قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).
يقع الكلام ضمن الدوائر التالية:
الأولى: مفاد هذه الآية ودلالتها على حقائق شرعية وتاريخية وتربوية.
الثانية: في الإجابة على السؤال التالي: كيف ينبغي استقبال شهر رمضان وكيف يمكن جعله مناسبة للتغيير؟
الدائرة الأولى: بالتدبر في الآية تنكشف أمامنا الحقائق الأربع التالية:
فريضة إلهية..
الحقيقة الأولى: إن الصيام فريضة إلهية واجبة وقد دلت الآية على هذا الحكم بصراحة ووضوح حيث عبرت عن ذلك بقولها: كتب عليكم الصيام، فبتعبير الكتب وذكر متعلقه اتفق الجميع على صراحتها في تشريع حكم الصيام وأنه الوجوب.
قال القطب الراوندي في كتابه (فقه القرآن) ج1 ص ۱۷۳: "فقوله (كتب عليكم) يقتضي الوجوب من وجهين: أحدهما (كتب)، وهو في الشرع يفيد الايجاب، كما قيل المكتوبة في فريضة الصلوات. والثاني (عليكم) لأنه يبنى على الايجاب أيضا، كقوله «ولله على الناس حج البيت». وإذا جمع بينهما فالدلالة على الايجاب أوكد".
وكون الصيام فريضة شرعية فهذا يعني أن لها حقيقتها الشرعية وحدودها وضوابطها من حيث شروط الوجوب والصحة وغير ذلك كما لا يخفی.
الصيام فريضة سائدة
الحقيقة الثانية: إن فريضة الصيام ليست من اختصاصات هذه الأمة بل هي فريضة كانت سائدة وجارية في الأمم السابقة كذلك وهو ما يكشف عن أهميتها ومنزلتها في التشريع الإلهي عموما. وهو المعنى الواضح بل الصريح من قوله تعالى: كما كتب على الذين من قبلكم، فأصل الصيام كفريضة إلهية كان موجودا في الحياة الدينية لمن تقدم على هذه الأمة من الأمم السابقة وليست الآية في معرض البيان لأكثر من ذلك على ما هو الظاهر منها.
قال الشريف الرضي في رسائله: «فأخبر بأن الصوم المكتوب علينا نظير الصوم المكتوب على من قبلنا وقد علم أنه عني بذلك أهل الكتاب".
أقول معقبا على كلامه قدس سره: أنه إذا ما علمنا بأن المراد بأهل الكتاب هم اليهود والنصارى والمجوس حق لنا السؤال عن وجه تخصيص الشريف الرضي قوله تعالى: وكما كتب على الذين من قبلكم بأهل الكتاب دون سواهم إذ لم يظهر لنا وجهه إلا أن يريد بأهل الكتاب في كلامه مطلق الرسالات الإلهية وهو خلاف الاصطلاح وما هو ظاهر من كلامه.
الهدف من الصيام..
الحقيقة الثالثة: في الآية تنصيص على أهم العلل أو الحكم التي يمكن أن تتحقق في الحياة الفردية أو الاجتماعية من وراء التمسك بفريضة الصيام وليست تلك الحكمة الجامعة إلا التقوی.
قال تعالى: ولعلكم تتقون ويبدو ثمة اتفاق مقطوع به بين أهل العلم بأن هذا في الآية من باب الحكمة لا العلة المنصوصة مما تعارف بينهم من دوران الحكم معها وجودا وعدما.
والتقوى هي صفة نفسية سلوكية تتحقق بإتباع هدي العقل وحكم الشرع وهما الضمانة للسلامة من كل آفة.
ولا يخفى دور الصيام في تحصيل ذلك وإضافته للشخصية.
الحقيقة الرابعة: إن للصوم مدخلية قوية في تعميق روح الإيمان وترسيخ دعائمه في الشخصية و بالتالي بلورة الإرادة وصقلها وجعلها أكثر قوة وصلابة في وجه تحديات الحياة و مشكلاتها الكبرى.
حتى ورد في تفسير الصبر الوارد في قوله تعالى: (واستعينوا بالصبر والصلاة.. بأنه الصيام[2]).
والأمر هذا وان كان وجدانيا إلا أن توجيه الخطاب هنا للمؤمنين في معرض تكليفهم بفريضة الصيام فيه دلالة جلية على ثبوت هذه الحقيقة في العلاقة بين الصيام والإيمان ودور الصيام في ترسيخه وتشييد دعائمه!. قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ).
وقالت فاطمة الزهراء عليها السلام في خطبتها العصماء: «فرض الله الصيام تثبيتا للإخلاص»[3]. ولا يخفى على المتدبر ما وراء كلمة تثبیتا» من دلالة على المعنى المذكور.
الدائرة الثانية: كيف نستقبل ونجعل من شهر رمضان منطلقا للتغيير؟
يمكن جمع أطراف الإجابة على هذا السؤال المزدوج في النقاط التالية:
أولا: الاستعداد النفسي المسبق له وذلك بالالتفات إلى أهميته وقيمته وآثاره الدينية والحضارية.
وهو ما قد قام به نبي الإسلام في خطبته المشهورة التي ألقاها في أواخر شهر شعبان أي قبيل حلول الشهر الفضيل بأيام وكأنه أراد بذلك أن يهيئ نفسية المسلمين لاستقبال هذا الشهر العظيم. ومن جملة ما قاله في خطبته تلك: «أنه قد اقبل علیكم شهر الله شهر الرحمة والمغفرة والرضوان شهر دعيتم فيه إلى ضيافة الله أنفاسكم فيه تسبيح ونومكم فيه عبادة... ».
فينبغي الالتفات إلى معنی کون هذا الشهر شهرة استثنائية کمناسبة إلهية وأن التعامل معه ينبغي أن يكون على هذا الأساس.
ثانيا: الإحاطة الضرورية بما لهذه الفريضة الدينية الهامة من أحكام شرعية مما قد ذكره الفقهاء في رسائلهم العملية الميسرة فالاطلاع على أحكام الصيام والتعرف على شروطه وحدوده من شانه أن يعطي المكلف البصيرة الواضحة والاطمئنان النفسي بأنه على الجادة في امتثاله الشرعي لهذه الفريضة.
ويزيد هذا الأمر أهمية وضرورة تأكيد الفقهاء على مسألة وجوب تعلم كافة المسائل التي يبتلي بها المكلفون في كل باب من أبواب الفقه)[4].
ثالثا: النظر في مقاصده وأهدافه کفريضة دينية تنطوي كسائر الفرائض الدينية الأخرى على الكثير من الحكم والمصالح والمقاصد العليا التي من شأن النظر فيها والبحث عنها والإحاطة بها أن تجعل المكلفين أكثر وعيا بأبعاد ما هم ممتثلون له و قائمون به وهو ما يمكن تحقيقه باتباع الآليات التالية:
- التأمل الوجداني باعتبار أن الصوم تجربة شخصية لكل مكلف.
- النصوص الدينية كتابة وسنة. - النظر في أحوال الناس ومدى انعكاسات هذه الفريضة على عموم حياتهم.
- مراجعة بعض الكتابات والدراسات في هذا الشأن.
رابعا: الاطلاع على الآثار الدينية والحضارية للصيام في نهضة الأمة وقدرتها على مواجهة التحديات الكبرى وذلك على ضوء التاريخ الإسلامي والتاريخ الحديث.
فعلى سبيل المثال:
استحضار وتأمل الأحداث الكبرى التي عصفت بالمسلمين الأوائل في مثل هذا الشهر وكيف أنهم استطاعوا بمعنوياتهم العالية أن يحققوا أكثر من نصر وفتح كما حدث لهم في معركة بدر الكبرى ويوم دخلوا مكة فاتحین ورايات النصر ترفرف على رؤوسهم.
وكلا الحادثتين قد وقعتا في شهر رمضان.
خامسا: الاستغلال الكامل لأجواء هذه المناسبة في إحداث التغييرات اللازمة في شخصياتنا كل بحسب وضعيته وأحواله وما يجده في نفسه من الضعف والحاجة.
فإن الشقي الشقي من حرم غفران الله في هذا الشهر الفضيل وهو لا يكون إلا بإضاعة هذه الفرصة التي لا تقدر بثمن.
ومن جملة السبل إلى ذلك ما يلي:
- تخصيص وقت أو أوقات للبرامج الروحية (كقراءة القرآن
والدعاء والصلوات).
- تخصيص بعض الوقت في اليوم أو الليلة للمراجعة الذاتية
ومحاسبة النفس وبالذات فيما يتصل بحساب الأولويات والشأن الشخصي العلاقات العائلية والاجتماعية وتربية الأولاد.
- المشاركة والمساهمة في إصلاح الشأن العام كل بحسب إمكانياته وظروفه ووقته كالحضور والدعم المعنوي والمادي وما أشبه ذلك.
اقتراحان
وهنا أقدم الاقتراحين التاليين:
الأول: مدارسة الخطبة النبوية التي خطبها نبي الإسلام في آخر شهر شعبان وقبيل شهر رمضان فإنها الخطبة الأكمل فيما يتعلق بفضيلة هذا الشهر الفضيل وما ينطوي عليه من أسرار وحكم
الثاني: إشاعة أجواء المجالس القرآنية ذات الصبغة التدبرية إن جاز التعبير فإنها الخير كله ومن شأنها أن تجعل المجتمع أكثر ارتباط بالقرآن وبالتالي أكثر رشدة في وعيه وحركته.
وفي الختام ينبغي التأكيد على أنه لا ينبغي أن ننسى الدعاء الخاص لإمامنا صاحب العصر والزمان عجل الله فرجه الشريف وذلك بأن نوطد علاقتنا به في هذا الشهر الفضيل بالدعاء له والتوسل به واستلهام معاني الخير من نفحات وجوده المبارك.
السبع الخصال:
قال رسول الله داد: اما من مؤمن يصوم شهر رمضان احتسابا إلا أوجب الله تبارك وتعالى له سبع خصال:
أولها: يذوب الحرام في جسده. والثانية: يقرب في رحمة الله عز وجل.
والثالثة: يكون قد كفر خطيئة آدم أبيه.
والرابعة: يهون الله عليه سكرات الموت. والخامسة: أمان من الجوع والعطش يوم القيامة. والسادسة: يعطيه الله البراءة من النار. والسابعة: يطعمه الله من طيبات الجنة»[5].
[1] خلاصة محاضرة ألقيت في منتدى الإمام الجواد عليه بالقطيف في آخر جمعة
من شعبان لعام 1430ه (۲) سورة البقرة آية: ۱۸۳.
[2] انظر: غنائم الأيام ج ص ۲۸
[3] الوافي، ج2، ص: ۱۰۹۵ - الفيض الكاشاني.
[4] لاحظ: التنقيح في شرح العروة الوثقیج ۱، ص: ۳۰۱ - الخوئي السيد أبو
القاسم الموسوي (ت 1413 ه).
[5] من لا يحضره الفقیه ج ۲ ص 74 الشيخ الصدوق محمد بن علي بن بابویه القمي (ت ۳۸۱ه)
بن علي بن بابویه