسيخ التولي والتبري في الشخصية وتوجب الانفتاح على الآخر في حفظ العهود والالتزام بمكارم الاخلاق، وفي طليعتها الصدق وحفظ الأمانة وانصاف الناس والاحسان اليهم، وعلى المبلغ الديني أن يتفاعل مع قضايا عصره بما تمليه عليه قيمه الدينية وقواعدها الشرعية وبدون ذلك يكون التبليغ مجرد تكرار لبعض محفوظات السلف ويؤدي الى انحسار تأثير المبلغ اننا في عصر ثورة المعلومات لم نعد اليوم بحاجة للمبلغ الاستنساخي بل نحتاج المبلغ المتفقه في دينه والواعي لعصره.
موقع الأئمة الإثني عشر: من المعلوم أن المنبر الحسيني هو أكثر وسيلة تبليغية تهتم بإيصال الفكر الديني لعموم المجتمع، لكن قد يعتبر البعض أن المنبر خاص بشريحة معينة وفي مواسم معينة، فهل من الممكن ابتكار وسائل تبليغية أخرى للوصول الى شرائح أخرى كالجامعات والنقابات وغيرها؟
الحكيم: من المفيد ابتكار أساليب جديدة قريبة من أنماط الخطاب العصري لكنها لا بد أن تكون ظهيرا للمنبر الحسيني تتزود منه وتتعاضد معه، ولا ينبغي أن تكون مهمتها منافسة المنبر وتقديم نفسها كبديل عنه فتلك منافسة خاسرة يرتكبها البعض بحمق بائس.
إن المنبر الحسيني - رغم الهنات التي يقع بها بعض القاصرين أو المغرضين من المحسوبين عليه - يقدم قضية الحسين عليه السلام التي هي خلاصة رسالة الاسلام في مواجهة التحديات، وتلك قضية ثورية حيوية في كل العصور تمنحه ديناميكية عالية في التفاعل مع الواقع، خصوصا أن المنبر يحمل زخما مشاعريا كبيرا يؤجج العاطفة الانسانية النبيلة للتعاطف مع القوي المظلوم، الأمر الذي يجعل المنبر يتوفر على عناصر جذب هائلة، ومن هنا فإن المنبر الحسيني ما زال في المقدمة وسيبقى كذلك في الافق المنظور، نعم يمكن تطوير الأداء المنبري باتجاه رصانة أكثر ومشاعر وعواطف أوفر وتشجيع البدائل على الالتزام باستراتيجيات النجاح الرئيسة التي جعلت المنبر في الصدارة.
موقع الأئمة الإثني عشر: هناك لدى المجتمعات المتعلمة اشكالية القبول بالإغراق بالغيب على حساب المعطيات المادية الملموسة ما هي رؤيتكم لذلك؟
الحكيم: لا نؤمن من الغيب الا بما يتأسس على العقل والعلم اليقيني، فلا إيمان بالغيب بلا عقلانية تستند الى المنطق والعلم، فإن بلغنا الى ذلك فإن المعطيات الغيبة التي تتفرع عليها وتنبثق منها هي معطيات علمية وعقلانية لا يسعنا ان ندير ظهرنا لها ونتعامل معها بحسية جاهلة والا فأي معنى لعلم الفلك؟! وأي معنى لعلم النانو؟! فكل معطياتها الكبيرة فوق إدراك الحواس.
إننا إذا آمنا بالله واليوم الآخر استنادا الى العقل والعلم فلا بد أن نتعامل مع ذلك بجدية تامة حتى وان عجزت حواسنا عن ادراكها.
موقع الأئمة الإثني عشر: يغيب عن عامة الناس وجود منظومة من القواعد المحكمة يستخدمها الفقيه في فهم النص الديني الذي ينتج عنه الحكم الشرعي وحتى الموقف السياسي إن وجد، فهم لا يعرفون أن الفقيه لا ينطق بكلمة من دون دليل وحجّة شرعية وأنه لا يستند في كلماته ومواقفه إلى الانفعالات والعواطف.. هل ترون أن كشف هذه القواعد وبيانها للناس عن طريق المبلغين والخطباء والحوزات العلمية أمر ممكن؟ أم أنه ينبغي أن يكون محدداً فقط بالدرس الحوزوي؟
الحكيم _ علم الفقه ليس بدعا عن باقي العلوم كي يمكن ادراك الجمهور العام لتفاصيله ولكني لا أشك في أن من المفيد جدا بيان المباديء العامة والمنهج الذي يعتمد فيها، وأيضا أؤكد على أن أبواب الدخول في علم الفقه مشرعة للجميع فمن أراد الفقه فليأته من أبوابه.
أما الدخول في التفاصيل العلمية الدقيقة وطرحها لغير المختصين دون أن يمتلكوا الأدوات العلمية الكافية لإدراك حقائقه فهو ضرب من الاستعراض أو العبث والتلاعب بعقول الناس كثيرا ما يرتكبه انصاف الفقهاء والمتمرجعون.
موقع الأئمة الإثني عشر: هل يمكن انتاج المعرفة الدينية من خلال المنظور العلماني المتحرر من العاطفة الدينية؟
الحكيم _ لدي على صياغة السؤال عدة ملاحظات سأتجاوز الحديث عنها واركز على صياغة الرؤية التي اعتقد بها.
إن العاطفة مهما كانت أصيلة ونبيلة ليست جديرة بأن تؤسس لمعرفة واعية كما أن اليقين المعرفي (الايمان) لا يقمع المشاعر الفطرية الطبيعية ولا يستثيرها بشكل شاذ بل إنه كما يعرف له الكون والحياة والمبدأ والمنتهى يعرّف ويحدد له موضوع التفاعل العاطفي ويحميه من الضلال المشاعري كما يحميه من الضلال المعرفي و كما يصونه من الانحراف السلوكي.
إنه يعيد صياغة عواطف الانسان ويهبه البصيرة فيحدد له وفق معطيات الإيمان ما يحب ويكره، وما يخاف ويرجو وما يرغب به ويزهد ومن يتولى ويتبرأ منه ومن يصادقه أو يعاديه.
موقع الأئمة الإثني عشر: أليست الأخلاق أهم من الدين؟ وفي ظل الظروف التي نعيشها أليس من الواجب على العلماء والمبلغين ان يركزوا في خطابهم الإسلامي على الأخلاق أكثر من الاستغراق في الدين وتفاصيله؟
الحكيم: بعضهم يدخلون في مقارنة ومفاضلة بين الأخلاق والتدين.
لقد فاتهم أن التدين الحقيقي هو التزام أخلاقي مع الله، فمن عرف أنه عبد لله وعرف نعم ربه عليه وجب عليه اخلاقيا أن يعبد ربه وأن يشكره ومن أهم الشكر أن يرعى حق الله في خلقه. ومسؤولية الفقه أن يقدم التعريف الدقيق للدين ويبرز الخلفية الأخلاقية له. ومسؤولية التبليغ التعبير عن ذلك بشكل متناسب مع حاجات المجتمع وظروفه. ومسؤولية الفقيه والمبلغ أيضا أن يلتزم بالمبادئ التي يطرحها عملا فذلك أبلغ في التأثير.
والخلاصة: أنك لا تكون على خلق حسن الا إن كنت متدينا ولا تكون متدينا حتى تكون على خلق حسن. أما من يرائي في الأخلاق أو في التدين فهو بلا دين وبلا أخلاق ومن ههنا دهتنا الدواهي.