1ـ أديان شفهية وتاريخ غير مكتوبة
إنّ أقدم تاريخ لاكتشاف التدوين، يعود للسومريين في حضارة وادي الرافدين، ويعتبر علماء التاريخ " اختراع الكتابة " هو ما يفصل بين عصور ما قبل التاريخ، والعصور التاريخية التي ظهرت فيها حضارات الانسان الكبرى، وهذا واضح ومعلوم، لكن السؤال هنا: ماذا عمّا قبل التاريخ؟! أعني تلك الفترة التي تبدأ من قبل نصف مليون سنة، وتنتهي إلى ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد؟! وهي فترة قد استغرقت أكثر من (99%) من حياة الإنسان الواعية، ولا تبدو الخمسة آلاف سنة التي تلتها ـ مع غزارتها العقائدية ـ إلا وهلة صغيرة([1]) هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنّ كل الأديان التاريخية التي نعرفها لا يتجاوز عمرها الأربعة آلاف سنة، وهي فترة لا تساوي شيئاً مقارنة بثلاثة ملايين سنة عاشتها الأديان التي سبقتها، ولم يكن أتباع تلك الأديان القبلية والبدائية يعرفون القراءة والكتابة.
من أجل هذا يدعوها بعض الدارسين للأديان وتاريخها بـ(الأديان الشفهية)؛ إذ يعتبر المشافهة إحدى خصائص الأديان البدائية، وعلى ضوء ذلك يدرس التجربة الاسترالية وسكانها الأصليين، وكيف أنّ زعماء تلك الأديان حتى عندما وصلتهم الكتابة والقراءة ظلوا يحافظون على معتقداتهم من انتهاكات الكتابة والقراءة([2]).
كما أنّ المعروف عن عالم الأنتربولوجيا ويلهلم شميدت(توفي:1954م) في دراسته لقبائل أقدم الأجناس البشرية ( الأقزام ) وتوصل إلى أنّها كانت تؤمن بإله خالق متعال، يعمل في الكون من خلال مندوبيه أو نوّابه([3])، وهنا ينشأ سؤالٌ آخر: كيف سنعرف هوية اولئك المندوبين وتحديد حقيقة هويتهم وحال المؤرخين هو الاهتمام بتدوين تأريخ الأقوياء، الأمراء و الملوك والسلاطين وحروبهم وبطولاتهم وأسرهم وما يدور في هذا الفلك حتى قيل: التاريخ يكتبه الأقوياء المنتصرون؟!
على أنّ كُتّاب التاريخ لا يختلفون غالباً عن بيئتهم ومجتمعهم بل هم ـ في الغالب ـ انعكاس لرؤية العقل الجمعي، فماذا كان موقف معظم الناس من الأنبياء والرسل؟! «فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا»([4])، و«كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ»([5]).
2ـ نور الحكمة من مشكاة النبوة
تركن طائفة لا بأس بها من العلماء إلى نبوة شخصيات خارج الشرق الأوسط لم تعتد البشرية على وصفها بغير الحكمة، أعني فلاسفة اليونان من أمثال سقراط وأفلاطون وأرسطو وهلم جراً، فيما يلي بعض من أولئك:
أولاً: الشريف المرتضى (توفي: 436هـ).
قال السيد رضي الدين ابن طاووس (توفي: 664هـ ): ووجدت في كتاب "ريحان المجالس" وتحفة الموانس تأليف أحمد بن الحسين بن علي الرخجي وسمعت من يذكر أنه من مصنفي الإمامية وعندنا الآن تصنيف له آخر اسمه "أنس الكريم " وقد كان يروي عن المرتضى ما هذا لفظه:
حدثني أبو الحسن الهيثم أن الحكماء العلماء الذين أجمع الخاصة والعامة على معرفتهم وحسن أفهامهم ولو يتطرق الطعن عليهم في علومهم مثل هرمس المثلث بالحكمة وهو إدريس النبي عليه السلام، ومعنى المثلث، أنّ الله أعطاه علم النجوم والطب والكيمياء ومثل: (أبرخسـي وبطليموس) ويقال: إنّهما كانا من بعض الأنبياء وأكثر الحكماء كذلك، وإنما التبس على الناس أمرهم؛ لعلة أسمائهم باليوناينة ومثل نظرائهم ممن صدر عنهم العلم والحكمة المفضلين([6]).
ثانياً: صدر الدين الشيرازي (توفي: 1050هـ).
قال عن بعض حكماء اليونان: "كانوا مقتبسين نور الحكمة من مشكاة النبوة و لاخلاف لأحد منهم في أصول المعارف، و كلام هؤلاء في الفلسفة يدور على وحدانية الباري و إحاطة علمه بالأشياء كيف هو و كيفية صدور الموجودات و تكوين العالم عنه وأنّ المبادي الأول ما هي وكم هي وأن المعاد ما هو وكيف هو و بقاء النفس يوم القيمة" ([7]).
ثالثاً: قطب الدين الأشكوري الديلمي اللاهيجي (توفي: نهاية القرن الحادي عشر).
وكتابه: (محبوب القلوب) مليءٌ بما يمكن الاستشهاد به على رأيه وشواهده عليه في المسألة، سنركز على بعدين بشكل بسريع وموجز:
أـ المطابقة بين مقولاتهم الفلسفية، وبين النصوص الدينية:
كتب الديلمي نقلاً عن فيثاغورس عن الله: أنّ وحدته عددية، وأنّه تعالى لا يدرك من جهة العقل ولا من جهة النفس... وإنّما يدرك بآثاره، وأنّ من أحب الله عمل بمحابّه، يقارن الديلمي كل ذلك بما ورد عن أهل البيت، فعن الصحيفة السجادية: لك يا إلهي وحدانية العدد، وعن الباقرعليه السلام: كلّما ميزمتوه بأوهامكم في أدق معانيه فهو مخلوق مصنوع مثلكم مردود عليكم، وبما ورد أيضاً: ما أحب الله من عصاه:
تعصي الإله وأنت تظهر حبه
هذا لعمرك في الفعال بديع
لو كان حبك صادقاً لأطعتَه
إنّ المحب لمـن أحـب مطـيع
وما في القرآن: «قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ»([8]).
ب ـ نقل رواية: أرسطو نبي جهله قومه:
وأشار صاحب (محبوب القلوب) أيضاً إلى أنّ أعظم الفلاسفة عند اليونانيين طبقة وقدراً خمسة: أنباذقلس، وفيثاغورس وسقراط، وأفلاطون، وأرسطوطاليس.
وانفرد برواية نقلها تقول: إنّ عمرو بن العاص قدم من الإسكندرية على رسول الله صلى الله عليه وآله فسأله عما رأى؟
فقال: رأيت قوما يتطلّسون ويجتمعون حلقا ويذكرون رجلا يقال له أرسطو طاليس، لعنه الله، فقال 2: مه يا عمرو! إنّ أرسطو طاليس كان نبيا فجهله قومه([9]).
رابعاً: حسن زاده الآملي: وهو من المعاصرين.
بعد أن نقل مقطعاً مروياً عن الإمام الصادق عليه السلام جاء فيه: "وقد كان أرسطوطاليس ردّ عليهم فقال: إنّ الذي يكون بالعرض والاتفاق إنّما هو شيءٌ في الفرط مرةً مرةً، لأعراض تعرض للطبيعة فتزيلها عن سبيلها وليس بمنزلة الأمور الطبيعية الجارية على شكل واحد جريا دائما متتابعا".
يعلّق الآملي: تبجيل الإمام عليه السلام أرسطوطاليس بما نطق فيه من لسان العصمة، حجةٌ على المتقشفين، الذين ليس لهم إلا إزراء العلم وذويه، بما أوهم فيهم نفوسهم الأمارة بالسوء والإيذاء، فهؤلاء بمعزل عن سبيل الولاية، وإلّا فهذا وليّ الله الأعظم، يبجّل العلم والعالم.
وكفى بأرسطوطاليس فخراً أنّ حجة الله على خلقه نطق باسمه تبجيلاً، وارتضى سيرته السنية المضيئة بأنه كان يسلك الناس إلى بارئهم من طريق وحدة الصنع والتدبير، ويوقظ عقولهم بأن الاتفاقي لا يكون جاريا دائما متتابعا وما هو سنة دائمة لا تبدل ولا تحول فهو تحت تدبير الملكوت، فكأن الأصل ما هو قبل الطبيعة وفوقها وبعدها.. "ونقل الآملي أيضاً كلام الديلمي في محبوب القلوب المارّ آنفاً دون تعليق([10]).
خامساً: ومن علماء السنة، مفتي طرابلس نديم الجسر(توفي: 1980م) في كتابه: (قصة الإيمان)، ولم يقتصـر على الأغريق، فقد رجّح كون الكثير من فلسفة الأقدمين في مصر والصين والهند هي بقايا نبوات نسيها التاريخ فحُشـر أصحابها في عداد الفلاسفة، ولعلهم من الرسل أو أتباع الرسل([11]).
وهكذا احتملت نبوة بوذا، وزرادشت أيضاً، وبالفعل يعتقد الزرادشتيون (المجوس) من أتباعه نبوته، فقد نقلتْ المرويات الفارسية نبوته وإيمانه بأهورا- مزدا (رب النور) الإله الأعظم ([12])، وهذا وارد في كوفوشيوس في الصين، و كرشنا في الهند.
وفي الطاوية (الدين الصيني الآخر التي نشأتْ مع شخصية غامضة لا يعرف حتى اسمه الحقيقي (لاو تسو)، وكتابها المقدس (طاو تي تشينغ) حقائق ملفتة جداً يمكن مراجعتها في كتب دراسة الأديان مثل: أديان العالم([13]).
ومؤخراً نشر موقع (بك ثنك) مقالاً بعنوان: البوذية: فلسفة أم دين؟
وقد جاء فيه:
"تتشابه البوذية مع الديانات الأخرى بناحية الميتافيزيقيا، ويعتبر (الابهيدارماكوسا) أحد أهم النصوص البوذية الميتافيزيقية، والتي تتضمن حديثاً مباشراً بين بوذا والآلهة"([14]).
وعلى أيّ حالٍ، من ناحية واقعية ليس بوسع أحد، القطع بعدم ارتباط تلك الأسماء بالوحي، مباشرة أو بالواسطة، واتصالهم بنبي أو ولي، وأنّى لنا القطع بعدم نبوتهم والحال أنّ نبوة النبي لا تتطلب بالضـرورة ادّعاء الإتصال بالوحي وإشهار نبوته في الناس، ما دام الغرض من بعثته متحققاً، فيدعو قومه للهداية، ويأمرهم بعبادة الله تعالى وحده، ويؤدي دوره الذي من أجله بُعث كاملاً من غير أن يعلن نبوته وإتصاله بالله عبر قناة الوحي؟!
ولايزال هناك بعض المؤشرات على صحة قول أولئك الأعلام منها مثلاً معبد أبولو في دلفي من أقدم المعابد الدينية في اليونان القديمة، يذكر أنّه كان مركزاً لنبي الوحي أبولو([15]).
3ـ من جهة أخرى أهمّ وبعيداً عن كل ذلك، فحتى لو صحّ أنّ الواقع يخلو من أنبياء في تلك البقاع، وأنّ الحقيقة المطلقة تقول: إنّ الأنبياء لم يظهروا إلا في مكان واحد، فلا نرى فيه أي وجهٍ للإنكار؛ ذلك أنّ ظهورهم في مكان معين لا يعني أنّهم لم يبعثوا إلا له، فالأنبياء بعثوا في مكان محدد، لا أنّهم بعثوا لمكان محدد، أو قل: خصّ الله الأنبياء بالشرق، ولم يخصّ الشرق بالأنبياء.
بكلمة أخرى أكثر وضوحاً: الإشكالية نتجت عن خطأ بيّن تمثّل في ربط تأثير الدين بمحيطه المكاني الذي ظهر فيه، لكنّها فكرة لكنها منقوضة بما لا يحصـى من الأمثلة والشواهد، يمكنك أن تضع هنا: الخالدون المئة، الذين وضعهم مايكل هارت في كتابه([16])، كان سقراط يقول: أنا لستُ أثينياً ولا يونانياً، أنا مواطن عالمي أو كوني .وفي الدين: خذ مثلاً الغرب الذي ارتبط اسمه بالمسيحية لاحقاً، ولا علاقة له لا بظهورها ولا بولادة نبيها، حقاً: الدين لا وطن له، لكن لا تجدُ وطناً بلا دين، بالنهاية يبقى الإنسان محدوداً في كل شيء، و في وقوفه لابد له من أرض محددة يقف عليها وينطلق منها، لا نطيل أكثر فلنا عودة .
الهوامش:([1]) الماجدي – أديان ومعتقدات ما قبل التاريخ ص10، دار الشروق، الإصدار الأول: 1997م . ([2]) هوستن سميث - أديان العالم، ص536 . ([3])المصدر السابق، ص555. ([4]) الإسراء: 89. ([5]) الذاريات: 52. ([6]) ابن طاووس - فرج المهموم في تاريخ علماء النجوم، ص 151، دار الذخائر – قم . ([7]) صدر الدين الشيرازي - الأسفار الأربعة، ج 5، ص207 ([8]) آل عمران: 31. ([9]) قطب الدين اللاهيجي - محبوب القلوب، المقالة الأولى: في أحوال الحكماء وأقوالهم من آدم إلى بداية الإسلام، ص281 وص 117، تقديم وتحقيق: د. ابراهيم الديباجي، و د.حامد صدقي، نشر: مرآة التراث، الطبعة الأولى: 1999م . ([10]) حسن زاده الآملي – هامش (2) من كتاب: كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد، للحلي، ص202. ([11]) نديم الجسر- قصة الإيمان: بين الفلسفة والعلم والقرآن . ص 36، توزيع: دار الطليعة، الطبعة الثالثة: 1969م . ([12])قصة الحضارة ج2 ص424 . ([13]) هوستن سميث – أديان العالم ص300 . ([14]) ترجم المقال للعربية بواسطة: المشـروع العراقي للترجمة: www.iqtp.org/?p=15250 . ( ([15]محاورات أفلاطون – أسماء الأماكن ص213 . ([16])عنوان الكتاب: المائة - ترتيب أكثر الشخصيات تأثيرًا في التاريخ، لعالم الفيزياء الأمريكي المعاصر: مايكل هارت، ترجم الكتاب للعربية أنيس منصور بعنوان: الخالدون مئة أعظمهم محمد، لأنّ هارت وضع أسم النبي أولاً .