وقد أشارت جملة من الروايات إلى هذا المعنى نذكر منها معتبرة عبد الرحمن بن الحجاج قال: "كان أبو عبد الله (عليه السلام) قاعداً في حلقة ربيعة الرأي، فجاء الأعرابي فسأل ربيعة الرأي عن مسألة فأجابه فلما سكت قال له أعرابي: أهو في عنقك؟ فسكت عنه ربيعة ولم يردّ عليه شيئاً، فأعاد المسألة عليه فأجابه بمثل ذلك فقال له الأعرابي أهو في عنقك؟ فسكت ربيعة، فقال أبو عبد الله (عليه السلام)، هو في عنقه قال أو لم يقل، وكل مفت ضامن.
وهناك أخبار مستفيضة يمكنك الرجوع إليها في كتاب (وسائل الشيعة) ([1]). وعلى هذا نرى بأن اللغة والاصطلاح والعرف متطابقة على أن التقليد هو الاستناد إلى قول الغير في مقام العمل. فالتقليد إما أن يكون بمعنى الأخذ والالتزام، أو يكون معناه العمل استناداً إلى رأي الغير وهو العالم الجامع للشرائط.
ما معنى الاستناد الى قول الغير؟
اختلف الفقهاء في معنى الاستناد الوارد في تعريف التقليد فمنهم من عرفه بالعمل اعتماداً على قول الغير، وذهب آخرون الى انه مجرد الالتزام والأخذ بقول الغير وإن لم يستتبع عمل.
والفرق بين القولين هو أن الأول ـ العمل اعتماداً على قول الغير ـ يشترط فيه أمران:
- تحقق فعل في الخارج كأن يصلي صلاة او يصوم يوماً ونحو ذلك.
- يكون المكلف في هذا الفعل معتمداً على قول الفقيه.
فلابد من أن يكون المكلف قد فعل فعلاً مستنداً فيه الى الفقيه حتى يُعد مقلداً له، فإذا كان قد نوى تقليد المرجع الفلاني ولم يكن قد أتى بفعل معتمداً فيه على قوله فلا يعد مقلداً له.
بخلاف القول الثاني ـ وهو مجرد الالتزام بفتوى الفقيه ـ فإنه يعتبر مقلداً له حتى لو لم يكن قد عمل وفق رأيه.
ومن المراجع الذين ذهبوا الى القول الأول السيد ابو القاسم الخوئي (ره) حيث عرف التقليد بقوله: هو العمل اعتماداً على فتوى المجتهد ولا يتحقق بمجرد تعلم فتوى المجتهد ولا بالالتزام بها من دون عمل ([2]).
إلاّ إن السيد علي السيستاني دام ظله ذهب الى ان التقليد هو مجرد مطابقة عمل المكلف لفتوى المجتهد الذي يكون قولُه حجة في حقِّه وإن لم يكن معتمداً حال العمل على قول الفقيه ([3]).
منذ متى بدأ التقليد؟إن قضية التقليد لم تكن وليدة صدفة بل هناك الكثير من الأخبار التي سنأتي على ذكرها تؤكد أن الأئمة (عليهم السلام) كانوا يحثون شيعتهم على الأخذ من فقهاء أصحابهم كيونس بن عبد الرحمن وغيره، وفي خصوص نشأة هذه القضية يقول شيخ الطائفة أبو جعفر الطوسي (ره):
والذي نذهب إليه: أنه يجوز للعامي الذي لا يقدر على البحث والتفتيش تقليد العالم.
يدل على ذلك: إني وجدت عامة الطائفة من عهد امير المؤمنين (عليه السلام) والى زماننا هذا يرجعون إلى علمائها، ويستفتونهم في الأحكام والعبادات، ويفتونهم العلماء فيها، ويسوغون لهم العمل بما يفتونهم به وما سمعنا احداً منهم قال لمستفتٍ لا يجوز لك الاستفتاء ولا العمل به، بل ينبغي أن تنظر كما نظرت وتعلم كما علمت، ولا أُنكر عليه العمل بما يفتونهم، وقد كان منهم الخلق العظيم عاصروا الأئمة(عليهم السلام)، ولم يحك عن واحد من الأئمة النكير على أحد من هؤلاء ولا إيجاب القول بخلافه، بل كانوا يصوبونهم في ذلك، فمن خالفه في ذلك كان مخالفاً لما هو المعلوم خلافه([4]).
بل أكثر من ذلك فأن الشواهد التأريخية تثبت إن التقليد كان موجوداً منذ زمن النبي الاكرم (صلى الله عليه وآله)، فيقول السيد الخوئي (ره) في هذا الخصوص:
التقليد كان موجودا في زمان الرسول (صلى الله عليه وآله) وزمان الأئمة لأن معنى التقليد هو أخذ الجاهل بفهم العالم، ومن الواضح أن كل أحد في ذلك الزمان لم يتمكن من الوصول إلى الرسول الأكرم أو أحد الأئمة و أخذ معالم دينه منه مباشرة، واللّه العالم([5]). انتهى.
إذن فقد بدأ التقليد الشرعي، بوصفه ظاهرة شرعية اجتماعية، في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وبتخطيط منه، ثم بتطبيقه من قبل المسلمين بمرأى ومسمع منه (صلى الله عليه وآله) وتحت إشرافه وبإرشاده.
وتمثل هذا في الأشخاص الذين كان ينتدبهم (صلى الله عليه وآله) للقيام بمهمة تعليم الأحكام الشرعية في البلدان والأماكن التي أسلم أهلها في عصره.
ومن هذا بَعْثِه (صلى الله عليه وآله) مصعب بن عمير إلى المدينة المنورة، ومعاذ بن جبل إلى اليمن.
فقد كان المسلمون، في هذه الأماكن النائية عن مقر النبي (صلى الله عليه وآله)، يتعلمون الأحكام من هؤلاء الصحابة المنتدبين لهم والمبعوثين إليهم، ويعملون وفق ما يتعلمون منهم.
وكانوا أعني المسلمين عندما يحتاجون إلى معرفة حكم شرعي للعمل به يسألون هؤلاء ويجيبونهم ويعملون وفق ما يفتونهم به.
وهذا هو عين التقليد المقصود هنا.
(([1] وسائل الشيعة ج 27 / 220 أبواب آداب القاضي الباب السابع وكذا أبواب صفات القاضي.
(([2] منهاج الصالحين للسيد ابي القاسم الخوئي (1): ج1 مسألة رقم: 4.
(([3] منهاج الصالحين للسيد علي الحسيني السيستاني (K): ج1 مسألة رقم: 4.
(([4] عدة الاصول: ج2 / ص313.
(([5] صراط النجاة: ج1، ص16، رقم السؤال:18.