إيّاك أن تستهلك المواد التي تبيعها للناس([1])
في مُؤتمر شركة آبل التعليمي([2]) في يناير 2010 قدّم ستيف جوبز جهاز "الآيباد" الى العالم قائلاً:
"ما يفعله هذا الجهاز هو أمر فوق العاديّ.. أمرٌ استثنائيّ.. إنه تجربة لا تصدّق.. إنّه مدهش في المراسلة.. إنّ استخدامه يشبه الحلم…"
ولمدة تسعين دقيقة ، قام جوبز بشرح كيف يوفر لنا الآيباد الطريقة المُثلى للنظر إلى الصور ، والاستماع إلى الصوتيات، واخذ الدروس عبر الإنترنت عن طريق تطبيق اى تيونز يو([3])، وتصفح الفيسبوك، وممارسة الألعاب، والتعامل مع الآلاف من التطبيقات، كان جوبز يعتقد أن على الجميع اقتناء اجهزة الآيباد اللوحية.
لكنّه رفض أن يسمح لأطفاله باستخدام الآيباد.
مخترع آيباد لا يسمح لأطفاله باستخدامه!
في أواخر عام 2010، أخبر جوبز الصحفي نيك بيلتون([4]) الذي يعمل في النيويورك تايمز، إن أطفاله لم يستخدموا جهاز الآيباد، حيث قال "نحن نحد من حجم التكنولوجيا التي يستخدمها أطفالنا في المنزل". اكتشف بيلتون، بعد ذلك، أن عمالقة التكنولوجيا الآخرين – غير جوبز – فرضوا قيودا مماثلة. فقد قام كريس أندرسون، المحرر السابق لمجلة وايرد، بفرض قيود صارمة على كل جهاز في منزله، معلّلاً ذلك بقوله "لأننا شهدنا مخاطر التكنولوجيا (الرقمية) بشكل مباشر". ولم يسمح أبداً لأطفاله الخمسة باستخدام الأجهزة اللوحية في غرف نومهم. اما مُؤسس منصات بلوغر وتويتر وميديم، إيفان ويليامز، فقد وفر لولديه الصغيرين مئات الكتب المطبوعة التي يُمكنهم الحصول عليها وقراءتها في أي وقت. بدلاً من إعطائهما أجهزة الآيباد اللوحية. وتتبع المؤسسة والرئيسة التنفيذية لشركة "سوزرلاند غولد كروب" للعلاقات الإعلامية، ليزلي غولد، قاعدة صارمة بعدم استخدام الأطفال الأجهزة خلال أيام الأسبوع. ولا تخفف من حدة موقفها إلا عندما يكونون بحاجة إلى أجهزة الكمبيوتر للعمل المدرسي. اما والتر إيزاكسون، الذي تناول العشاء مع عائلة جوبز أثناء بحثه في السيرة الذاتية لستيف جوبز، فقد أوضح بدوره للصحفي بيلتون: "أن أطفال جوبز غير مُدمنين على الإطلاق لهذه الأجهزة فلم يُخرج أحد منهم أي جهاز آيباد أو جهاز كومبيوتر على الأطلاق". يبدو أن الأشخاص الذين ينتجون منتجات التكنولوجيا كانوا يتبعون القاعدة الأساسية لدى تجّار المخدّرات: إيّاك أن تتعاطى من الرزمة التي تبيعها للناس.
إنه لأمرٌ يدعو للقلق، لماذا نرى ان أكبر مناصري التكنلوجيا عالمياً هم أكثر المتخوفين منها شخصياً؟ هل يمكنك تخيل الضجة التي ستحصل لو رفض الزعماء الدينيون السماح لأطفالهم بممارسة الدين؟ الكثير من الخبراء([5]) داخل وخارج عالم التكنولوجيا يشاركونني وجهات نظر مماثلة. أخبرني عدد من مصممي ألعاب الفيديو أنهم تجنبوا لعبة ورلد أوف وركرافت World of Warcraft المعروفة بشكل سيئ بأنها مُسببة للأدمان. ووصفت أخصائية نفسية في مجال ادمان التمارين الرياضية ان ساعات اللياقة البدنية الذكية خطرة – وقالت انها "أغبى الأشياء في العالم" – وأقسمت أنها لن تشتري واحدة منها؛ وقد أخبرتني مؤسِسة عيادة إدمان الإنترنت (إعادة التأهيل الرقمي) أنَّها تتجنَّب الأدوات الإلكترونية الأحدث منذ ثلاث سنوات. ولم تستخدم أبداً جرس هاتفها، وتتعمد "وضع هاتفها في غير مكانه" حتى لا تنجذب الى التحقق من بريدها الإلكتروني (قضيت شهرين في محاولة الوصول إليها عن طريق البريد الإلكتروني، ونجحت فقط عندما صدف وان اجابت على هاتف مكتبها الأرضي). لعبة الكمبيوتر المفضلة لديها هي ميست، التي تم إصدارها في عام 1993 عندما كانت أجهزة الكمبيوتر لا تزال شديدة البطيء في التعامل مع رسومات الألعاب. وقالت لي إن السبب الوحيد الذي يجعلها ترغب في لعب لعبة ميست، هو أن حاسوبها كان يتوقف كل نصف ساعة ويستغرق وقتاً طويلاً لإعادة التشغيل.
أدرك أحد المهندسين المؤسسين لإنستغرام، جريج هوتشموث([6])، أنه كان يبني محركاً للإدمان فقال "يوجد دائماً هاشتاك آخر متاح للنقر، ثم تصبح لهذا الهاشتاك حياة خاصة به مثل اي كائن حي، وقد يصيب هذا الناس بالهوس".
فالإنستغرام، شأنه شأن العديد من منصات وسائل التواصل الاجتماعي الأخرى، هو تطبيق غير محدود. اما منشورات الفيسبوك فلا نهاية لها، تنتقل خدمة نتفليكس للبرامج التلفزيونية والأفلام تلقائياً إلى الحلقة التالية من المسلسل؛ كما يشجع تطبيق تندر مستخدميه على الاستمرار في البحث عن خيار أفضل. ففي الحقيقة قد يستفيد المستخدمون من هذه التطبيقات ومن مواقع الويب، ولكنهم يصارعون أيضاً لاستخدامها باعتدال. يرى خبير أخلاقيات التصميم في غوغل تريستان هاريس أن المشكلة ليست أن الناس يفتقرون إلى قوة الإرادة؛ ولكنها تكمن في أن "هناك آلاف البشر يعملون على الجانب الأخر من الشاشة لكسر حواجز المسؤولية التي تتولاها".
خبراء التكنولوجيا هؤلاء لديهم سبب وجيه للقلق. فهم عند عملهم الى اقصى حافة من الاحتمال، اكتشفوا شيئين. أولاً، أن فهمنا للإدمان ضيق للغاية، فنحن نميل إلى التفكير في الإدمان على أنه شيء متأصل في بعض الناس - أولئك الذين نصفهم بالمدمنين، مدمني الهيروين في بيوت الخلاء الشاغرة، مدمني التدخين المتواصل([7]) للنيكوتين، مدمني العقاقير الطبية المخدرة. فوصفنا إياهم بالمدمنين يدل على أنهم مختلفين عنا نحن بقية البشر، وأنهم قد يتركوا إدمانهم في يوم من الأيام، لكنهم الآن ينتمون إلى فئتهم الخاصة. في الحقيقة يُنتج الإدمان بدرجة كبيرة بفعل البيئة والظروف، وقد عرف ستيف جوبز هذا وقام بإبعاد الآيباد عن أبنائه لأنه أدرك أنهم – مع جميع المزايا التي قد تبعدهم من ان يكونوا مدمنين للمخدرات – كانوا عرضة لسحر هذا الجهاز اللوحي. حيث ان رواد الأعمال هؤلاء يدركون جيداً أن الأجهزة التي يروجون لها – والتي صُممت لتكون غير قابلة للمقاومة – ستوقع بالمستخدمين دون تمييز. فلا توجد حدود واضحة بيننا وبين المدمنين. نحن جميعاً ننتمي الى منتج واحد أو تجربة واحدة إذا ما اقتربنا من إنشاء إدماننا الخاص.
صنارات الألفية الثانية!
اكتشف خبراء التكنولوجيا في شركة بيلتون أيضاً أن البيئة وظروف العصر الرقمي أكثر ملائمةً للإدمان من أي شيء عايشه البشر في تاريخنا. ففي الستينات من القرن الماضي، كنا نسبح في مياه فيها بضع صِنّارَات فقط: كصِنّارَات السجائر والكحول والمخدرات التي كانت باهظة الثمن ولا يمكن الوصول إليها بشكل عام. ولكن في العقد الثاني من الألفية الثانية، مُلئت هذه المياه التي نسبح فيها بالصنارات. فهناك صِنّارَة الفيسبوك وصِنّارَة الإنستغرام وصِنّارَة الأفلام الإباحية وصِنّارَة البريد الإلكتروني وصِنّارَة التسوق عبر الإنترنت وهلم جرا. القائمة طويلة – أطول مما كانت عليه من أي وقت مضى في تاريخ البشرية، ونحن نتعلم فقط قوة تأثير هذه الصِنّارَات.
فيسبوك كان ممتعاً أما الآن أصبح دافعاً للإدمان
كان خبراء شركة بيلتون يقظين لأنهم كانوا يعلمون أنهم يصممون تقنيات لا تقاوم مقارنة بالتكنولوجيا عالية الدقة في التسعينيات وأوائل الألفية الجديدة، فإن التكنولوجيا الحديثة تتسم بالفاعلية والقدرة على التسبب بإدمان يشارك مئات الملايين من الناس حياتهم في الوقت الآني من خلال مشاركات الإنستغرام، وبسرعة يتم تقييم حياتهم على شكل تعليقات واعجابات. اما المقاطع الصوتية التي كانت تستغرق فيما مضى أكثر من ساعة ليتم تحميلها اصبحت تصل الآن في ثوانٍ، وقد تبخر التباطؤ الذي كان يثني الناس عن التحميل في بادئ الأمر. فقد اصبحت التكنلوجيا توفر الراحة والسرعة وتلقائية المعالجة([8])، ولكنها توفر أيضاً تكاليف باهظة. يُقاد السلوك البشري جزئياً عن طريق سلسلة من حسابات التكلفة والفائدة الانعكاسية التي تحدد ما إذا كان سيتم تنفيذ الفعل مرة واحدة أو مرتين أو مائة مرة أو ولا مرة. عندما تتغلب الفوائد على التكاليف، يكون من الصعب عدم القيام بالأعمال مراراً وتكراراً، خاصة عندما تعزف على النوتات والأوتار العصبية المناسبة.
فالإعجاب على فيسبوك وإنستغرام يضرب أحد تلك الأوتار، كما هو الحال مع جائزة إكمال مهمة في لعبة ورلد أوف وركرافت، أو رؤية أحد تغريداتك يتم مشاركتها من قبل المئات من مستخدمي التويتر. إن الأشخاص الذين يقومون بإنشاء وتحسين التكنولوجيا والألعاب والتجارب التفاعلية بارعون جداً فيما يقومون به. يتم اجراء آلاف الاختبارات مع الملايين من المستخدمين لمعرفة أي التعديلات تعمل وأيها لا تعمل — أي الخطوط والألوان الخلفية والنغمات الصوتية التي تزيد من التفاعل وتقلل من الإحباط. مع تطور التجربة، تصبح هناك نسخة مسلّحة وغير قابلة للمقاومة من التجربة التي كانت عليها في الماضي. في عام 2004، كان الفيس بوك ممتعاً؛ في عام 2016، أصبح دافعاً للإدمان.
لقد كانت السلوكيات الإدمانية موجودة منذ زمن طويل، ولكن في العقود الأخيرة أصبحت أكثر شيوعاً، وأصعب مقاومة، وأكثر انتشاراً. هذه الإدمانات الجديدة([9]) لا تنطوي على ابتلاع مادة، فهي لا تقدم مواد كيميائية مباشرة الى نظامك الجسدي، ولكنها تنتج التأثيرات نفسها لأنها جَذَّابة ومصممة بشكل جيد. فالبعض منها قديم، مثل المقامرة وممارسة الرياضة؛ والبعض الآخر جديد نسبياً، مثل الإفراط في مشاهدة البرامج التلفزيونية واستخدام الهاتف الذكي. لكنهم جميعاً أصبحوا تدريجياً أكثر صعوبة للمقاومة.
وفي الوقت نفسه، فقد جعلنا المشكلة أسوأ من خلال التركيز على فوائد تحديد الأهداف دون النظر إلى عيوبها. كان تحديد الأهداف أداة تحفيزية مفيدة في الماضي، لأن معظم البشر يفضلون في أغلب الأحيان صرف القليل من الوقت والطاقة بقدر الإمكان. فنحن لسنا مجتهدين، واقوياء، واصحاء حدسياً، لكنّ الاوضاع قد تغيَّرت. نحن الآن نركز بشدة على إنجاز المزيد في وقت أقل الى درجة اننا نسينا استعمال فرامل الطوارئ.
التكنولوجيا الرقمية تسرق أوقات إجازاتنا
لقد تحدثت إلى العديد من اخصائيي علم النفس الإكلينيكيين([10]) الذين وصفوا حجم المشكلة، فقالت لي احداهن وهي اخصائية في علم النفس: "كل شخص أعمل معه لديه إدمان سلوكي واحد على الأقل ولديّ مرضى ينتمون الى كل المجالات: المقامرة، والتسوق، ووسائل التواصل الاجتماعي، والبريد الإلكتروني، وما إلى ذلك". ووصفت العديد من المرضى، بأن جميعهم يتمتعون بوظائف مهنية رفيعة المستوى، ويتقاضون راتباً يقدّر بمئات الآلاف من الدّولارات، لكنهم تعثروا بشدة بسبب إدمانهم. "احدى هؤلاء امرأة جميلة جداً، وذكية جداً، وبارعة جداً، حاصلة على درجتي ماجستير وهي معلمة ايضاً، لكنها مدمنة على التسوق عبر الإنترنت، وتمكنت من تكديس ديون بقيمة 80 ألف دولار. وتمكنت من إخفاء إدمانها عن كل من تعرفه تقريباً".
كانت هذه التجزئة([11])موضوعاً شائعاً. "من السهل جداً إخفاء الإدمان السلوكي - أسهل بكثير من إخفاء الإدمان على المخدرات. وهذا ما يجعلهم خطرين، لأنهم يكونون غير مُلاحظين لسنوات". وقد تمكنت مريضة ثانية، وبنفس براعتها في العمل من إخفاء إدمانها على فيسبوك عن أصدقائها. "لقد مرت بتجربة انفصال مؤلمة، ثم ظلت تتعقب طليقها السابق عبر الإنترنت لسنوات، ففي زمن الفيسبوك أصبح من الصعب للغاية أن تنتهي الأمور بسلام عندما يحدث الإنفصال". وقالت عن رجل آخر رأته يفحص بريده الإلكتروني مئات المرات في اليوم "إنه غير قادر على الاسترخاء والاستمتاع بوقته في إجازة، إنه شديد القلق، لكنه يقدم الكثير من الأشياء الكبيرة الى العالم. فلديه مسيرة مهنية ناجحة في مجال الرعاية الصحية، ولا أحد يعرف مدى معاناته".
أخبرني طبيب نفسي آخر أن "تأثير وسائل التواصل الاجتماعي كان هائلاً، لقد سيطرت وسائل التواصل الاجتماعي على أدمغة الشباب الذين أتعامل معهم بالكامل. وهناك شيء واحد اضعه دائماً في الاعتبار في اي من الجلسات هو أن: بعد خمس أو عشر دقائق من محادثتي مع شاب حول النقاش الذي دار بينه وبين صديقه أو خطيبته، فأنا أتذكر أن أسأله عما إذا كان هذا النقاش قد جرى عن طريق الرسائل النصية أو عبر الهاتف أو على وسائل التواصل الاجتماعي أو وجهاً لوجه، يكون الجواب في أغلب الأحيان هو "عن طريق الرسائل النصية أو وسائل التواصل الاجتماعي"، ولكن في روايتهم للقصة، لا يكون هذا واضحاً بالنسبة لي. بدا الأمر لي كمحادثة "حقيقية" وجهاً لوجه، أتوقف دائمًا عندها واتأمل، هذا الشخص لا يفرق بين اساليب الاتصال المختلفة بالطريقة التي أقوم بها. . . والنتيجة هي مشهد مليء بالانفصال والإدمان".
كتاب "لا يقاوم"..
يتتبع كتاب "لا يقاوم" الذي ترجمته شعبة البحوث والدراسات التابعة لقسم الشؤون الدينية في العتبة الحسينية المقدسة ظهور السلوكيات الإدمانية، ويدرس مواقع نشوئها، ومن هم الأشخاص الذين يصممونها، والحيل النفسية التي تجعلها مُلحة جدا، وكيفية التقليل من الإدمان السلوكي الخطير، فضلاً عن كيفية تسخير نفس العلم لتحقيق غايات مفيدة. إذا كان بإمكان مصممي التطبيقات إقناع الناس بقضاء المزيد من الوقت والمال على لعبة هاتف ذكي، فربما يستطيع خبراء في السياسات العامة أيضاً تشجيع الناس على ادخار المزيد لفترة تقاعدهم أو التبرع لإنشاء المزيد من المؤسسات الخيرية.
التكنولوجيا ليست سيئة بطبيعتها. عندما انتقلت أنا وأخي مع والدي إلى أستراليا في عام 1988، تركنا جدينا في جنوب إفريقيا. تحدثنا معهم مرة واحدة في الأسبوع عبر مكالمات الخطوط الأرضية الباهظة الثمن، وأرسلنا رسائل وصلت بعد أسبوع. وعندما انتقلت إلى الولايات المتحدة في عام 2004، كنت أرسل بريداً إلكترونياً إلى والدي وشقيقي كل يوم تقريباً، كنا نتحدث عبر الهاتف في كثير من الأحيان، ولوحنا لبعضنا البعض عبر كاميرا الويب كلما استطعنا. لقد قلصت التكنولوجيا المسافة التي بيننا. كتب جون باتريك بولن في مجلة تايم الأمريكية([12]) في 2016 واصفاً كيف أن الشحنة العاطفية للواقع الافتراضي جعلته يبكي:
. . ." أطلق عليّ زميل اللعب ، ايرين ، شعاع التقليص. وفجأة لم تكن جميع الألعاب ضخمة بالنسبة لي فحسب، بل أن صورة إرين الرمزية كانت تبدو وكأنها عملاق ضخم. تغير حتى صوته ودخل رأسي بنبرة خفيضة وبطيئة، أثناء تدفقه من خلال سماعات الرأس. وللحظة، عدتُ طفلاً مرة أخرى بوجود هذا الشخص العملاق الذي كان يلعب معي بمحبة. منحني هذا رؤية عميقة عن كيفية الشعور عندما أكون محل ولدي لدرجة أنني بدأت في البكاء داخل سماعة الرأس. لقد كانت تجربة نقية وجميلة ستعيد تشكيل علاقتي معه للمضي قدماً. رغم انني كنت عرضة لزميلي العملاق، لكنني شعرت بالأمان المطلق."
التكنولوجيا، في ذاتها، ليست جيدة أو سيئة من الناحية الأخلاقية، حتى تسيطر عليها الشركات التي تصممها للاستهلاك الضخم. وتصميم تطبيقات مثل منصات التواصل الاجتماعي يمكن استخدامها لتعزيز الروابط الاجتماعية الغنية وفي الوقت نفسه يمكن ان يكون تصميمها كتصميم السجائر للمدمن. إن العديد من التطورات التكنلوجية ـ للأسف ـ اليوم تشجع على الإدمان. حتى أن بولن في كلامه المتحمس عن تجربته الواقعية الافتراضية، قال إنه "كان كالمدمن المهووس".
لقد اصبحت التكنولوجيا المسيطِرة والغامرة ـ مثل الواقع الافتراضي ـ في بث الحماس في مشاعر المستهلك الجياشة حتى غدت ـ المشاعر ـ صالحة للاستغلال وإساءة الاستعمال، إلا أن هذه التكنلوجيا لا تزال في مهدها، لذا من السابق لأوانه معرفة ما إذا كان سيتم استخدامها بمسؤولية.
في كثير من النواحي، يكون إدمان العقاقير والمواد المخدرة والإدمان السلوكي متشابهين للغاية. فهما ينشّطان مناطق الدماغ نفسها، ويتم تغذيتهما من خلال بعض الاحتياجات الإنسانية الأساسية نفسها: كالمشاركة الاجتماعية والدعم الاجتماعي، والتحفيز الذهني، والشعور بالفعالية. قم بتجريد الناس من هذه الاحتياجات، وسينشأ لديهم كلا الإدمانين..
الإدمان السلوكي
يتكون الإدمان السلوكي من ستة مكونات: أهداف مُلِحّة لا يمكن الوصول إليها؛ ردود إيجابية غير متوقعة ولا يمكن مقاومتها؛ الشعور بالتحسن التدريجي والتقدم؛ المهام التي تصبح أكثر صعوبة ببطء مع مرور الوقت؛ التوترات والنهايات العالقة والتي تحتاج الى حلول؛ والعلاقات الاجتماعية المتينة. تجسد الإدمانات السلوكية اليوم، على الرغم من تنوعها، واحداً على الأقل من هذه المكونات الستة. على سبيل المثال، يتسبب الإنستغرام بالإدمان بسبب بعض الصور التي تنجح في جذب الكثير من الإعجابات، في حين تفشل بعض الصور الأخرى. فيقوم المستخدمون بالسعي لتحقيق الرقم الكبير التالي للإعجابات عن طريق الاستمرار بنشر الصور واحدة تلو الأخرى، والعودة إلى الموقع بانتظام لدعم أصدقائهم. يلعب اللاعبون ألعاباً معينة لأيام عديدة لأنهم مدفوعون لاستكمال المهام، ولأنهم شكلوا روابط اجتماعية قوية تربطهم باللاعبين الآخرين.
اذن ما هو الحل؟ كيف نتعايش مع التجارب الإدمانية التي تلعب مثل هذا الدور المركزي في حياتنا؟
لقد تمكن الملايين من المقلعين عن الكحول من تجنب الحانات تماماً، لكن المقلعين عن الإنترنت يجبرون على استخدام البريد الإلكتروني. لا يمكنك التقدم بطلب للحصول على تأشيرة سفر أو وظيفة، أو البدء في العمل، دون عنوان بريد إلكتروني. والعدد القليل المتبقي من الوظائف الحديثة التي تسمح لك بتجنب استخدام أجهزة الكمبيوتر والهواتف الذكية آخذٌ بالتناقص. التكنولوجيا الإدمانية هي جزء من التيار الحياتي السائد، وهذا ما يجعلها ذات تأثير أخطر من المواد المخدرة، فالامتناع فيها ليس متاحاً، ولكن هناك بدائل أخرى. يمكنك حصر تجارب الإدمان في احدى زوايا حياتك، من خلال مزاولة العادات الجيدة التي تعزز السلوكيات الصحية. في هذه الأثناء، بمجرد أن تفهم آلية عمل الإدمان السلوكي، يصبح بإمكانك التخفيف من اضرارها، أو حتى التحكم بها للأبد. نفس المبادئ التي تدفع الأطفال إلى ممارسة الألعاب، قد تدفعهم ايضاً للتعلم في المدرسة، والأهداف التي تدفع الناس إلى ممارسة الإدمان قد تدفعهم أيضاً إلى توفير المال للتقاعد.
لا يزال عمر الإدمان السلوكي فتياً، لكن الدلائل المبكرة تشير إلى وجود أزمة. تكون الإدمانات مدمرة لأنها تستبعد القضايا الضرورية الأخرى كالعمل واللعب بل حتى النظافة والتفاعل الاجتماعي. والخبر السار هو أن علاقاتنا مع الإدمان السلوكي ليست ثابتة. هناك الكثير مما يمكننا فعله لاستعادة التوازن الذي كان موجوداً قبل عصر الهواتف الذكية، ورسائل البريد الإلكتروني، والتكنلوجيا القابلة للارتداء([13])، وشبكات التواصل الاجتماعي، والأفلام والعروض التلفزيونية حسب الطلب. المهم هو أن نفهم سبب تفشي الإدمانات السلوكية، وكيفية الإستفادة من علم النفس البشري، وكيفية التغلب على الإدمانات التي تؤذينا، وتسخير تلك التي تساعدنا.
- من كتاب لا يقاوم - آدم ألتر
([1]) إيّاك أن تستهلك المواد التي تبيعها للناس وهو التنبيه الذي يُعتبر “القاعدة الأساسية لدى تجّار المخدّرات”!
([2]) John D. Sutter and Doug Gross, "Apple Unveils the 'Magical' iPad," CNN, January 28, 2010, www.cnn.com/2010/TECH/01/27/apple.tablet/. Video of the event: EverySteveJobsVideo, "Steve Jobs Introduces Original iPad—Apple Special Event," December 30, 2013, www.youtube.com/watch?v=_KN-5zmvjAo.
([3]) تطبيقiTunes U أحد التطبيقات للتعليم عن بعد أونلاين ووسيلة لإنشاء ومشاهدة الدورات التعليمية والكورسات من مختلف الجامعات فى العالم على جهاز الآيباد أو الأيفون.
([4]) هذه الفقرة الخاصة بالآراء الواردة من خبراء التكنلوجيا مصدرها:
Nick Bilton, "Steve Jobs Was a Low-Tech Parent," New York Times, September 11, 2014, www.nytimes.com/2014/09/11/fashion/steve-jobs-apple-was-a-low-tech-parent.html.
([5]) تأتي هذه المقتطفات من مقابلات مع فئات من بينها مصممي الألعاب بينيت فودي وفرانك لانتز، وخبيرتا إدمان التمرينات ليزلي سيم وكاثرين شرايبر، ومؤسسة مركز ريستارت لإعادة تأهيل المدمنين على الأنترنت كوزيت راي.
([6]) هذه الاقتباسات مصدرها:
Natasha Singer, "Can't Put Down Your Device? That's by Design," New York Times, December 5, 2015, www.nytimes.com/2015/12/06/technology/personaltech/cant-put-down-your-device-thats-by-design.html.
([7]) التدخين المتواصل هو القيام بتدخين عدة سجائر على التتابع دون توقف، أحيانا باستخدام جمرة السجارة الأخيرة لاشعال السيجارة التالية.
([8]) لمزيد من المعلومات حول الكيفية التي تدفع بها السرعة التقنية الإدمان السلوكي، انظر:
Art Markman, "How to Disrupt Your Brain's Distraction Habit," Inc.com, May 25, 2016, www.inc.com/art-markman/the-real-reason-technology-destroys-yourattention-span-is-timing.html.
([9]) لأغراض هذا الكتاب، اعتمدت تعريفاتي الخاصة للإدمان السلوكي، الوسواس والسلوك القهري المقترضة من عدة مصادر، ولكن على وجه الخصوص اعتمدت على الكتيب التالي، وهو عمل علمي يمكن الوصول إليه عن الإدمان السلوكي يجمع فصولاً من عشرات الخبراء:
Kenneth Paul Rosenberg and Laura Curtiss Feder, eds., Behavioral Addictions: Criteria, Evidence, and Treatment (Elsevier Academic Press: London, 2014). I also relied on: Aviel Goodman, "Addiction: Definitions and Implications," British Journal of Addiction no. 85 (1990): 1403-8. To some extent, I
adopted the definitions in: American Psychiatric Association, Diagnostic and Statistical Manual of Mental Disorders, 5th ed. (American Psychiatric Publishing: Washington, DC, 2013).
([10]) وافق أخصائيو علم النفس على التحدث بشرط أن لا استخدام أسمائهم، كانوا قلقين من أن مرضاهم قد يتعرفون على الحكايات التي نقلوها دون الكشف عن هويتهم.
([11]) التجزئة أو التقسيم : Compartmentalizationهي إحدى الدفاعات النفسية تستخدم لتجنب التنافر المعرفي، أو عدم الراحة النفسية والقلق الناجم عن وجود صراع بين القيم، والإدراك، والعواطف، والمعتقدات، وما إلى ذلك داخل نفس الفرد. تتيح عملية التجزئة لهذه الأفكار المتضاربة بالتواجد المشترك عن طريق تثبيط الاعتراف المباشر أو الصريح بها والتفاعل بين أجزائها.
([12]) John Patrick Pullen, "I Finally Tried Virtual Reality and It Brought Me to Tears," Time, January 8, 2016, www.time.com/4172998/virtual-reality-oculus-rift-htc-vive-ces/.
([13]) التكنلوجيا القابلة للارتداء هي اجهزة وادوات تقنية يمكن ارتداؤها كالنظارات المتصلة بالإنترنت، الساعات الذكية، والأجهزة المراقبة للصحة،